أكثر من 75 يوماً مرت على هدم مبنى قناة"المنار"التلفزيونية اللبنانية كاملاً، إثر استهدافه بقصف صاروخي مركز في اليوم الخامس من العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، من دون أن"يُخدش"بثها بأذى. فطوال ال792 ساعة التي تمثلها الأيام ال33 للحرب الأخيرة، لم يتوقف بث"المنار"سوى دقيقتين فقط، على رغم ان مبنى التلفزيون المؤلف من تسع طبقات سوّي بالأرض تماماً. بضع ثوان فقط من القصف الجوي المركز، كانت كافية لتحويله أثراً بعد عين. ولم يعد هناك اليوم سوى لافتة تدلّ الى أطلال مقرّ تلفزيون"المنار"، وسط أكوام من الركام والحطام في قلب ضاحية بيروت الجنوبية. وعلى رغم ذلك، فإن قناة"المنار"لم تدفع سوى أربعة جرحى فقط، من طاقمها التقني وموظفيها الفنيين. وهذه ضريبة بشرية للوسيلة الإعلامية"الرسمية"للمقاومة، ما جعلها على رأس قائمة بنك الأهداف الإسرائيلية خلال الحرب المفتوحة الأخيرة على لبنان. وهذا ما يفسّر ربما عدد الغارات سبع على مقرّ القناة في حارة حريك. إذ لم تكتفِ الطائرات الإسرائيلية برؤية ركام تلفزيون"حزب الله"مكوّماً، إثر تدميره كلياً في 16 تموزيوليو الفائت، بل أمعنت في قصف الركام مرات، ظناً ان القناة تبث من مخابئ محصّنة ودهاليز سرية تحت الركام. التلفزيون"الشبح"! منذ ذلك اليوم، تحوّل تلفزيون"المنار"شبحاً إعلامياً يقضّ مضاجع المسؤولين الإسرائيليين الذين رأوا فيه"رأس حربة"المقاومة على الجبهة الإعلامية، لا تقل حدّة وشراسة من جبهة البارود والنار. هذه الظروف الأمنية الصعبة، جعلت العاملين في"المنار"، من إعلاميين ومسؤولين وفنيين، يشعرون بأنهم في قلب الأهداف الإسرائيلية في لبنان."هذا الإحساس بأنك مستهدف، يجعلك صحافياً من ذوي الثياب المرقطة"، بحسب تعبير عماد مرمل الذي يقدم برنامجاً حوارياً سياسياً أسبوعياً على شاشة تلفزيون"حزب الله". ما دفع جميع العاملين في"المنار"الى"التمويه"حيناً وپ"التخفي"حيناً آخر، أثناء تنقلهم من"المقرّ السري"للتلفزيون وإليه، ضمن خطة طوارئ جاهزة ومرسومة كانت إدارة القناة وضعتها مسبقاً، تحسّباً لأي"غدر"إسرائيلي قد يستهدف"المنار"في أي لحظة. ولما حدث ما كان في الحسبان، بدأ العاملون في"المنار"تنفيذ"خطة الطوارئ"التي تقتضي أولاً التخلي عن هواتفهم المحمولة المعروفة، واتباع أقصى درجات الحيطة والحذر أثناء تنقلهم من المقر السري البديل وإليه. يقول مرمل في هذا السياق:"كان الوصول إلى المكان يتطلب إجراءات خاصة منعاً لانكشافه، الأمر الذي تطلب مني ان أرتدي ثياباً لا تدل على انني مقدّم برامج، كثياب الرياضة مثلاً، ثم أبدّل ملابسي بعد الوصول الى المقرّ السري للاستديو. إضافة الى استخدام"السرفيس"سيارة الأجرة في التنقل من ذلك المقرّ وإليه، حرصاً على سلامة النفس والمكان معاً". ولم تقتصر تلك الإجراءات الاحترازية على العاملين في"المنار"فقط، بل شملت أيضاًَ ضيوف برامجه الذين كان يتم"استحضارهم"إليه، باتباع إجراءات معقدة تمنع معرفتهم بالمكان الذي يقصدونه."إنها مجرّد إجراءات أمنية، حرصاً على سلامة المكان والعاملين من جهة، وسلامة الضيوف وكرامتهم من جهة أخرى"، بحسب تعبير مدير العلاقات العامة في القناة إبراهيم فرحات. ويذهب بعضهم الى القول ان موقع بث"المنار"خلال الحرب الإسرائيلية، كان مجهولاً حتى لبعض العاملين فيه. الأمر الذي ينفيه فرحات بشدة."