عندما اختارت ادارة مجلة"تايم"الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، لتضعه على قائمة شخصيات سنة 2005، لم تكن تعرف ان مواقفه السياسية المتطرفة سترشحه لسنة 2006 ايضاً، وتعتبره من أكثر رؤساء الدول إثارة للجدل والاهتمام. خصوصاً انه استغل موعد زيارة المستشارة الألمانية انغيلا مركل لواشنطن الاسبوع الماضي، كي يفاجئها بإعلان استئناف البرنامج النووي وانهاء التعاون مع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكان بهذا القرار يريد إلغاء دور الترويكا الأوروبية لأنها - حسب زعمه - تخضع لنفوذ الولايات المتحدة. كما يريد أيضاً ان يستكشف مواقف الدولتين الحليفتين روسياوالصين، لكونهما تمثلان ضمانته الدولية في مجلس الأمن. وهكذا نجح على المدى القريب، في تغيير قواعد اللعبة التي استمرت سنتين بإشراف فرنسا وبريطانيا والمانيا. المراقبون في الأممالمتحدة توقعوا ان يحدث قرار الرئيس نجاد بلبلة داخل مجلس الأمن، على اعتبار ان روسياوالصين سترفضان انزال عقوبات اقتصادية أو سياسية بحق ايران. لذلك طالبت الدولتان بضرورة استئناف الحوار مع طهران أملاً في الحصول على صيغة توافقية متوازنة تعفيهما من استخدام حق الفيتو أو من الامتناع عن التصويت. والمؤكد ان الدول الأوروبية لا تحبذ الإقدام على اي عمل عسكري ما دام البرنامج الايراني يشدد على الطبيعة السلمية لمسألة تخصيب اليورانيوم. والدليل على ذلك ان دائرة الاعلام في الجمهورية الاسلامية اوقفت نشاط مراسل الفضائية"سي ان ان"بسبب تحريف عبارة وردت في خطاب الرئيس عن"تخصيب اليورانيوم". واستنتجت الصحف الاجنبية التي نقلت الخطاب عن القناة الواسعة الانتشار، ان طهران متمسكة بالبحوث النووية، وان هدفها الأخير كسر الحظر الذي وضعته اسرائيل على دول المنطقة بحيث تبقى وحدها الدولة المالكة لسلاح الإبادة. المصادر الأمنية في طهران تقول ان توقيت الاعلان عن استئناف البرنامج النووي، أمر مرتبط بعوامل داخلية وخارجية عدة. كما هو مرتبط بحق ايران في تخصيب اليورانيوم على اراضيها مثلما فعلت الهند وباكستان. ومع ان الإدارة الاميركية هددت هاتين الدولتين بعقوبات اقتصادية وعسكرية اذا طورتا ترسانتهما النووية، إلا ان سلاح التخويف لم يردعهما عن استكمال التجارب. وفي منتصف سنة 1998 اجرت الهند خمس تجارب نووية، وعلى الفور ردت عليها باكستان بإجراء خمس تجارب أُعتبرت كافية لتطبيق سياسة توازن الرعب. وفي اعقاب ظهور هذا الحدث كادت الحرب ان تقع بين الجيشين الباكستاني والهندي بسبب تغلغل الأول في الجزء الهندي من كشمير. وتدخلت واشنطن بين الدولتين لتعلن عن مبادرة خلاصتها ان السلاح النووي يمكن ان يعزز فرص الأمن والاستقرار في تلك المنطقة. وعلى هذا الأساس تحرك الرئيس مشرف لبلورة قواعد لعبة نووية كابحة تجاوبت معها الهند بطريقة ايجابية تتحلى بروح المسؤولية. وفي منتصف السنة الماضية أعربت واشنطن عن استعدادها لبيع باكستان طائرات من طراز أف - 16، متخلية بذلك عن نظام العقوبات. وهكذا اصبحت الدول النووية غير الموقعة على معاهدة حظر نشر السلاح، ثلاثاً هي اسرائيل والهند وباكستان. وفي ضوء هذا الواقع ترى طهران انه من المفيد تقليد هذه الدول بحيث لا تبقى اسرائيل وحدها محتكرة السلاح النووي. كما ترى ان حرمانها من هذا السلاح يعطل تأثيرها في المجال الاستراتيجي المباشر، اي في بلدان الجوار. الإدارة الاميركية تنظر الى دور ايران الجديد كقوة عسكرية واقتصادية