دار الحديث هادئاً بيننا، على مائدة صديقي باسم. وكان الطعام لذيذاً. كان الكلام عن همّه في إنتاج الفيلم الذي يحضّره. وانتقلنا إلى أهمية المعاناة في صوغ الأحداث والمواقف ونسج العلاقات... وتقريبها من الواقع. ضحكنا فجأة إذ تبيّن لنا أن المعاناة هي من صلب المهنة في ناحيتنا من العالم، بينما الاحتراف هو الطريق إلى الإبداع في أماكن أخرى من العالم. فما هي معاناة جايمس كاميرون عندما أنجز فيلم"تايتانيك". لقد نجح ربما في نقل مأساة أو معاناة الغرقى، فيما كان هو محاطاً بالأموال وحشد من الفنيين والممثلين... ثم توقّف باسم عن الكلام وأطرق مفكّراً وتراجع عن صحنه، متهالكاً على الكنبة، وقال بصوت متهدّج إنه أضاع أربع سنوات من عمره، بسبب المرض. أصيب صديقي الشاب بفيروس أعماه طوال تلك المدة."في النهار كنت أرى غمامة، وظلمة دامسة في الليل"، قالها بحسرة، مضيفاً أنه لم يكن يرى ابنه عندما يحمله ويتلمّسه ليشعر بفيض الحنان. وعبق وجه الصديق وكأنه يمرّ بمحنته الآن. شعرت بالحرج وتوقّفت عن الطعام، ورحت أصغي إليه. ثم وجدت نفسي أسأله عمّا كان يفعل وهو أعمى، كيف كان يسير ويأكل ويشرب. فأوضح لي أن أصدقاء كانوا يعودونه ويسهرون عليه. ومنهم من كان يرافقه في نزهاته سيراً ليحرّك جسمه، فالحركة مهمة للغاية، على ما نصحه الطبيب. وبعض الأصدقاء والأقارب كان يساعده في تناول الطعام... ثم تذكّر، بشيء من المرارة، أنه لم يكن يقوى على عمل أي شيء وحده. وتمتم اعتذاراً من كل الذين أحاطوه بعنايتهم، وكأنه كان يرفض التعوّد على حالته. وأمضى باسم أوقاتاً طويلة في الفراش، ينتظر عودة ابنه من المدرسة ليعانقه."فكلما ضممته إلى صدري، كنت أتمنى لو أراه". حدث ذلك لباسم منذ 12 سنة، وعانى ما فيه الكفاية. وخلال الحديث، لم يأت على ذكر زوجته، وأنا لم أسأله. خفت أن أحرجه وأزيد الأمور تعقيداً. فقط، راودتني فكرة واحدة، أن الرجل يتذكّر، بألم، أمراً من الماضي وهو الآن صحيح البصر. ثم أبديت إعجابي بكفاحه ضد المرض وعناده الذي جعله يتغلّب وينتصر عليه. فسألني والحيرة بادية عليه:"هل تراني منتصراً فعلاً؟". عجيب أمر باسم: يطرح هذا السؤال بعد سنوات على معافاته. فهل لا يزال عقله تحت تأثير أربع سنوات من العمى؟ اللحظات التي تهدد حياتنا تبقى تغافلنا طوال حياتنا. ومهما حاول الطبيب التقليل من شأن المرض، لا ينفك الشخص المتوعّك عن التفكير في أن وضعه سيئ. فيفتر نشاطه ويكلّ عزمه. وهذا ما حصل لرياض الذي أصيب بداء السكري فوقع في غيبوبة قصيرة. وراح من بعدها يتردد على معالج نفسي لكي يتخطى الصدمة. كان يشعر بنفسه حياً وميتاً في آن معاً. ورياض أستاذ في الفلسفة ويهتم بالتحليل النفسي. ولم يسعه، بعد سنوات من تعافيه جسدياً إلاّ أن يقبل بما حصل له، فأقلع عن تناول العقاقير المهدئة، فجأة ومن دون سابق إنذار. شفاه عقله. المرض يصيب الإنسان بالضعف. ويسعى الضعيف إلى التعافي عندما يكون طريح الفراش. وعندما يتعافى يتوسّل العلم ليعرف ما الذي حصل له. ومع أن أحداً لا يحب أن يصيبه مرض أو داء، ما أدركنا لولاه أهمية العافية وخطر فقدانها. والوقاية خير من العلاج، لكنها وحدها لا تكفينا شرّ الأمراض.