لا ريب ان المحاضرة المثيرة للجدل التي ألقاها البابا بينيدكتوس السادس عشر في رحاب جامعته القديمة في ريغنسبورغ يوم 12 ايلول سبتمبر الماضي كانت بمثابة دعوة الى الحوار بين الأديان، كما يقول العديد من انصاره. غير اننا اذا أمعنا النظر في نص المحاضرة نجد ان الحوار الذي يتصوره هو حوار يجري وفق مقاييس يحددها قداسته، دون غيره من المتحاورين. ما هي هذه المقاييس؟ على امتداد هذه المحاضرة نجد ان البابا يساوي بين مواقف الكنيسة الكاثوليكية وبين"العقل"، وفي الأمر تلميح الى ان الذين لا يأخذون بتلك المواقف هم"لاعقلانيون"أكانوا مسلمين ام مسيحيين، بروتستانتيين ام علمانيين من اصحاب العلوم الطبيعية. ولأجل التوضيح، يخوض البابا في مناظرة لاهوتية حول حدود القدرة الإلهية. ويرى ان العقل يفترض الإيمان بأن الله عز وجل ليس بمقدوره ان ينتهك قوانين المنطق. وهذا الرأي يقتضي ضمناً ان كل من يخالف هذا الاستنتاج، كمثل الفقيه والفيلسوف الأندلسي الشهير ابن حزم ويسميه"ابن حزن"في موضعين هو حتماً خارج دائرة العقل. لكن كان ينبغي لقداسته ان يدرك ان العديد من مفكري الإسلام كانوا يخالفون ابن حزم في هذا الرأي بالذات. هناك مثلاً، وفي الأندلس تحديداً، الفيلسوف الشهير ابن رشد الذي رفض مقولة ابن حزم وأصر على القول ان الله سبحانه ليس بمقدوره ان يخالف المنطق ويجمع الأضداد، كأن يخلق جسماً مستديراً ومربعاً في آن واحد. والسؤال هو الآتي: ما هو الموقف الأقرب الى العقل؟ هل هو موقف ابن حزم الذي يفترض ان الله سبحانه قادر على انتهاك قوانين المنطق اذا شاء؟ ام هو موقف ابن رشد القائل بأن الله ليس بمقدوره ان يفعل ذلك؟ الموقف الأول يأخذ القدرة الإلهية الى نتيجتها المنطقية فيما يرى الموقف الثاني ان ثمة حدوداً حتى لمشيئة الله وقدرته. بل اننا نجد في الفكر الإسلامي موقفاً ثالثاً ألا وهو الرأي الذي أتى به حجة الإسلام ابو حامد الغزالي ومفاده ان الله سبحانه بمقدوره ان ينتهك قوانين الطبيعة كما يقول ابن حزم، لكن ليس بمقدوره ان ينتهك قوانين المنطق كما يقول ابن رشد. وفي رأي الغزالي ان الله سبحانه قادر على ان يخلق ناراً لا تحرق لكن ليس بمقدوره ان يخلق جسماً مستديراً ومربعاً في آن واحد. ما هو الموقف العقلاني من بين هذه المواقف جميعاً؟ لا جدال ان تلك المواقف الفكرية تستند جميعها الى حجج فلسفية راسخة وجميعها تنبع من مقدمات عقلانية. ولعل الموقف الأكثر عقلانية هو ان نفسح المجال لمثل تلك المناظرات الفكرية ان تنمو وتزدهر وأن نترك للفلاسفة مهمة النظر في جوانب هذه المسألة كافة. لكن، ويا للأسف، يصبح هذا الأمر صعباً حين يصر موقف فلسفي ما ان العقل يقف الى جانبه فحسب. يزعم البابا ان موقف الكنيسة الكاثوليكية هو الموقف العقلاني الوحيد ويشير ملمحاً الى ان الذين يخالفون هذا الموقف هم غير عقلانيين. لكنه يدرك هو نفسه ان ثمة فلاسفة من داخل التراث الكاثوليكي تحديداً كانوا على خلاف مع آراء توما الاكويني والتي اضحت