تتوارد رواية "جرف الخفايا" لعبدالحفيظ الشمري، مع رواية عبده خال "الموت يمر من هنا" على تشييد عالم سردي للاستبداد، ينحصر في مدينة أو قرية نموذج، وتتراتب العلاقة فيها، هرمياً، إلى"السيد"الذي يبقى في الروايتين مغيباً عن المشهد السردي، ومحاطاً بالغموض والتعالي الذي يقابل تماماً، مساحة القاعدة المغلوبة والبائسة التي تتناوب القمع والعسف والتدجين لها السجون والسياط والأساطير والخطب والشعارات... وتحكم القبضة عليها شبكة الجواسيس والمرتزقة. الاستبداد دوماً, ليس فرداً يعسف الناس ويتسلط عليهم, وإنما هو بنية علاقات متشابكة تحمل الضحية دوراً ما في إنتاجه بقدر ما تحمل دور التلقي له والخضوع. ولهذا تغدو مجتمعات الاستبداد قرينة الانغلاق والعزلة وقرينة النفاق والتكاذب. فالانغلاق يكرس الثبات والتكرار والجمود, وهي نقائض التجدد والتغير والحركة التي تستلزم وعياً مضاداً لما يخلقه الاستبداد في المجتمع من وعي, والنفاق حال انفصام تجافي الصدقية والصراحة التي يخرج بها المجتمع من ظلام الجهل إلى نور المعرفة, ومن ليل الصمت إلى نهار القول وشمس الكلام. "قرية السوداء"لدى عبده خال, فضاء مغلق، إذ تقع في ركن منزو من أرض غبراء, وقبلها أحراج لا يمكن تخطيها. وأضاف عبده خال إلى هذه العزلة الطوبوغرافية, حرساً وقيوداً اجتماعية وثقافية تقترن بإيمان القرية بالثبات, والسوادي الذي يسوم القرية النكال والذل ويغلق عليهم منافذ الرحيل هو الوجه الآخر للسيد"راعي القضبة"في قبره الذي تخضع له القرية، وأقسم أنه لا يدخلها أو يخرج منها إلا هالكاً, إضافة إلى"الشيخ موسى"الذي يحذّر في خطبه من اجتياز الأحراج, والوصية المتوارثة بتحمل بؤسها, وطاعة عاملها, وذلك كله هو السبب والنتيجة التي آلت بالقرية إلى الارتياب في الغرباء, وأسلمتها إلى الصمت واجترار الحكايات القديمة والأقاويل المكرورة. أما مدينة"جرف الخفايا"عند عبدالحفيظ الشمري, فهي على لسان الشخصيات:"أم الغبار والخفاء والأوهام"وهي"الغبراء"وعلاقتهم بها هي علاقة السجناء بالسجن. ويتضافر الحدث الأساس في الرواية, وهو اختفاء"صقر المعنى"بغموضه مع تواتر أوصاف الخفاء والعتمة والتناقض التي تعيشها المدينة, فظاهرها غير ما يجري في الباطن, والأسماء صيغ مبدلة من الأسماء الحقيقية, وجنود"لحيّان الأجرب"والعسس يكتمون أنفاس المدينة. ولا تختلف بنية الزمن, في تجسيدها الانغلاق عن المكان, في الروايتين كلتيهما. إذ يأتي السرد من وجهة نظر الشخصيات، كلاً على حدة, فلا يغدو الزمن خطاً أفقياً بقدر ما يغدو دائرة تنتهي حيث تبدأ وتبدأ حيث تنتهي، وأحياناً هي دائرة حلزونية من خلال الاسترجاع, بالانطلاق من لحظة حاضرة والعودة إليها. وإذا استثنينا فصلاً تمهيدياً يهيمن عليه الراوي العليم في"جرف الخفايا"، فإن استحالة شخصيات الروايتين إلى رواة لهما، ومن ثم تعدد الرواة يعني تعمد إيجاد حال الكشف والفضح والإعلان في اتجاه مضاد لحال الانغلاق والستر والكتمان, لكنها ليست حال عدد وتعدد إلا على مستوى الشكل, ولهذا تؤول وجهة النظر في الروايتين إلى ما يشبه وضع المرايا المتقابلة التي تضاعف من معنى الحجز للزمن مثلما الحجز للمكان والشخصيات. هذه الشخصيات - الرواة هي, وظيفياً, العامل - الذات, بمصطلح غريماس, الذي يواجه العامل - المعارض, أو"الشرير"بتسمية فلاديمير بروب. وفي حين يغدو المعارض تجسيداً عارياً لتسلط مستبد وبالغ العنف السوادي/ لحيّان الأجرب، فإنه تجسيد مركب لطيف من الممثلين له الذين تندرج أدوارهم في مضاعفة سلطة الاستبداد ومنافقتها, تلبية لمصالح ذاتية محدودة, أو رضوخاً للخوف الذي ورثوه. أما العامل الذات فهو ذو صفة ثقافية وفنية الشاعر, المغني, المفكر, المعلم, الرسام في"جرف الخفايا"وصفة هامشية وكادحة في"الموت يمر من هنا". وهنا يبرز الاختلاف واضحاً، سردياً إذ يستسلم العامل الذات, بصفته المتنورة, لدى عبدالحفيظ الشمري للعزلة, من خلال اجتماعهم"الهامس"مسايرة لحال المدينة في"عرين السباع"وهي الشقة التي أطلقوا عليها هذا الاسم"لكي يتغلبوا على رعبهم", في حين يواجه الكادحون والمهمشون, لدى عبده خال, القمع والتجهيل والمحاصرة والجنون, بملحمة بؤس وعذابات تنتهي ببعضهم إلى موت فاجع وتترك بصمة التنكيل والتجرد من الإنسانية على أجسادهم المكوية بالنار أو المبتورة الأطراف! النخبة الثقافية يعوقها الاستبداد عن الاختيار، عن الرغبة، أي عن فضاء الحرية. والكادحون والمهمشون يعوقهم الاستبداد عن الضرورة، وعن الكرامة والوجود الإنساني الآمن. اجتماع النخبة الثقافية مع المهمشين والبسطاء في مواجهة الاستبداد, يقصد الدلالة على ما يعنيه الاستبداد من احتكار للحرية، أي للفن والإبداع والعقل والمعرفة والأحلام، ومن احتكار للضرورة، أي للخبز والماء. فالاستبداد في العمق, هو مواجهة مع الحياة. وعلى رغم ما تشتمل عليه الروايتان من قدرة على إثارة أحاسيس الأسى والإشفاق، وتحفيز طاقة القراءة باتجاه التأمل لمأساة الإنسان وشقائه ببعض غرائزه البدائية، فإن الذاتية تستبد بخطابهما, سواء بتناسخ أو تشاكل الملفوظ الناقم للرواة - الأبطال الذين يؤول دورهم إلى العامل - الذات, أم شيوع جرعة زائدة من اللغة الشعرية ذات المجازية المترفة, وأحياناً نبرة وعظية تفيض بما يجافي موقف الفعل وطبيعة الشخصيات ومستواها. وفي"جرف الخفايا"تحديداً، قدر عال من تجريد"الاستعارة" أي الإشارة إلى ما يدل على المستعار له، الأمر الذي يؤكد منحى تسجيلياً يلغي إنتاجية المعنى. *كاتب سعودي.