عندما ارتفعت اسعار البترول خلال عام 2004 الى مستويات قياسية اكثر من 40 دولاراً للبرميل، كان هناك تخوف يصل الى درجة الاعتقاد بان الاقتصاد العالمي سيتضرر من هذا الارتفاع، بحيث سيشهد تباطؤا في نموه، والذي بدوره يؤثر في الطلب على البترول. الا ان الذي حدث هو العكس. فقد شهد عام 2004 أعلى معدلات من النمو الاقتصادي في تاريخ العالم والذي وصل الى حدود 4 في المئة. وشهد الطلب على البترول أعلى نمو له، اذ وصلت الزيادة في الطلب إلى حدود 2.8 مليون برميل يومياً. وفي العام التالي 2005، ارتفعت اسعار البترول مرة اخرى لتصل الى حدود 70 دولاراً للبرميل في بعض الشهور، ما زاد الخوف من تأثير ذلك على الاقتصاد العالمي. الا ان الاقتصاد العالمي لم يشهد اي تباطؤ يذكر، حيث سجل نمواً بلغ 2.7 في المئة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، و3.6 في المئة في الولاياتالمتحدة. كما ان الطلب على البترول استمر في الارتفاع لتصل الزيادة في الطلب الى حدود 1.2 مليون برميل يومياً في عام 2005. وصدرت دراسات وتقارير كثيرة تناولت المرونة التي تجاوب بها الاقتصاد العالمي مع ما يعتبر صدمة ارتفاع اسعار البترول، وما تطرحه من تساؤل عما اذا كانت الأسعار قد فقدت تأثيرها المعهود على الاقتصاد العالمي ونموه؟ وأجمعت هذه الدراسات، في معظمها، على عدد من العوامل الرئيسة التي تميز العلاقة الحالية بين اسعار البترول ونمو الاقتصاد العالمي: أولا: كفاءة استخدام الطاقة خصوصاً في الدول الصناعية الرئيسة. فالولاياتالمتحدة على سبيل المثال، والتي تعتبر المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي، انخفض اعتمادها في السنوات الاخيرة على البترول كمدخل رئيس للطاقة عما هو الحال خلال ازمتي ارتفاع اسعار البترول في السبعينات والثمانينات. إذ تشير التقديرات الى ان الدول المتقدمة حالياً تستخدم نصف كمية البترول لكل دولار حقيقي من مجمل الناتج الوطني مقارنة بفترتي السبعينات والثمانينات، ترتب عنه انخفاض تأثير ازدياد اسعار البترول على كل من النمو الاقتصادي ومعدل التضخم. وقد اوضح ذلك كينيث روجوف في دراسته التي ألقاها في منتدى الطاقة العالمي الذي عقد في الرياض في 11 تشرين الثاني نوفمبر 2005، حيث اوضح ان تباطؤ النمو الاقتصادي عند ارتفاع اسعار البترول ينتج عن تعطل موقت لرأس المال والثروة الانتاجية من منشآت وموارد بشرية توظف لعمليات الانتاج. وعندما يقل اعتماد الدول الصناعية الرئيسة على البترول كعنصر في متطلبات عملية الانتاج، وينحصر استخدامه كمادة استهلاكية مثل زيت الوقود وزيت التدفئة فينحسر بالتالي اي يصبح اقل من المتوقع مدى تأثير ارتفاع الاسعار في اقتصاد تلك الدول. ويستشهد روجوف بهذا الصدد ببعض الدراسات التي تناولت الموضوع، منها دراسة ماري فين التي اشارت الى ارتفاع قدره واحد في المئة فقط في اسعار البترول يؤدي الى انخفاض 2.5 في المئة من الانتاج بعد فترة سنة ونصف السنة، الا ان تلك الدراسة نفسها كما يشير روجوف لم تعلل عدم حدوث طفرة اقتصادية في عام 1986 عندما انهارت اسعار البترول الى مستوى 10 دولارات للبرميل. كما يشير روجوف ايضاً الى ان مدى تأثر الاقتصاد العالمي بارتفاع اسعار البترول يختلف بالطبع بالنسبة للدول النامية والتي تعتبر عرضة لمثل هذا