تحكمت ثنائية الإصلاح والتغيير في تفكير المعارضين والمثقفين السياسيين السوريين طوال السنوات الست أو السبع الماضية. وراء تعارضهما الظاهر، تشترك المقاربتان كلتاهما بالانشغال بمسألة السلطة أو بالتمركز حول السلطة. لكن بينما تبدو هذه شريكا أو مبادرا في المقاربة الإصلاحية، فإنها تعتبر عقبة أمامه يتعين إزاحتها في المقاربة التغييرية. وكان"إعلان دمشق"الذي صدر في تشرين الأول أكتوبر 2005 قد دشن تحول المتن المعارض عن الإصلاح نحو التغيير. وقد رتب"الإعلان"قطيعته مع المقاربة الإصلاحية على محاكمة عقلية تفيد بأن النظام غير قابل للإصلاح، واستخلص من ذلك أنه لا بد من تغييره. غير أن التغيير مسألة قوى وقدرات وظروف مواتية وليس مسألة استدلال منطقي، وبين الترتيب المنطقي للتغيير السياسي على تعذر إصلاح النظام والتحول الواقعي نحو التغيير فجوة كبيرة قد تقع فيها المعارضة ولا تقوم. وما حجب الفجوة وقتها بين الضروري منطقيا والممكن واقعيا تضعضع النظام وقت صدور الإعلان وتصاعد المضاربات حول مصيره. ما جرى بعد ذلك على غير صعيد كان في اتجاه آخر، أضعف الاحتمالات التغييرية. وأثار تفجر الأوضاع العراقية لدى عموم السوريين خوفا لا تسهل مغالبته من التغيير. هل يزكي ذلك العودة إلى المقاربة الإصلاحية؟ أبدا. فالمقدمة التي تقرر استحالة إصلاح الهياكل السياسية القائمة سليمة تماما كما تثبت تجربة أزيد من ست سنوات، حتى لو كان استنتاج التغيير من تلك المقدمة في غير محله. ماذا إذاً؟ يبدو لنا أن الجمود الراهن يقترح تحولا من مقاربة متمحورة حول مسألة السلطة إلى مقاربة منشغلة بمشكلات المجتمع، قضايا العمل والبطالة والفقر والتعليم والدين والمرأة والشباب، وبالخصوص العلاقات المذهبية والدينية والإثنية، وقد يكون لتنشيط الاهتمام بالقضايا الاجتماعية. يقف في وجه تحول كهذا عائقان كؤودان: تكوين مفرط التسييس للنخب المعارضة والمثقفة في سورية، تعززه ثقافة سياسية متأصلة تدور دوما حول السلطة"ونظام سلطة مفرط التدخلية وعدواني حيال جميع أشكال الانتظام الاجتماعي المستقلة، نظام يجد مبدأ تماسكه في انحلال المجتمع المحكوم، ومبدأ ثقته بنفسه في انعدام ثقة مواطنيه بأنفسهم وببعضهم، ومبدأ تسامحه في تعصب مجتمعه. فحتى لو ذلل الناشطون المعارضون حاجز الثقافة السياسية، فإن تجاوزات النظام المستمرة ستصب عليهم نسيانه وإدارة الظهر له. على أن ذلك كله لا يمس ضرورة تحول جذري في الحساسية السياسية الثقافية للمعارضة وإن جعله صعبا. وتحجج المعارضة بالاستبداد مثل تحجج النظام بإسرائيل والأوضاع الإقليمية: مبرر للتقاعس ومسوغ لثبات الهياكل السياسية الفاشلة وغير الديموقراطية ذاتها. وكما أن التحول إلى البناء الداخلي مقابل النضال الخطابي ضد الصهيونية والامبريالية ليس تنازلا لإسرائيل، فإن تحول المعارضة نحو المجتمع ليس تنازلا للسلطة ولا شيئا تعطيه المعارضة للسلطة، بل هو شيء تعطيه لنفسها ولمجتمعها. ويقتضي التحول تطوير خطط وأفكار ومناهج لسياسة من نوع مختلف، سياسة تهدف في مدى أبعد إلى تمكين المجتمع من إنتاج تماسك ذاتي يوهن قبضة السلطة الممسكة بتلابيب المجتمع، ويدفعها إلى التغير من تحت. فبدلا من محاولة ضرب القوي على يده ربما يتعين مشاركة الضعفاء وتعزيز قواهم ومساعدتهم على التحول من وضع المجتمع الممسوك إلى وضع المجتمع المتماسك. وبقدر ما ينجح هذا التحول فستبدو مسألة السلطة نسبية اليوم تبدو مسألة مطلقة، وقد يرى المعارضون إلى مقاربتهم المهيمنة اليوم بوصفها تواطؤا مع النظام ضد الذات وأسرا للذات في شباك النظام، فضلا عن كونها البديل السهل من العملية التحولية