- 1 - علمتني التجارب، ان العمل المشترك يخسر شيئاً جوهرياً ان خسر دعم المشاركين فيه لأهدافه. العمل المشترك، في أي مجال من المجالات، يضعف أو يَقوى، بمقدار عطاء المشاركين فيه. وهذا ما انطبق دائماً على مسيرة غرفة التجارة العربية البريطانية "الغرفة" وأدائها مثلها في ذلك مثل الشركات والمنظمات التي تضم الدول والهيئات. في منتصف خمسينات القرن الماضي، بدأت أوروبا مشوارها نحو السوق المشتركة، وتزامن معها أو ربما كان قبلها بقليل تنادي"جامعة الدول العربية"لقيام"السوق العربية المشتركة"، والآن... وبعد أكثر من نصف قرن، نرى ما حققته أوروبا في مسيرتها التكاملية، وما آل اليه المشروع الاقتصادي العربي. في البداية كان الهدف الأوروبي المرحلي يتمثل في قيام السوق المشتركة، غير أن هذا الهدف كان في اطار تصور استراتيجي متكامل يصل الى اقامة"الاتحاد الأوروبي"وربما يطمح الى ما هو أبعد... رضيت جميع الدول المنضوية تحت لواء"الاتحاد"أن تتنازل عن جزء من سيادتها، مقابل سيادة المؤسسة الواحدة، التي تضم الجميع، وقطع الأوروبيون خطوات جادة وصعبة في هذا السبيل، وتحملت الدول المؤسسة الكبيرة، دول"القلب الأوروبي"، أعباء كثيرة مالية وسياسية، لمعاونة الدول الأوروبية الأخرى، لكي تردم هوة الفروقات الاقتصادية بين مختلف دوله. في المقابل، كان من العسير على"جامعة الدول العربية"جمع العرب على كلمة سواء. فالدول العربية، المنضوية تحت لوائها، لم ترغب في التنازل عن شيء من سيادتها مقابل قيام منظمة قوية تستطيع أن تقدم الكثير في طريق التوحد الاقتصادي وما يتبعه من"سوق عربية مشتركة"، وهي البداية فقط... بل ان بعض الدول تتلكأ حتى في سداد حصصها في موازنة"الجامعة"، ناهيك عن الدعم المالي لبعض من يحتاجه. وخلال العقدين الأخيرين تضاءلت الآمال حتى أصبح مجرد بقاء الجامعة وعدم انفراط عقدها يعتبر هدفاً بحد ذاته وانجازاً يعتد به. فحضور"الدول العربية اجتماعات الجامعة هو في حد ذاته رحمة وأمل"!، على ما قال مرة أحد المسؤولين السياسيين العرب الكبار. وقد كنت على دراية بالجهد الذي كانت الأمانة العامة لپ"جامعة الدول العربية"تبذله في وضع واعداد الدراسات النظرية والميدانية حول"السوق العربية المشتركة"، الا ان تلك الدراسات جفّ حبرها، وبقيت في أدراج المحفوظات في الأمانة العامة، وعندما انتهت جولة"الغات"الى اقامة منظمة التجارة العالمية، استيقظت الدول العربية من سبات عميق لتجد انها أمام استحقاقات بالغة الخطورة تطالبها بفتح أسواقها أمام العالم كله، وهي الدول التي أخفقت طوال نصف قرن في فتح أسواقها على بعضها البعض... فأخذت تجري محاولة اللحاق بالعربة الأخيرة من القطار، لعل"منطقة التجارة""الحرة العربية الكبرى"تستدرك شيئاً مما فات. - 2 - "الغرف المشتركة"مؤسسات حديثة العهد. أطولها عمراً"الغرفة العربية الفرنسية تأسست سنة 1971 وپ"غرفة التجارة العربية - البريطانية"1975، وهما غرفتان بارزتان في أعرق عاصمتين أوروبيتين هما باريس ولندن. وعمل تلك الغرف عمل متمم لأعمال السفراء العرب. فالديبلوماسية تقف أحياناً كثيرة موقف الحذر، بينما"الغرف المشتركة"تتخطى المحاذير السياسية والديبلوماسية وتتحدث باسم المصالح الاقتصادية والتجارية. وحيث لا تستطيع السفارات الدخول، وهي في طبيعتها مؤسسات رسمية، يمكن للغرف، وهي مؤسسات أهلية أو شبه