النوع من التأثيرات الاقتصادية تماماً كما كان وضع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال السبعينات. ثانياً: بينما تشير بعض الدراسات الى ان الارتفاع الكبير الذي حققته اسعار البترول مؤخراً يعتبر ? في قيمته الحقيقية، اي بعد احتساب مستوى التضخم- اقل من المستوى الذي وصل اليه خلال فترة السبعينات، تشكك دراسات اخرى خاصة في ذلك عند مقارنة وصول الاسعار الى 70 دولاراً للبرميل خلال شهر آب"اغسطس"2005 مقارنة بقيمته الحقيقية التي وصل اليها خلال فترة السبعينات. ثالثاً: بالنسبة لاوروبا الغربية، والتي تعتبر من اهم المناطق المستهلكة للبترول اكثر من 14 مليون برميل يومياً، فلم تشهد الارتفاع نفسه الذي طرأ على اسعار البترول مقارنة بمناطق اخرى في العالم، وذلك نظراً لانخفاض قيمة الدولار بالنسبة لليورو خلال العامين الماضيين، ونظراً كذلك لأسعار المنتجات البترولية التي يدفعها المستهلك النهائي نتيجة للضرائب، والتي تصل في بعض الدول الى 70 في المئة من قيمة تلك المنتجات. رابعاً: تجمع معظم الدراسات على أن الارتفاع الحالي لاسعار البترول يتعلق بنمو الطلب عليه وليس بنقص في الامدادات كما كانت الحال خلال السبعينات والثمانينات، اذ هو نتيجة انتعاش الاقتصاد العالمي الذي غذى بدوره الزيادات الكبيرة في اسعار النفط والمنتجات الاولية، وادى الى خلل في التوازن بين العرض والطلب العالميين على البترول. فالطلب على البترول من ناحية، الذي شهد مؤخراً ارتفاعاً غير مسبوق مرجعه الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده بعض الدول الآسيوية وابرزها الصينوالهند، لعب دوراً مهماً في ارتفاع الطلب، خصوصاً في غياب وجود طاقة انتاجية اضافية في الصناعة العالمية للبترول. اما العرض العالمي من المنتجات المكررة فله دوره هو الآخر. فهناك نقص في الطاقة التكريرية العالمية والذي ابرزه بشكل واضح اعصارا كاتارينا وريتا وما يترتب عنه من استمرار ارتفاع اسعار المنتجات البترولية، والذي من المحتمل ان يستغرق بعض الوقت حتى انفراج الازمة العالمية الحالية. كما ان بعض دول الانتاج الرئيسة، مثل ايران ونيجيريا وفنزويلا والعراق، فهي عرضة للعوامل الجيوسياسية او تشوبها بعض الاضطرابات السياسية. ولعل ما يضاعف من حدة الوضع كما تشير بعض الدراسات، ترويج انصار نظرية"ذروة الإنتاج"لفكرة نضوب الاحتياطي العالمي للنفط، وان مستوى الانتاج العالمي الحالي قد بلغ ذروته، خصوصاً في ظل انخفاض مستوى الاكتشافات الجديدة بما يتماشى مع الازدياد العالمي للطلب. لا شك في ان لاسعار البترول تأثيراً على النمو الاقتصادي، الا ان هذا يختلف من اقتصاد لآخر ومن فترة زمنية الى اخرى. ففي الولاياتالمتحدة على سبيل المثال، تشير التقارير الى وجود عاملين رئيسين حجبا السوق الاميركية عن التأثر الكلي والمباشر بارتفاع اسعار البترول وهما: السياسة الاقتصادية الاميركية، والعجز الخارجي. فالاقتصاد الاميركي يمر حالياً بفترة عجز مالي خارجي يمول القسم الاكبر منه من دول آسيا وخصوصاً الصين. اضافة الى ذلك، فان مستوى التضخم المتدني ساهم في ابقاء اسعار الفائدة منخفضة وشكل بالتالي فقاعة عقارية ازدهار في اسعار العقارات وضعت المستهلك الاميركي في منأى عن التأثر الكلي بأسعار البترول. الى جانب