لا بد من وصف ما يحدث في العراق بالاوصاف الصريحة وليس بالاشارات الغامضة. ان ما يحدث الآن كارثة حقيقية تزداد سوءاً ساعة بعد ساعة. واسوأ الامور في بلاد الرافدين ان نهراً من الدماء المتدافعة يسيل الآن جراء عمليات القتل المتبادلة بين السنة والشيعة التي قد يكون بعضها مدبراً من اطراف خارجية لها مصلحة في اثارة واذكاء فتنة طائفية دموية، ولكن من دون ان يعفي هذا المتقاتلين من المسؤولية عن معظم اعمال القتل الفظيعة التي يفترض انها محرمة بين ابناء الوطن الواحد. ليس الآن وقت الشماتة بالاميركيين، سواء العسكريين او الساسة، لما خسروه او قد يخسرونه بسبب عواقب سياساتهم الخرقاء في العراق، واذا كان لا بد من الالتفات الى خسائر احد فإن الاهتمام يجب ان ينصب بالدرجة الاولى على الخسائر الكارثية التي مني بها الشعب العراقي في الارواح والاقتصاد والبنى التحتية وما عاناه هذا الشعب من جروح وشظف عيش. ليس الآن وقت الشماتة وانما هو وقت العمل لوقف نزيف الدماء في العراق الذي استطاع ابناء طوائفه واتباع دياناته في معظم الازمنة الماضية التعايش معاً بتسامح، والاعتزاز بانتمائهم الى عراقهم. صحيح ان ثمة اعترافاً في واشنطن بأن العراق صار فيتنام جديدة وان من المحتمل جداً ان يغدو الرئيس جورج بوش بعد انتخابات الكونغرس النصفية في الاسبوع الاول من الشهر المقبل"بطة عرجاء"اذا خسر حزبه الجمهوري الغالبية في الكونغرس، ولكن هذا لن يخفف من مصائب العراقيين بل قد يزيدها سوءاً اذا ازداد تخبط الاميركيين في قراراتهم وسياساتهم. من السهل ان يقول احد ما انه ينبغي ترك الاميركيين ليقلعوا شوكهم بأيديهم، ولكن هذا قد لا يعني سوى انسحاب القوات الاميركية من المدن الى قواعد عسكرية حصينة داخل العراق او الانسحاب الى خارجه، مع ترك التدهور الامني في الحالتين مستمراً لكون قوات الامن والجيش العراقية مخترقة ومقسمة طائفياً وعقائدياً وعرقياً، رغم وحدة الزي العسكري. لقد افلت زمام الامور منذ مدة طويلة من يد الحكومة العراقية والادارة الاميركية وباتت الميليشيات هي المسيطرة التي تقرر وتيرة ودرجة القتل والخراب والفوضى. وفي غضون ذلك، وازاء عجز الجيش الاميركي عن ترويض الميليشيات من جهة وقوات المقاومة التي تحاربه من جهة اخرى، صارت الادارة الاميركية منشغلة بمصيرها الذي غدا مرتبطاً بمصير العراق مع فارق ان عمرها هي قصير وان عمر العراق ومآسيه طويل. وهكذا صارت واشنطن تضغط على رئيس الوزراء نوري المالكي ليتخلص من تردده في تبديد الميليشيات الشيعية، كما ترى، رغم تعهده"الضرب بقوة"على ايديها. وعندما استهدفت قوات اميركية وعراقية الثلثاء مدينة الصدر، تنصل المالكي من الهجوم قائلاً ان لا علم لحكومته به. وبدا الخلاف واضحاً بين السفير الاميركي لدى العراق زلماي خليل زاد - وهو اكبر بكثير من سفير - وبين المالكي، اذ قال الاول الثلثاء ان رئيس الوزراء وافق على"جدول زمني"للاصلاح السياسي ونزع اسلحة الميليشيات، وسارع الثاني الى نفي ذلك قائلاً ان"الجميع يعلم ان هذه الحكومة هي حكومة ارادة شعبية وليس لأحد الحق في ان يضع لها جدولاً زمنياً". ان حكومة المالكي، شأنها شأن الجيش الاميركي في العراق، لن تستطيع جعل الدولة المالكة الوحيدة للسلاح لانه منتشر بكميات لدى المقاومين وافراد الميليشيات ولأن قوى من خارج العراق هي على اتم استعداد لتزويد انصارها بالسلاح. في الظروف الحالية المفتوحة على احتمالات كثيرة من بينها احتمال انشطار العراق وتحوله الى مناطق امراء حرب وقادة ميليشيات، يبدو ان السبيل الذي يجب ان تسلكه حكومة المالكي ودول الجوار والولايات المتحدة هو العمل على تحقيق الوفاق الداخلي وتبديد مخاوف العراقيين بعضهم من بعض. ويجب طمأنة الجميع الى ان القانون سيطبق عليهم بالتساوي وان موارد البلاد هي لجميع مواطنيها بالتساوي. وما يعنينا في النهاية هو مصير العراق لا مصير بوش.