ينظر كتاب "الهوية والسرد / دراسات في النقد الثقافي" الصادر في المنامة عن مركز الشيخ ابراهيم للثقافة والبحوث للناقد البحريني نادر كاظم الى السرد بوصفه أحد مكونات الهوية، فالكاتب يقرأ الهوية باعتبارها سرداً، فهي لا تتحقق الا في السرد وبواسطته. ويكشف الكتاب الذي يتضمن مقالات ودراسات نشرها الكاتب في عدة دوريات عن ناقد تميز في معالجته لدلالة حضور"السرد"الذي يتناوله متجاوزاً دلالته التقنية التي تحصره في أشكال السرد التخييلي المتعارف عليها كالرواية والقصة والملحمة ليعبر عن مفهوم انطولوجي أوسع، يكون السرد معه ليس هو قرين الوجود فحسب، بل هو الشرط الضروري لذلك الوجود، مؤكداً ان الطبيعة السردية هي التي تميز الوجود الانساني عن وجود سائر المخلوقات. وتأسيساً على هذا التصور الانطولوجي للسرد يجعل المؤلف من"النقد الثقافي" المنطلق الرئيس في القراءة والتحليل بأمل انجاز قراءة تربط النصوص بالممارسات والأفعال والقيم والمعتقدات والمؤسسات والكيانات الثقافية ومختلف الخطابات الفاعلة في الثقافة التزاماً بمقولة رولان بارت التي ترى"تفكيك علامات العالم مقاومة لبراءة الأشياء"، وبالقياس على هذه المقولة فإن كاظم يرى في النقد الثقافي"نقداً مشاكساً"لمفاهيم"براءة الأشياء". ويدور الجانب الاكبر من الكتاب حول مدار النظرية النقدية ويشتبك على نحو خاص مع مساهمات قدمها محمد مفتاح وعبدالله الغذامي وعبدالله ابراهيم حول"السرديات أو النقد الثقافي". ويخصص المؤلف الفصول الاولى في كتابه لقراءة التحولات التي أفرزها استخدام مصطلح"التناص"في حقل النقد الأدبي، مشيراً الى أن فكرة التناص تقوض بالدرجة الاولى فكرة"العمل المكتمل والمكتفي ذاتياً"، الذي لا يحيل الا على ذاته المحدودة بحدوده ويلاحظ أن الهوس بالنص والتناص قاد النظرية الادبية الى عزل النص عن أشكال تورطاته بالعالم، واندماجاته"الدنيوية"في علاقات القوة والسلطة وعالم المؤسسات والأحداث والمجتمعات، الأمر الذي احدث نقلة نوعية من"النص"text الى الخطاب"discourse أو الممارسة الخطابية وهذه المهمة اضطلع بها النقد الثقافي. ويرفض المؤلف الأوهام التي اخترعها الجماليون حول"استقلالية النص المطلقة" وما تناوله البنيويون في شأن"حصر امتدادات النص في علاقاته النصوصية". ويستشهد أكثر من مرة بمقولات ادوارد سعيد عن ضرورة"سكن النص في الفضاء الثقافي أي الوجود في العالم أو"الدنيوية"بتعبير سعيد و"بروتوكولات التورط"بتعبير آخر صكه فنست ليتش. وسعياً نحو"توسيع مفهوم النص"يقبل كاظم باقتراح آخر تقدمه دراسات النقد الثقافي وهو"مفهوم الدوائر الثقافية"الذي يقترب من اقتراحات رواد المدرسة التاريخانية الجديدة، حيث الايمان بأن"الخطاب الاجتماعي"بما قد يتضمنه من وثائق وأرشيفات مشحون أساساً بالطاقات الجمالية، وانسجاماً مع هذه القراءة فإن الادب قد يشمل الكتابات التي تعتبر ممارسة اجتماعية،"العمل الأدبي هو كل ما حولنا"كما يقول أحد رواد التاريخانية الجديدة اذ يساوي بين الأدب والخطاب الاجتماعي". وينتقل المؤلف بعد ذلك لمعالجة مفهوم"القراءة الثقافية"والوسائط