ذلك، تشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الى ان أكثر الارباح الكبيرة التي جنتها الدول المصدرة للبترول نتيجة ارتفاع الاسعار، انفقت من قبل تلك الحكومات في شراء سندات حكومية اميركية ما اسهم في ابقاء اسعار الفائدة منخفضة. الا ان المحللين البتروليين لا يتوقعون استمرار الوضع على المدى الطويل، بل يجمعون على ان العجز الخارجي الاميركي والذي يمتص معظم الفوائض المجمعة لموازين المعاملات التجارية في العالم، يشكل احد اهم التهديدات او المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي، اضافة بالطبع الى ارتفاع اسعار البترول وتأثيرها المحتمل، واخيراً اسعار الفائدة. اما بالنسبة للدول النامية مثل الهندوالصين، واللتان تشهدان اكبر واسرع نمو اقتصادي تتوقع التقديرات استمرار نمو الاقتصاد الصيني في حدود تسعة في المئة سنوياً فانهما ستتأثران بشكل أكبر بارتفاع اسعار البترول، وذلك بسبب اعتمادهما على الطاقة كمورد رئيس لنموهما الاقتصادي وقيام حكوماتهما بدعم اسعار البترول والمنتجات الاولية، وبالتالي فقد ادى ارتفاع اسعار البترول الى زيادة الانفاق الحكومي للابقاء على اسعار المنتجات منخفضة. أما الدول المنتجة للبترول، فقد حققت حكوماتها ارباحاً كبيرة جراء ارتفاع اسعار البترول، غذت انتعاشاً في اقتصادياتها المحلية وازدهاراً في اسعار الاسهم والعقارات، لا سيما دول الخليج. كما استفادت ايضاً من هذا الارتفاع الدول المجاورة للدول البترولية. الا ان تقرير صدر مؤخراً عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يشير الى ان القسم الاكبر من تلك الارباح دعم النمو العالمي لان الطلب في منطقة الشرق الاوسط قد ارتفع في المقابل، إضافة الى ما ذكر آنفاً من قيام حكومات تلك الدول بشراء سندات اميركية وما نتج منه من ابقاء اسعار الفائدة منخفضة على المدى الطويل ما دعم النمو العالمي. الا ان صندوق النقد الدولي نصح، في الوقت نفسه، تلك الدول بضرورة الوقاية من احتمالات التضخم وتجنب حدوث فقاعة في اسواق المال المحلية. يفهم مما سبق ان من غير الواضح استمرار صمود الاقتصاد العالمي خصوصاً في ظل المخاطر التي تواجهه والتي تتمثل في اسعار النفط المرتفعة وتأثيرها المحتمل، والعجز الكبير والمتزايد في ميزان المدفوعات الاميركي وما ينطوي عليه من خلل في التوازن العالمي. ختاماً، تبقى العلاقة بين ارتفاع اسعار البترول وتأثيرها في النمو العالمي حقيقة ثابتة علمياً، الا ان محاولة الجزم بمدى الكساد او الانتعاش الذي ينتج من صدمات الاسعار يبقى امراً صعباً. فعوامل العرض والطلب على البترول ما هي الا نتيجة حتمية لسياسات اقتصادية وجيوسياسية تضعها الحكومات المصدرة والمستهلكة على حد سواء بما يتماشى ومصالحها الفردية او المشتركة. بل ان النمو الانتاجي والتقدم الاقتصادي الذي تحققه تلك الدول كجزء من الاقتصاد العالمي يشكل هو الاخر المعيار الرئيس الذي تتأثر وفقه اقتصاديات تلك الدول بتقلبات اسعار البترول. لذا من الخطأ الجزم بان ما احدثته ازمتا اسعار البترول في السبعينات والثمانينات من آثار اقتصادية عالمية ستتكرر الان او خلال السنوات المقبلة. ومن الخطأ ايضاً توقع ان تضاعف الاسعار الحالية سيحدث القدر نفسه من الاضرار على الدول المستهلكة نفسها. * باحثة اقتصادية سعودية.