رسمية، ان تتحدث بصوت عال ومختلف. وعلى رغم أن رؤية جامعة الدول العربية لهذه الغرف ودورها كانت واضحة وموثقة وداعمة، وعلى رغم أن هذه الرؤية كانت نتاج توافق الوزراء المتخصصين في الدول العربية كلها، الا ان مجالس السفراء العرب في العواصم التي أقيمت فيها الغرف المشتركة، كانت تتنازعها مواقف متباينة... فبعض السفراء أبدى دعماً كاملاً، وبعضهم عمل على اجهاض الفكرة أو عرقلة عمل الغرف، ووقف الآخرون متفرجين. وكثيراً ما كان موقف سفارات بعض الدول العربية يتغير بالكامل مع تبديل السفراء... وحتى السفير نفسه كان موقفه تجاه الغرفة المشتركة في عاصمة معينة غير موقفه من الغرفة المشتركة في عاصمة أخرى. عند قيام"غرفة التجارة العربية ? البريطانية"، كان للسفراء العرب الذين انتخبوا من المجلس، دور مهم تمثل في انهم"المؤسسون"لهذه"الغرفة"قبل أن تصبح مؤسسة مشتركة. وكان العمل مرهقاً، ومضنياً لتنسيق المواقف بين الاتجاهات المختلفة. وبدأ الدعم في حينه قوياً، والآمال كبيرة في أن تكون"الغرفة"منظمة ذات وزن وكيان مهمين لتلعب دورها في تركيز وتطوير العلاقات العربية - البريطانية. وبعد قيام"مجلس الادارة المشترك"، نصفه من الدول العربية والنصف الآخر من الشركات البريطانية ذات العلاقة أو المصلحة مع الدول العربية، أصبح السفراء العرب بحكم القوانين البريطانية والنظام الأساسي لپ"الغرفة"أعضاء شرف لهم حق حضور الجلسات، والمناقشة، وابداء الرأي من دون حق التصويت. وللظهور دائماً أمام البريطانيين بمظهر الالتحام والتفاهم، فقد رأينا أن يسبق الاجتماع المشترك العربي - البريطاني، اجتماع للجانب العربي تناقش فيه كل المواضيع، بحيث يبدو العرب في الاجتماع المشترك مع البريطانيين على وحدة الرأي والتفاهم. ويلي اجتماع الجانب العربي، اجتماع مشترك غير رسمي بين أعضاء الجانب العربي وبين السفراء العرب لمناقشة المواضيع المطروحة والتزود من السفراء العرب بكل ما يهم عرضه ومناقشته. وبفضل هذا التنظيم كانت الاجتماعات العربية - البريطانية تأخذ أفضل أشكالها، وكان الجانب البريطاني بصفة عامة متعاوناً. كما أن هذا الأسلوب في العمل كان يضع على عاتق الأمانة العامة للغرفة أعباء كثيرة لتكون المواضيع المطروحة على المستوى ذاته من الاهتمام العربي والتوافق البريطاني. وظلت الأمور تسير على هذا المنوال، الأمر الذي أعطى مجالاً لپ"الغرفة"أن تلعب دوراً متميزاً، وتثير قضايا ومسائل تهم الدول العربية، لم يكن أحد يتصدى لها من قبل. - 3 - لم تكن علاقات"الغرفة"بالسفراء العرب، سمناً وعسلاً كلها. فقد كانت علاقات قلقة على رغم أن"الغرفة"كانت لا تألو جهداً في وضع السفراء في الصورة بشكل دائم ومستمر. فكنت أحرص مثلاً على تنظيم الاجتماعات بين الجانب العربي، في مجلس الادارة وبين السفراء لوضعهم في الصورة ولكي يقفوا على مختلف المشاريع التي كانت تنوي"الغرفة"القيام بها وتنفيذها. وعلى رغم قيام الغرفة بنشاطات مشتركة مع مجلس السفراء العرب، واسهامها في موازنة مشاريع المجلس بمبالغ كبيرة، وبما يحظى بموافقة الجانب البريطاني في مجلس الادارة، وفي اطار قواعد الاعفاء الضريبي في المملكة المتحدة، وعلى رغم قيام"المجلس الاقتصادي والاجتماعي"في"جامعة الدول العربية"- وهو على مستوى الوزراء - بوضع سقف لهذه المساهمات المالية لا يتجاوز امكانات الغرف المشتركة