لم يقبل العام الماضي، 2005، أن ينتهي بهدوء، بل صَمّم على أن يبقى على طبيعته حتى اللحظات الأخيرة. فرقعات في فلسطين وفوضى في فرص السلام، وقضية مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري ترفض أن تصل الى نهاية واضحة، وها هو عبدالحليم خدام يفجر قنبلة سياسية من باريس. والراصدون الفلكيون يعلموننا بأن سورية والعراق ستشهدان مزيداً من العنف وسفك الدماء. والطبيعة ترفض أن تنسينا"التسونامي"، والهزات الأرضية، والحرائق والانجرافات، فها هي الثلوج تغرق جنوب كاليفورنيا الصحراوي، وتشعل الحرائق في أوكلاهوما وتكساس، والأمراض التي صارت موضة جديدة في كل عام من الايدز، الى الايبولا، الى جنون البقر، الى انفلونزا الطيور وغيرها، تبقى معنا في اللحظات الخطرة. ولكن الأحداث السياسية كلها، وقصص الكوارث والمجازر والأوبئة، قد جعلت الأنباء حول التقلبات والمفاجئات الاقتصادية، تأخذ مركزاً ثانياً من الانتباه، على رغم كثرة الحديث عنها. وقد أحسنت الادارة الاقتصادية في الجامعة العربية صنعاً باختيارها موضوع"الفقاعات الاقتصادية"لتكون موضوع ندوتها الأخيرة في العام الماضي. وقد عُقدت يومي 25 وپ26 من شهر كانون الأول ديسمبر في مقر الجامعة ندوة قدمت فيها ورقة أساسية من الدكتور محمود عبدالفضيل أستاذ الاقتصاد المعروف، وتعقيبان من كل من الرئيس السابق للجمعية الاقتصادية الكويتية، عامر دياب التميمي والعبد الفقير جواد العناني من الأردن. وعلى كثرة التعريفات المنقولة والمتواترة لكلمة فقاعة، فإن التعريف الأفضل لها هو بروز فرصة سانحة للاستثمار يقبل عليها الناس بكثرة، ويجد بعض المستغلين الفرصة للاستفادة من فائض الطلب لتحقيق أرباحٍ ريعية قد تكون قانونية أو قد تكون على هامش القانون، وقد تكون مركزة على سلعة واحدة أو سهم واحد، أو أرض في مكان معين، وقد تكون قطاعية مثل قطاع العقار والأراضي، أو قطاع الأسهم، أو قطاع التجارة، وقد تكون عامة مطلقة في عدد من القطاعات وتستحوذ على معظم اهتمامات الناس وتركيزهم. ولكن البعض يفسد أحياناً استخدام هذه الكلمة، فيفسر أي ظاهرة رخاء أو انتعاش اقتصادي بأنها"فقاعة اقتصادية". وفي تقديري أن الفقاعة الاقتصادية لا تخلق أصولاً جديدة الا في حدود ضيقة جداً، فهي قد تعيد تعريف الأصول لكي تحسّن من فرصة الاتجار بها، ولكنها لا تضيف، بل تبقي التعامل في حدود نقل الملكية، وليس بناءها. ولذلك، فإن ظاهرة الفقاعة لا بد وأن ترتبط بالمضاربة، وتحقيق أرباح رأسمالية للمتعاملين فيها. وتتأكد الفقاعة عندما تنفجر، فتترك البعض فرحاً بما أتاه، والبعض الآخر يقلب كفيه على ما اتفق فيها وضاع منه. ومن هنا يأتي الخلط حينما يُسمي البعض تجربة دبي على سبيل المثال بأنها"فقاعة". وهذا ليس صحيحاً. فالذي يجري في امارة دبي هو دورة اقتصادية اسمها"الرخاء"، والتي قد تطول، والدورة الاقتصادية التي عاد الاقتصاديون ليتحدثوا عنها بكثرة وجدية من جديد، لها تفسيراتها وأصولها. فالذي يجري في دبي هو أن الاقتصاد يتحرك بديناميكية وسرعة عجيبة ليخلق أصولاً جديدة كثيرة في قطاعات الأراضي والعقار والسياحة والضيافة والخدمات، وأسواق المال. فهل نسمي كل هذه العمارات والأسواق والمستشفيات والفنادق والشقق والفلل والمدن الاقتصادية، هل نسمي هذا كله"فقاعة"? ليس صحيحاً، بل هذه أصول جديدة تأتي ضمن دورة اقتصادية متكاملة. وقد يثير البعض التساؤل: والى متى ستستمر هذه الدورة؟ والجواب واضح أن أي دورة اقتصادية لا تستمر الى الأبد. ولكن التجارب قد علمتنا عبر مفاجآت القرن العشرين وما قبله كيف نتغلب على تلك الدورات، ونسيطر على نتائجها الضارة، ونحسن من وسائل تخلصنا من تلك الدورات الشرسة مثل الركود والتضخم، وحتى الكساد التضخمي. أما المطلوب أن نتقنه الآن بالوسائل المتاحة هو"الهبوط الآمن"الذي يسمح بالتخلص من الشحم والورم، ويبقي اللحم على جسم الاقتصاد. لقد تعلم العالم من الدورات الضارة مثل التضخم في أميركا اللاتينية، والكساد التضخمي اثر هزة النفط بعد عام 1973، وانفجار الأزمة الآسيوية عام 1996 و 1997، وحتى هبوط أسواق الأسهم، وبخاصة نيويورك، عام 2000. وأما السؤال الثاني حتى لو قبلنا أن ما يجري في دبي هو دورة اقتصادية، فهل هذا يعني أنه لا توجد فقاعات في اقتصادات بعض دول الخليج. والجواب طبعاً، فلا بد للدورة الانتعاشية أن تخلق فرصاً لظهور فقاعات صغيرة وكبيرة. وقد ظهر الكثير منها في أسواق دبي وأبو ظبي وقطر وحتى المملكة العربية السعودية والبحرين، وبشكل أقل في أسواق سلطنة عمان. ولكن الحكومات هنالك تبنت اجراءات كثيرة مثل تغيير قانون الشركات في دولة الامارات، وتحديد نسب الارتفاع في ايجار العقارات في أبو ظبي ودبي، ومنع البنوك من الاقراض المبالغ فيه لأغراض شراء الأسهم. وكذلك تطورت وسائل تمويل الأصول شراء وبيعاً. بحيث توافرت مرونة أكبر في الأسواق لاستيعاب الصدمات. ويثور سؤال ثالث: وماذا عن الدول التي حصلت طفرة فيها اقتصرت على قطاعين أو ثلاثة، بينما بقيت بقية القطاعات غير متأثرة بهذه الدورة التصاعدية؟ والجواب عن هذا أن أمثلة من هذا النوع قد حصلت في بعض الاقتصادات العربية. وأحسن تشبيه لها هو ما سبق وأشرت اليه في مقالة هنا، حيث قلت ان الاقتصاد يمر بدورتين، دورة اقتصادية صغرى تبقى محصورة ضمن بعض القطاعات، أو ما يشبه الدورة الدموية الصغرى في جسم الانسان. وهنالك الدورة الكبرى. واذا انتعشت الدورة الصغرى من دون أن تتناغم أو تصب في الدورة الكبرى، فإن الجسم سيعاني من الخلل، وهذا حصل في الاقتصاد المصري وسبب فائضاً في العقار بعد طفرة انتاجية. وهذا ما يشهده حالياً الاقتصاد الأردني ما لم توضع العلاجات المناسبة. نعم هنالك فقاعات في أجسام الاقتصادات العربية المنتعشة، ولكنها كالأورام، بعضها حميد وبعضها خبيث، والحقيقة أننا يجب أن نحذر من المبالغة في الخوف منها، أو أن نحظى في تشخيص كل انتعاش على أنه فقاعة أو بالون، أو أن ننكر على أنفسنا بهجة الاستمتاع بالفرصة الطيبة حين تتاح، ولكن في المقابل علينا أن ننتبه من كثرة الفقاعات، خصوصاً اذا تركت لتنفجر في أوقات تسبب خسائر كبيرة لقطاع واسع من الناس في الوقت الذي يخرج منها البعض مستفيداً في شكل كبير جداً. حينها يدخل الاقتصاد في معادلة الصفر، أو دون ذلك. كانت الندوة مفيدة، وأعتقد أنها علقت الموضوع الى حد كبير. وكل عام وكل العرب بخير. * خبير اقتصادي، البصيرة للاستشارات.