تمثل الكثير من التحدي في منطقة الخليج وفي العراق وسورية ولبنان، اضافة الى منطقة آسيا الوسطى. وهي ترى ان قوتها الحربية المتنامية تشكل تهديداً مباشراً للقوات الاميركية المرابطة في افغانستان وباكستان والعراق والخليج. خصوصاً انها نجحت في تطوير جيلين من الصواريخ هما"شهاب"و"فجر"بواسطة تعاونها مع الصينوروسيا وكوريا الشمالية. ولقد أعلنت آخر السنة الماضية ان صاروخ"شهاب 4"أصبح جاهزاً للاستخدام، وان مداه يبلغ اكثر من ألفي كيلومتر، الأمر الذي يجعله قادراً على ضرب كل المدن الاسرائيلية وبعض الأهداف في غرب أوروبا. وتبرر طهران امتلاكها لأسلحة الإبادة الجماعية من خلال استراتيجية قائمة على الردع وليس على الهجوم. السبب الآخر الذي تقدمه واشنطن لتفسير مخاوفها وقلقها، يتعلق بإصرار ايران على تدمير مشروع جورج بوش المعروف ب"مشروع الشرق الأوسط الكبير"، اي المشروع الذي يضم الدول العربية، اضافة الى تركيا وايران وباكستان وافغانستان واسرائيل. ويبدو ان اسرائيل اشترطت قبل انتقالها لتنفيذ المرحلة الثانية من"خريطة الطريق"حل كل المنظمات الفلسطينية التي تعتبرها"ارهابية"مثل"حماس"و"الجهاد الاسلامي"و"كتائب الاقصى"وسائر الاحزاب المسلحة. وترى طهران انه من الإجحاف بحق الفلسطينيين اصحاب الارض، تجريدهم من سلاحهم بهدف استسهال طردهم أو فرض الحلول الاستسلامية عليهم. كما ترى انه من حقها مناصرة حلفائها الفلسطينيين واعانتهم على المقاومة بواسطة المال والسلاح والمتطوعين. ويتوقع المراقبون في رام اللهوغزة هزيمة رئيس السلطة محمود عباس وتياره المؤيد لاتفاق اوسلو خلال الانتخابات المقررة يوم الاربعاء المقبل. ولقد تعرض للانتقاد بسبب تهديده بالاستقالة في حال فازت قائمة المعارضة، لأن هذا الاعلان يعطي الأصوات المترددة الحجة لتأييد"حماس". من هنا تتخوف ادارة بوش من وصول القوى الاصولية المتطرفة الى الحكم في غزة والضفة الغربية، الأمر الذي يثبت تكرار تجربة الجزائر في هذ الجزء من العالم العربي. كما يثبت ان ايران ستتحول الى الجهة الأكثر تأثيراً على مسار القضية الفلسطينية، وأنها ستحل محل مصر والترويكا الأوروبية في أي محادثات قد تعيد مشاريع السلام الى نقطة البداية، خصوصاً أن القيادة الإيرانية نجحت في توحيد صفوف الحركات المعارضة بهدف ارباك السلطة واعاقة تحقيق مشروع المصالحة التاريخية. في هذا السياق، تبدو الزيارة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد لدمشق هذا الأسبوع، كخطوة تجديد لعلاقات التحالف الاستراتيجي التي أرسى دعائمها الرئيس الراحل حافظ الأسد. ولقد تطورت تلك العلاقات بسرعة منذ صيف 1979، أي منذ زيارة عبدالحليم خدام لطهران وإعلانه بأن"الثورة الإيرانية هي أعظم حدث في التاريخ المعاصر، وبأن سورية دعمتها قبل قيامها وأثناء اندلاعها وبعد انتصارها". والمؤكد أن الرئيس بشار الأسد يريد تعميق هذا التحالف على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بغية الخروج من حال الحصار والعزلة الدولية اللتين ضربتهما الولايات المتحدةوفرنسا بواسطة قرارات مجلس الأمن. ويشير المراسلون في دمشق الى توقيع اتفاق تجاري واسع يضمن لسورية مزيداً من كميات النفط بأسعار تفضيلية مخفضة. كل هذا لمساعدة النظام السوري على تخطي الأزمة الاقتصادية التي سببها خروج قواته من لبنان. في ضوء هذه الاعتبارات الاقليمية تنظر الولايات المتحدة الى إيران كقوة تهديد لمصالحها في المنطقة. وهي تبني قناعتها