كيف يمكن لعشرات العاملين في التلفزيون ان يلتحقوا بمكان عملهم يومياً، من دون ان يعرفوا وجهة سيرهم؟"، يسأل فرحات ضاحكاً، معتبراً الأمر مجرد"مبالغات"غير صحيحة إطلاقاً. لكنه يعترف، في الوقت ذاته، بأن الحرب أوجدت"ظروفاً صعبة ميدانياً... غير أننا نمتلك إرادة التحدي والصمود. إذ لم يتوقف البث سوى دقيقتين فقط، عند تدمير المبنى الرئيس كلياً، ليعاود بثه مجدداً بسبب جاهزيتنا الممتازة، تحسباً لمثل تلك اللحظة الحرجة في تاريخ القناة". "جهاد"... إعلامي يدرك العاملون في قناة"المنار"في قرارة أنفسهم، منذ اللحظة الأولى لانتسابهم إليها، أنهم يعملون في قناة تلفزيونية"إستثنائية". فهي صوت"حزب الله"المصنّف منظمةً إرهابية في القاموس الأميركي الجديد، وصورة الحزب أمام العالم. فضلاً عن كونها قناة"المقاومة"بامتياز، مع ما يتطلبه ذلك من استعداد للمجازفة متى وقعت المواجهة."لا يندرج هذا الأمر بطبيعة الحال في عقد العمل. لكنه يرد على الخاطر سريعاً أثناء التوقيع من دون ان تتوقف عنده طويلاً، لأنك بالتأكيد لن تتردّد في أن تكون جزءاً من الإعلام المقاوم، وهو أضعف الإيمان"، يقول مرمل. من جهتها، تدرك قيادة"حزب الله"أهمية ان يكون صوتها الإعلامي واضحاً وقوياً ومستمراً في آن معاً، أياً كانت الظروف استثنائية."فالحزب يضع العمل الإعلامي في مرتبة"جهادية"لا تقل عن تلك التي يحظى بها المقاتل على الخطوط الأمامية"، بحسب تعبير المدير العام لپ"المنار"النائب السابق عن"حزب الله" عبدالله قصير. غير ان جاهزية"المنار"الكاملة لأي طارئ أمني، ليست وليدة العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، بحسب تأكيد فرحات،"بل بدأ الإعداد لهذه الضربة منذ نحو سنتين، عندما شنّت حملة إعلامية - سياسية إسرائيلية على قناة"المنار"لمنعها من البث عبر الأقمار الاصطناعية الأوروبية والأميركية. فمنعت في فرنسا بدايةً... قبل ان تصنف"المنار"منظمة إرهابية من الأميركيين في آذار مارس الفائت. وهي سابقة نوعية على هذا الصعيد". "فدائيو المنار" وعلى رغم التدمير الكلي لمبنى"المنار"، ودفن استديواته الجديدة التي دشنت العام الماضي، فإن الديكور الخاص لكل برنامج تلفزيوني بقي كما هو. إذ لم يلاحظ المشاهدون أي تغيير على الشاشة الصغيرة، وكأن الاستديوات لم تصب بأي أذى. بل وكأن مبنى القناة ما زال قائماً. ويعزو فرحات الأمر الى"الجهود المضاعفة التي بذلها فدائيو"المنار"، من مهندسين وفنيين وتقنيين، بدافع التحدي والصمود في وجه إرادة العدو الذي كان يسعى جاهداً لإسكات صوت الإعلام المقاوم"، على رغم ان حجم الأضرار التي أصابت هوائيات الإرسال التلفزيوني وحدها، بلغ حوالى 20-30 في المئة. لكن يبدو ان قصير غير عابئ بالخسائر المادية التي تكبّدتها قناة"المنار"خلال الحرب، كاشفاً ان الرقم وصل الى حوالى 15 مليون دولار،"إذ لكل معركة ضريبة... وكل الضرائب المادية تهون أمام الخسائر في الأرواح". "ليست قناة حزبية"! ترى إدارة"المنار"انه كان للحرب الأخيرة أثر إيجابي على فضائية"المنار"التي تأسست عام 2000 المحطة الأرضية تأسست عام 1990، مؤكدة ان شعبية القناة زادت لبنانياً وعربياً،"فضلاً عن ان"المنار"تعتبر واحدة من أول ست فضائيات عربية من حيث نسبة المشاهدين العرب"، بحسب تأكيد فرحات الذي يزهو بهذا الرقم. ولكن كيف يمكن لقناة حزبية عقائدية، ملتزمة بخط سياسي محدد وواضح، أن تتمتع بالصدقية والموضوعية والشفافية في أخبارها وبرامجها السياسية؟ "في المبدأ، يمكن في الوقت عينه ان تكون ملتزماً وموضوعياً إلى حدٍ ما"، بحسب رأي الأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية جان كرم، الذي يوضح ان مصطلح"الموضوعية"صار أقل استعمالاً في الأدبيات الصحافية بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، واستعمل بدلاً منه مصطلح"التوازن". ويلاحظ كرم ان"المنار"كانت خلال الحرب الأخيرة قناة ملتزمة"تحاول ان تكون متوازنة، ولكنها لم تنجح في الأحوال كافة"، معتبراً ذلك أمراً طبيعياً"لأن العمل التلفزيوني تحت الضغط والانتقال القسري الى مقرٍ سري، في ظل ظروف أمنية صعبة وأخبار محلية مروّعة... يجعل الانحياز نحو القضية أمراً طبيعياً ومقبولاً في الوقت عينه. إذ قد يكون غريباً جداً ان تتعامل"المنار"مع موضوع مصيري كبير وخطير مثلما تتعامل معه"سي أن أن"أو"بي بي سي"أو"الجزيرة"أو"العربية"...أو سواها من الفضائيات الإخبارية ذات الانتشار العالمي. هو إذاً انحياز مقبول، ولم يكن مطلوباً من"المنار"أكثر مما قدّمته خلال الحرب الأخيرة". وعلى رغم الطابع الحزبي - العقائدي لپ"المنار"، كونها القناة التلفزيونية الوحيدة لپ"حزب الله"، ينفي قصير إطلاق الصفة الحزبية عليها:"لسنا قناة حزبية...أو بوقاً إعلامياً لپ"حزب الله". بمعنى اننا لا نتلقى تعليمات تفصيلية يومية من الحزب، بل نحن مقتنعون بالنهج الذي تسير المقاومة عليه، ونتماهى معه. وبالتالي، نحن قناة عربية إسلامية تحمل هموم قضايا الأمة الأساسية، وفي مقدمها قضية فلسطين وقضية المقاومة"، كاشفاً ان الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، فرضت على"المنار"تحديات إعلامية جديدة:"نحن في صدد إعادة بلورة شخصية القناة في المرحلة المقبلة، وثمة أفكار يجرى تداولها حول إبقائها قناة عامة أو تحويلها إخبارية متخصصة؟". لكن ماذا عن المقر السري لپ"المنار"اليوم؟ وما دواعي إبقاء السرية الكاملة مطبقة عليه، طالما ان الحرب الإسرائيلية على لبنان وضعت أوزارها؟ لا يوجد مقر سري واحد لپ"المنار"الآن، بحسب المعلومات التي رشحت بصعوبة من أكثر من مصدر. إذ عمدت إدارة القناة الى توزيع استديواتها البديلة على أماكن سرية موجودة في غير منطقة من العاصمة بيروت. علماً ان أحد الاستوديوات الرئيسية موجود في"الضاحية الجنوبية"ذاتها، ولكن بعيداً من المربّع الأمني لپ"حزب الله"أو من المبنى الرئيس المهدّم. وعمد الحزب الى إبقاء مسألة المقر سراً إلى اليوم،"لأن موضوع الالتزام بقرار وقف إطلاق النار ليس كاملاً من العدو الإسرائيلي المعروف تاريخياً بصفة الغدر ونقض العهود. وهذه مرحلة موقتة لن تدوم طويلاً، إذ من غير المعقول والمنطقي أن تبقى قناة تلفزيونية عامة مجهولة العنوان أبداً"، بحسب تعبير قصير، نافياً ان تكون القناة بثت خلال الحرب الأخيرة من سورية أو إيران كما يدعي بعضهم.