وهو 15 في المئة كحد أعلى - اذا أمكن - من حصيلة رسوم"شهادات المنشأ"، فقد تحولت هذه المساهمة المالية الى قضية جدالية تسبب حالة معينة لا تخلو من التوتر في العلاقة بين الغرفة ومجلس السفراء العرب لعدم التزام الأخير بقرار"المجلس الاقتصادي الاجتماعي"... والحقيقة أن"مجلس الغرفة"كان متجاوباً ومتعاوناً مع السفراء العرب في الطلبات المالية التي كان السفراء يرون صرفها في أنشطة اعلامية وثقافية واقتصادية تخدم القضايا العربية والعلاقات العربية - البريطانية. غير ان هذه الطلبات كانت في أحيان غير قليلة تتجاوز امكانات الغرفة وتشكل عبئاً مرهقاً على برامجها وأنشطتها. وهذا الأمر كان يجعل الطرف الأجنبي في مجلس الادارة، ينظر الينا نحن العرب، والى مؤسساتنا نظرة مشوبة بعدم التقدير. وهذا لا يعني ان المسؤولية كلها تقع على عاتق السفراء، انما تقع أيضاً على بعض ممثلي الجانب العربي، الذين يتهيبون ابداء رأيهم بصراحة أمام سفراء دولهم أو مناقشتهم والتفاهم معهم، أو يعمدون الى المبالغة في المجاملة على أساس أن"الزمن حلال العقد"... واذا كانت المسؤولية تقع على الطرفين، فإنه من باب أولى أن يتحمل السفراء مسؤولياتهم، فهم الجانب الأقوى بما يمثلونه من سلطة مستمدة من حكوماتهم. - 4 - ولكي لا يأتي ما أكتبه هنا، مغلفاً بكلمات قد يحملها كثيرون ما لا تحمل من تأويلات وتفسيرات، أسارع الى القول: yن دور وفضل السفراء العرب في قيام"غرفة التجارة العربية ? البريطانية"وفي اشتداد عودها ودعم بنيتها، لا يمكن انكارهما على الاطلاق... غير ان طبيعة العمل الديبلوماسي تفرض تغير السفراء، وأن تغير الأشخاص يؤدي ? بطبيعة الحال - الى اختلاف المواقف وخصوصاً في الدول النامية التي تطغى فيها"الشخصية"على المؤسسة. لقد أدت هذه الحقائق، بعد مغادرة السفراء الرواد، الى التباس كبير لدى من خلفهم حول مفهوم الغرف ودورها الأساس، وحول كيانها القانوني والمسؤولية القانونية لمجلس الادارة... وساعد هذا الالتباس ما شهده العالم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية من أحداث جسام عمقت الخلافات العربية - العربية وأضعفت الجهود التكاملية، وأيقظت الحساسيات القطرية والاقليمية على حساب الفكرة القومية... وهو ما انعكس بوضوح على مؤسسات العمل العربي المشترك ولا أستثني منها واحدة. وهذه العوامل مجتمعة جعلت بعض السفراء العرب ينظرون الى"الغرفة"وكأنها"مؤسسة تابعة"، كما جعلت بعض أعضاء مجلس الادارة العرب ينظرون اليها وكأنها مجرد"شركة تجارية"، يريدون فيها دوراً ونفوذاً يتناسبان مع حجم التصديق على وثائق التصدير الى بلادهم. وبفضل تغليب المنطق"الاقليمي"على"النزعة القومية"، أظهر بعض السفراء العرب أنفسهم على أنهم"رؤساء فعليون فرديون"في تعاملهم مع"الغرفة"، وليسوا ممثلين لدولهم العربية، وضمن اطار"جامعة الدول العربية"أو"بيت العرب"كما يحلو للبعض تسميتها، حتى وجدنا ان بعضهم يُعلن على الملأ عدم اعترافه شخصياً بأي دور لپ"جامعة الدول العربية"في عمل"الغرفة"، اضافة الى انكار دور الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية. وعلى رغم تلك المنغصات والمعوقات، إلا ان"الغرفة"تمكنت بجهود المخلصين النزيهين المؤمنين بدورها الريادي، من أن تصم أذنيها عما يحرج العاملين فيها، واستقوت على المحنة، تؤدي دورها في رفد العرب