الكبرى التي يحتاجها مجتمعنا. ولا نريد أن نستنتج من هزال محصول المقاربتين الإصلاحية والتغييرية أن المقاربة الاجتماعية مثمرة من تلقاء نفسها. لا، فهي تتطلب جهودا شاقة، لكننا نرجح أنها واعدة ومثمرة أكثر من المقاربة المتمحورة حول السلطة، التي تتصف بأنها شاقة وخطرة، وعقيمة فوق ذلك. والحال إن العقم المديد المميز لهذه المقاربة، بصيغتيها الإصلاحية والتغييرية، ينبغي أن يوحي بوجود خلل أساسي في افتراضاتها المكونة. وقد يتمثل الخلل في الاعتقاد بأن تغيير النظام سيقود آليا أو بسرعة إلى تغيير المجتمع والثقافة والسياسة. ولعل في خلفية هذا الاعتقاد استعدادات ذهنية نظرية ماركسية تبسيطية عن تغيير"البنية التحتية"يجر تغييرا في البنى الفوقية السياسية والثقافية...، ودوافع نفسية مترسخة رغبة انتقام من سلطة مؤذية. لكن ربما يكون الأهم أن"العمل السياسي"المحض يقترن بصنع مراتب سلطة تمنح، حتى ضمن التنظيمات المعارضة ومهما تكن صغيرة، شعورا بالقيمة الذاتية للقائمين عليها يصعب عليهم التخلي عنها. ومن أول الجهود المطلوبة للتحول نحو مقاربة مجتمعية التضحية بمتعة هجاء السلطة. فهذا أولا يسبب تسمما سياسيا وعاطفيا وفكريا بالاستبداد، إلى درجة أن من المحتمل أن نكرر السيرة الشنيعة نفسها عمّن حللنا مكانه"وهو ثانيا يعطي انطباعا زائفا بفعل نضالي، لكنه في الواقع شبيه بالمردودات النضالية لهجاء إسرائيل وأميركا في خطاب السلطات نفسها"وهو أخيرا أمسى نوعا من"النق"العقيم الذي يسيء لقضية العمل المعارض دون أن يضير السلطات. ولدينا حجة، نحسبها قاطعة، لدعم فطامنا عن هجاء السلطات: إنها أسوأ بكثير من أسوأ ما نقوله عنها. وإنه لمهم أن نرى أن السلطات تستعبدنا بتثبّتنا على محاولة النيل منها، أكثر حتى مما تستعبدنا بحرماننا من حقوقنا والمداومة على قهرنا مثل ذلك تماما يصح أن يقال عن إسرائيل.... في المقام الثاني، من الملحّ الاشتغال على حفز حس العدالة والإنصاف حيال الآخرين، المختلفين عنا دينيا أو مذهبيا أو إثنيا بالخصوص، والإهابة بقيم التسامح الديني والدفاع المتسق والجازم عن حرية الاعتقاد، وكذلك الاهتمام العملي والنظري بمبدأ المصلحة العامة. وبحدود ما نعرف فإن سورية لم تشهد أبدا توجها منظما ومتسقا لبث التفاهم والثقة بين السوريين المختلفي المنابت والمشارب. ولم يتجسد ذلك في أي يوم في تيار فكري أو مبادرة ثقافية أو حركة اجتماعية. ولا نجد تفسيرا لغيابها اليوم غير فرط تثبتنا على السلطة في عملنا العام. فقط في مرحلة الانتداب الفرنسي قبل ستين عاما ارتفعت أصوات داعية للوحدة والتسامح والأخوة، لكن لأغراض سياسية عملية متصلة بالكفاح الاستقلالي، ودون تأسيس فكري جدي ولو من عيار ما كتبه الكواكبي في"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"إعادات الاكتشاف المستمرة للكتاب مدينة لمزيج من تجدد شباب الاستبداد بعد أكثر من قرن على وفاة المؤلف الحلبي مسموما، وقلة الأعمال التأسيسية في مجال نقد الاستبداد بسبب استهلاك السياسة بالمعنى الظرفي للكلمة جهود وطاقات أفضل مثقفينا. بالنتيجة ظلت هذه القيم برانية وغير مستبطنة في ثقافتنا، قد نلوكها ككلمات لكنها قلما تشكل منطلق عملنا وتفاعلنا العام. لا ينال من ضرورة تحول حساسية العمل المعارض والمستقل تغير النظام بطريقة ما. فما يجعله ضروريا ليس التعذر الأكيد لتغيير النظام سلميا وداخليا، بل قطع الطريق على نسخ سلوكه وسياساته من بعده. ثمة مشاريع سلطة أو مشاريع انقلابية متعددة، أهمها القائم، وهي لا ترتفع إلى مرتبة مشروع تغيير حقيقي لأنها تشارك المشروع القائم وضع المجتمع الحي بين قوسين.