بمثابة العقيدة الكنسية الرسمية في هذا الموضوع كما في العديد من المواضيع الإيمانية الأخرى. فهو يشير، وإن ببعض الامتعاض، الى ان الفيلسوف دنز سكوتس كان هو الآخر يعتنق الموقف الفلسفي الذي يرى قداسته انه موقف مرفوض. وهكذا ومن وجهة نظر البابا، فإن سكوتس المذكور مفكر منشق، ضل عن سبيل العقل، كما ضل عنه المسلمون والبروتستانت والعلمانيون في الغرب. وهذا النمط من الجدل نجده ايضاً حين يصل قداسته الى موضوع العنف. فهو يقتبس، مستحسناً، ما ورد على لسان الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني من ان العنف ينافي العقل كما وطبيعة الله. لكن هذا الرأي الجذاب في الظاهر سرعان ما يستدرج عدداً لا بأس به من التساؤلات. ماذا عن العنف في حال الدفاع عن النفس؟ وماذا عن العنف إزاء جيش محتل؟ وماذا عن العنف لدرء عنف أعظم؟ وإذ يتفادى البابا الخوض في هذه المواضيع الأخلاقية المهمة، يلتفت الى الإسلام ويوجه إليه قدحاً لا مبرر له. فهو يعترف بالآية الكريمة لا إكراه في الدين غير انه يزعم ان تلك الآية نزلت في زمن كان فيه المسلمون في حالة ضعف، لا انها تمثل التزاماً بمبدأ راسخ عند المسلمين وهو ان الإيمان متروك لحرية البشر ولا إكراه فيه. ان اللجوء الى مثل هذا التفسير السطحي لأسباب النزول في القرآن الكريم هو عمل غير مسؤول إطلاقاً. فالكل يعلم ان هذه الآية الكريمة هي آية محكمة لدى المسلمين منذ فجر الإسلام وحتى يومنا الراهن. اما الزعم ان دين الإسلام انتشر بحد السيف في غالب الأمر فلا يعدو كونه زعما ساد في أوساط أوروبا المسيحية في العصور الوسطى وتدحضه الدراسات التاريخية الجادة. إذ من المعلوم على سبيل المثال ان الغالبية العظمى من السكان الذين اضحوا تحت الحكم الإسلامي حافظوا ولقرون عدة على دياناتهم الأصلية، بل كانوا هم الغالبية الكبرى في ديار الإسلام حتى القرن الثاني عشر للميلاد. لذا فإن القراءة الدقيقة والتي تأخذ بسياق الموضوع كما وبما صدر عن لسان البابا في الآونة الأخيرة حول الإسلام من شأنها ان تميط اللثام عن توجهين اثنين يؤسف لهما. إذ ان قداسته لا يكتفي بأن ينتحل لكنيسته الحق في تقرير معنى التعقل ومغزاه بل يكشف عن موقف تجاه الإسلام ينعته نعوتاً جوهرية تتجاهل تاريخه الثقافي والديني المتعدد الأوجه. وعلى العكس من الكاثوليكية، لم يعمد الإسلام يوماً، لا عند السنّة ولا عند الشيعة، الى وضع تعريفات نهائية لبعض المسائل العقائدية الغامضة، بل افسح في المجال لطيف عريض من الآراء الفلسفية المختلفة. من هنا فإن الفكر الفلسفي الإسلامي يتسع ليحتمل العديد من الحجج العقلانية في ميدان العقيدة. وهذا الأمر لم يُستثمر على الوجه الأكمل في عصرنا الراهن، غير انه بإمكانه ان يفضي الى حوار صادق وعميق بين الأديان، شرط ان لا يعمد طرف ما الى وصف الطرف الآخر بأنه غير عقلاني. * استاذ الدراسات العربية والإسلامية في الجامعة الأميركية ببيروت. ** استاذ الفلسفة في الجامعة الأميركية ببيروت.