بخدماتها، وانتصبت منارة ومصدراً مهماً للمعلومات عن الدول العربية. وظلت أبواب"الغرفة"مشرعة، ولم تغلقها كما حدث في إحدى الدول الأوروبية، حيث جمد نشاط الغرفة فيها نتيجة احتدام الصراع بين سفيرين عربيين، لهما مكانتهما وقدرهما، ولكنهما تسببا في عرقلة عمل الغرفة حتى وهنت وفشلت، ولم تسترد عافيتها إلا بعد أن غادرا. كما قام أحد السفراء العرب في الولاياتالمتحدة بتصرفات أدت الى زعزعة مكانة"الغرفة العربية - الأميركية"، وكادت ان تقفل أبوابها، لولا مسارعة حكومة المملكة العربية السعودية الى انتشالها من كبوتها، فعادت ووقفت على قدميها. - 5 - عرفت"غرفة التجارة العربية - البريطانية"خلال ثلاثة عقود، رجالاً على درجة عالية من الوعي القومي ونظرة استشرافية للمستقبل، يغلبون مصلحة الأمة العربية على كل مصلحة. وبفضل هؤلاء وغيرهم، مارست"الغرفة"دورها المتميز مع السياسيين البريطانيين، فكانت بمثابة المصباح الذي يستخدمه السياسيون والاقتصاديون البريطانيون ليروا دربهم في التعامل مع الدول العربية. وهذا ما شجع المسؤولين في"الغرفة"على الحديث مباشرة مع وزراء التجارة والخارجية وحتى الداخلية، بل وصل الأمر الى رئيس الحكومة البريطانية، خصوصاً عندما كانت"الغرفة"تستشعر الخطر أو حجم الظلم الواقع على بلد عربي ما... سواء كان سياسياً أم تجارياً أو حتى عسكرياً، ولعل آخر هذه الحوادث ما قدمه اللورد برايور، لرئيس الحكومة توني بلير، في ما يتعلق بفلسطين والعراق. وكان لحضور"الغرفة"على الصعيد الإعلامي البريطاني قيمته دائماً، حيث تصدت لعدد من الحملات الاعلامية المغرضة والجائرة تجاه رموز عربية أو مفاهيم دينية، ومواقف وطنية... ولم يبخل كثيرون من كبار المسؤولين العرب في الثناء على دور"الغرفة"وجهودها. كما كانت اجتماعاتنا بالسفراء تنتهي دائماً بإطراء ادارة الغرفة وتثمين انجازاتها. غير ان نيات الكثيرين لم تكن منسجمة مع أقوالهم. أكتب هذا بأسف وأسى، لأن من أهم الأسباب التي زادت من سلبيات العمل في"الغرفة"، وأقصد هنا"الفارق بين الواقع والطموح"، عدم إيمان عدد من المسؤولين العرب بقيمة العمل العربي المشترك، ما أضاع كثيراً من الوقت في دهاليز الاجتماعات، سواء لتصحيح صورة مغلوطة، أو لنفي إشاعة مغرضة، أو لتقريب وجهات النظر المختلفة بسبب حساسيات موروثة. وكأن ذلك لم يكفِ حتى دخل لزيادة معاناتنا، أصحاب"النظرة المنبهرة"بكل ما هو غربي، مقابل"النظرة الدونية"لكل ما هو عربي! حتى وصل الأمر ببعض"المستغربين"العرب من مدعي الثقافة الغربية الى القول ان العمل العربي المشترك قد ولى زمانه وانتهى، والى ان يتوجه احد السفراء البارزين وباسم مجلس السفراء العرب الى المطالبة بأن يكون أمين عام الغرفة من جنسية عربية محددة... وإلا!! لقد طالبت"غرفة التجارة العربية - البريطانية"الدول العربية، وعلى لسان مسؤول في حجم جاك سانتير، المفوض الأوروبي حينذاك، بأن تتعامل مع"الاتحاد الأوروبي"باعتبارها كياناً موحداً اقتصادياً على الأقل، وليس كدول مختلفة تبحث كل منها عن مصالحها الخاصة. إلا انه مع الأسف استمعنا لكلمة الرجل وصفقنا جميعاً لها كثيراً، وربما تم تناسيها قبل انتهاء مأدبة العشاء... فصل من كتاب"أحداث لها تتمة..."،"قصة غرفة التجارة العربية - البريطانية"، تأليف عبدالكريم المدرس، الأمين العام للغرفة سابقاً والرئيس التنفيذي.