على فرضيات كثيرة منها: بناء ترسانتها الصاروخية والنووية، وتشجيع الحركات الاصولية المسلحة في كل الدول الإسلامية، ودعم المعارضة الفلسطينية، وتفشيل مشروع محاربة"الإرهاب". وتعلق وزارة الدفاع الإيرانية التي تقود جيشاً يزيد عدد أفراده على نصف مليون جندي، على كلام واشنطن بالقول إنه غير دقيق وغير صادق. ففي الحرب الأفغانية تعاونت طهران مع الجيش الأميركي للتخلص من نظام"طالبان"، فكانت تسمح للطائرات بعبور أجوائها. وهي ترى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تتجاوز خطوط الحظر لأسباب سياسية انتخابية. ففي عهد الرئيس رونالد ريغان عقدت إدارته صفقة سلاح ضخمة مع إيران. وفي عهد جورج بوش الأب جرت محاولة تقارب ديبلوماسية أدت الى اطلاق سراح محتجزين في لبنان سنة 1991. وفي عهد الرئيس بيل كلينتون وافقت إدارته على ارسال أسلحة من إيران الى البوسنة. ومنذ سنة 1995 - أي أثناء تطبيق سياسة الحظر - بقيت الولايات المتحدة الدولة الرابعة من حيث سجل التعامل التجاري السري، أو من حيث كميات النفط المصدرة الى أميركا بواسطة العملاء. المخاوف الأميركية غير المعلنة تشير الى احتمال ظهور إيران بعد عشر سنوات، كقوة اقليمية قادرة على حماية مؤسساتها ومنشآتها، إضافة الى رعاية مكتسبات الطائفة الشيعية في العراقولبنان ودول الخليج. ومن الواضح أن تطوير ترساناتهما العسكرية سيشكل قوة توازن تعتبرها أميركا تهديداً مباشراً لقواعدها في منطقة حماية آبار النفط وحقول الغاز. ويستدل من سلوك الصينوروسيا تجاه الأزمة مع إيران، أنهما لا تمانعان في طرد النفوذ الأميركي بغية التخلص من هيمنة احتكار الشركات الغربية لمصادر الطاقة. في ظل الظروف القائمة، تميل الإدارة الأميركية الى التهدئة بانتظار الانتخابات الإسرائيلية، وما ستفرزه من قيادات قادرة على التعامل مع القوة العسكرية الإيرانية المتنامية مثلما تعاملت مع نظام صدام حسين. ويرى ايهود أولمرت، وريث شارون، أن إسرائيل قادرة على تعطيل الهجمة الإيرانية من خلال الضغط على الحكومات في الصينوروسيا والولايات المتحدة وتركيا. ولم يخف أولمرت انزعاجه من الصمت الدولي ازاء تصريحات الرئيس نجاد حول خرافة الهولوكوست، وضرورة طرد اليهود من فلسطين، والبحث لهم عن وطن جديد. ومع أن هذا الطرح يبدو غير واقعي بعد مرور أكثر من نصف قرن على إعلان دولة إسرائيل، إلا أن الشارع الفلسطيني المقهور استماله هذا الكلام بسبب النتائج التاريخية التي أحدثها انهيار الاتحاد السوفياتي. ودلت تلك النتائج على أن كل دولة انقسمت بالقوة مثل المانيا عادت واتحدت، وان كل دولة اتحدت بالقوة عادت وانفصلت مثل يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. والرهان في غزة الآن على انتخاب قيادة تعيد عقارب الزمن الى الوراء بحيث يتسنى للشعب الفلسطيني مراجعة قضيته أمام المحافل الدولية. بالمقابل، يقف في إسرائيل بنيامين نتانياهو للعب دور قيادي شبيه بدور مناحيم بيغن الذي أمر بضرب المفاعل النووي العراقي، بتشجيع من ارييل شارون. ولقد باشر حملته بتطمين المجتمع اليهودي الى أن صحة اختياره في الانتخابات تؤمن بقاء إسرائيل قوية وآمنة. ومثل هذا الوعد يدعمه وعد آخر بأن إسرائيل ستظل وحدها الدولة المالكة للترسانة النووية في المنطقة. وعلى الرئيس أحمدي نجاد أن يثبت بعد اليوم أنه لن يتخلى عن برنامجه النووي، مهما اشتدت الضغوط الدولية وارتفعت صيحات التحذير والاستنكار... * كاتب وصحافي لبناني.