التي تحكم علاقة القارىء بالنص. والقراءة الثقافية التي يقصدها هي العلاقة التي تنشأ بين القارىء وبين كل ما يمكن أن يكون موضوعاً للمعرفة والفهم والقراءة ، من نصوص، وبشر، وعادات وتقاليد، وأزياء ورؤى، سواء كانت تنتمي الى ثقافته أو الى ثقافات أخرى. وهذه القراءة الجديدة محكومة بما يسميه عبدالله الغذامي"الأنساق الثقافية"التي تعمل كآليه من آليات الهيمنة على تفكيرنا وسلوكنا. ويربط المؤلف بين ممارسات تلك الانساق الثقافية وممارسات"الاجهزة المهيمنة"التي تلعب الدور الرئيس في تشكيل"الهوية". ويستعرض في هذا السياق أطروحات لوي ألتوسير حول"دور أجهزة الدولة الايديولوجية"وأطروحات ميشيل فوكو حول"أنظمة ومؤسسات الانضباط". ويرى كاظم أن خطورة أجهزة التشكل الايديولوجي هذه تأتي من كونها وسيلة من وسائل الهيمنة التي تجتهد من أجل تشكيل"هوية واحدة"متجانسة، وحتى اذا قامت هذه الاجهزة بالاقرار بالاختلافات الثقافية فإنه الاقرار الذي يتضمن الإعلاء من شأن هوية معينة وإقصاء بقية الهويات. وقد تلجأ بعض تلك المؤسسات أو الاجهزة الى ممارسة شيء من"الكذب الثقافي"لصوغ هذه"الهوية"عبر طقوس تخليدية لا تهدف فقط الى اضفاء المشروعية على وجودها وانما تسعى الى ادماج الأفراد في هوية ثقافية واحدة وموحدة تعيد انتاج نفسها بالتكرار في ظاهرة يسميها بول ريكور"الدين العلماني"بحيث تكون كل جماعة بحاجة الى نوع من"المقدس المدني"المطبوع بكل الحماس التبجيلي اللازم. والنقد - بحسب المؤلف - مطالب اليوم بمساءلة تلك الاجهزة والمؤسسات اذ لم يعد سؤال النقد يدور حول القيمة الجمالية للأدب والفن وانما حول مصادر تلك الجمالية فيما بات يعرف ب"النقد المؤسساتي"الذي يعنى بالكشف عن دور المؤسسة العلمية والثقافية في توجيه الخطاب والقراءة نحو نماذج وأنساق وتصورات يتأسس معها الذوق العام. وفي القسم الثاني من الكتاب والذي يحمل عنوان"مدار الممارسة"يقدم المؤلف، انطلاقا من المفاهيم التي أرساها في القسم الأول، قراءات تطبيقية حول أعمال ادوارد سعيد التي خضعت لما يسميه"القراءات الاستعمالية"قاصداً قراءة حازم صاغية ومهدي عامل وصادق جلال العظم لكتاب:"الاستشراق"كما يقرأ كاظم الأعمال الروائية للكاتب البحريني فريد رمضان كنموذج للسرد الذي يطرح مشكلات "الهوية"على ضوء العلاقة بين الرواية والتاريخ. كما يقرأ دراسة حول نص"السيرة الهلالية"، انطلاقاً من مقولات بول ريكور التي تؤكد أن الهوية تكون عرضة للتحبيك، فثمة جماعات لا تتمثل وجودها التاريخي الخاص إلا من خلال سردها الخاص أو "تحبيكها"لتاريخها الثقافي، وهذا التحبيك هو - في المقابل - ما يدعم هويتها أي هو ما يكون هويتها السردية. والسرد كما يقول الكاتب هو مكون"الهوية"التي هي بدورها نتاج عملية تشكيل مستمرة و"سرد الهويات"كما يراه في دراساته التطبيقية ليس قصاً محايداً للوقائع والشخصيات وانما هو قص متورط في قلب الصراع، ذلك أن سيادة أية هوية أو سردية أو حبكة ثقافية تأتي على حساب انحسار هوية أو سردية أخرى. وما الصراع الدائر في العالم الآن إلا صورة من صور صراع"السرديات".