أنهى الاتحاد الأوروبي عامه المنصرم بأزمة، واستقبل عامه الجديد بأزمة أخرى. وإذا كان رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، بوصفه رئيس دورة الاتحاد للنصف الثاني من سنة 2005، استطاع ان يجترح حلاً موقتاً للأزمة الأولى المتعلقة بالموازنة الأوروبية حتى سنة 2013، فإن الأزمة الثانية التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا وطالت شراراتها معظم الدول الأوروبية ستكون أصعب على الحل وتحمل في طياتها أبعاداً استراتيجية غابت لسنوات عن أذهان المسؤولين الأوروبيين. پوسواء تمكنت موسكو وكييف من تضييق هوة الخلافات بينهما، أو استطاعت مبادرة الاتحاد الأوروبي للوساطة بين الطرفين احتواء أزمة الغاز وتأمين وصوله الى الاسواق المتعطشة للطاقة في أوروبا الغربية، فإن الدول الكبرى مثل بريطانياوالمانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا وجدت نفسها فجأة أمام واقع جديد كانت ملامحه ظاهرة للعيان منذ سنوات عدة، غير ان رغبة توسيع الاتحاد الأوروبي نشرت غشاء من التجاهل على أعين المسؤولين.پ أزمة وصول الغاز الروسي الى أوروبا، وهي أزمة ليس من مصلحة اي طرف تصعيدها في الوقت الراهن، وضعت الاتحاد الأوروبي أمام اعتبارات ثلاثة مترابطة، وفي الوقت نفسه مؤثرة بعمق على مستقبل الاتحاد وخططه للتوسع: پ أولاً، روسيا باتت قوة سياسية واقتصادية لا يستهان بها في أوروبا بعد ان تجاوزت اشكالاتها الداخلية الموروثة من عهد بوريس يلتسن الرئيس السابق، ومعززة بالثروة الهائلة من النفط والغاز في وقت يشتد احتياج أوروبا لمصادر جديدة ومضمونة من الطاقة.پ ثانياً، التوسع الأوروبي باتجاه دول المعسكر الاشتراكي سابقاً، مثل اوكرانيا وبولندا ولاتفيا واستونيا وغيرها، يعني ايضاً الاحتكاك بالحساسيات السياسية والجغرافية والاستراتيجية الكامنة في علاقة هذه الدول مع روسيا وريثة قائدة العالم الاشتراكي سابقاً. ثالثاً، مصادر الطاقة التي كانت تمتلكها دول أوروبية مثل بريطانيا والنروج دخلت مراحلها الاخيرة، ومن المتوقع - على سبيل المثال - ان تضطر بريطانيا الى استيراد أكثر من تسعين في المئة من احتياجاتها من الطاقة في حدود سنة 2010 على ابعد تقدير.پ وهذه الاعتبارات الثلاثة تلتقي عند نقطة استراتيجية واحدة هي توسيع الاتحاد الأوروبي باتجاه دول كانت حتى سنوات قليلة تدور في الفلك الروسي بنسختيه السوفياتية السابقة أو الاتحادية الحالية. ولعل عملية التوسع تلك كانت محكومة بظروف روسيا عندما انهارت منظمة الاتحاد السوفياتي وتفرقت الجمهوريات السوفياتية ودخلت البلاد في مرحلة انحطاط سياسي وركود اقتصادي بحيث ظن كثيرون انه لن يكون هناك قيام ل"الدب الروسي"قبل عقود طويلة. موسكو الآن في موقع قوي، بل الموقع الأقوى في أوروبا، وسلاحها الاساسي في ذلك الطاقة النفطية والغازية، وهي تريد استخدامها بذكاء ليس ضد"زبائنها"الاساسيين في غرب أوروبا بل ضد الدول"العاقة"التي أدارت ظهرها لروسيا وقت الحاجة ويممت شطر الغرب وصولاً الى الولاياتالمتحدة الاميركية التي حصلت على قواعد عسكرية استراتيجية في بعض الدول الاشتراكية الأوروبية السابقة. ولم تكن أزمة الغاز مع اوكرانيا الأول في هذا المجال، اذ تم قبل اسابيع قليلة تدشين خط أنابيب بحري يربط الاراضي الروسية بالاراضي الألمانية من دون المرور بأي من دول شرق أوروبا... وهذا ما أثار على وجه التحديد غضب بولندا واستيائها واحتجاجها. كيف ستواجه دول"أوروبا القديمة"بريطانياوالمانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا هذه الأوضاع المستجدة؟پ سيكون الموقف الأوروبي في سياقين: الأول اقتصادي يتمثل في مصادر بديلة للطاقة مثل الطاقة النووية أو مصادر انتاج أخرى مثل شمال افريقيا، وهذا يقع خارج إطار مقالتنا هذه. أما الثاني فيتعلق بكيفية ادارة عملية التوسع الأوروبية، لجهة استيعاب الدول العشر المنضمة أخيراً بما في ذلك علاقاتها الشائكة مع روسيا أو لجهة الدول المرشحة للدخول مثل بلغارياورومانيا المقبلتين على مفاوضات صعبة مع اللاتحاد الأوروبي في ظل رئاسة النمسا الدورية للنصف الأول من العام الحالي.پ من الصعب تصور رضوخ الاتحاد الأوروبي لما يصفه بعض المراقبين في لندن بأنه"ابتزاز مفضوح"، لكن من الصعب ايضاً عدم تقدير عواقب تصعيد المواجهة مع روسيا الناشئة والمستقوية بثرواتها النفطية. ولا شك في ان بعض"أوروبا القديمة"مثل المانيا، مستعدة لاعطاء مصالحها الذاتية الأولوية على حساب أعضاء جدد قد لا يحملون معهم إلا المتاعب... والنماذج على ذلك كثيرة في اوكرانياورومانيا وكرواتيا والبوسنة وغيرها.پ انضمام الدول العشر قبل حوالي السنة تقريباً قد يكون آخر توسيع للاتحاد الأوروبي في السنوات القليلة المقبلة، من دون ان يعني ذلك عدم التفاوض مع رومانياوبلغاريا... وتركيا. لكن الانضمام مسألة أخرى مختلفة تماماً. وكما قال أحد المعلقين السياسيين أخيراً: روسيا قوية ومستقرة أفضل ألف مرة للاتحاد الأوروبي من اوكرانيا ضعيفة ومزعزة! والمهمة العاجلة للأوروبيين القدماء، في هذا العام الجديد، وضع تصور مختلف للعلاقة مع روسيا يأخذ في الاعتبار ان موسكو راغبة في العودة الى القطبية الثنائية القطب الأول هو الولاياتالمتحدة الاميركية... على الأقل في أوروبا هذه المرة. پ پمن اسرة "الحياة" في لندن