تدخل الشاعرة السعودية الشابة هيلدا اسماعيل عالم الشعر من أضيق أبوابه أي من القصيدة القصيرة جداً التي لا تتخطى بضعة أسطر وأحياناً بضع كلمات. هذا ما يفصح عنه ديوانها الجديد"أيقونات"الصادر عن"المؤسسة العربية"في طباعة فاخرة جداً غالباً ما يحلم بها الشعراء المتقدّمون سناً وتجربة. واعتمدت الشاعرة"لعبة"البياض موزّعة قصائدها القصيرة وسع الصفحة، جاعلة من الحروف عناصر فنية وكأنها ترسم القصيدة رسماً ولكن من غير أن تميل الى ما يسمّى بالفرنسية"الكاليغرام"وهي القصيدة ذات البعد التشكيليّ النافر على غرار قصائد كثيرة للشاعر الفرنسي غيّوم أبولينير الذي كان يرسم القصيدة مانحاً اياها الشكل الذي توحي به. تكتب هيلدا اسماعيل قصيدة قصيرة جداً لكنها لا تكتب قصيدة"البياض"الملغزة و"المتسعة الرؤيا"إن أخذنا بقول النفّري الشهير:"كلّما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة". فقصيدتها لا تلجأ الى الصمت لتقول ما وراءه، بل تختصر الكلام لتقول ما ينبغي أن تقوله بلا زيادة ولا نقصان. قصيدتها في هذا المعنى قائمة على الكلام الموجز وليس على الصمت المدوّي كما علّمتنا قصيدة البياض التي كتبها شعراء كبار مثل ستيفان مالارميه قصيدة"ضربة نرد" أو أندريه دوبوشيه وكلاهما فرنسي. وتتوجه الشاعرة في أحيان كثيرة الى مخاطبة الآخر في بعض قصائدها وكأنها تتكلم معه مما يجعل القصيدة القصيرة أداة للتخاطب"البرقيّ". وهي على قناعة تامة بأن"أرذل الشعر/ نص طويل"كما تقول، مكررة الياء طباعياً بغية أن يشعر القارئ بمفهوم الطول:"طو ي ي ي ل". الا ان الشاعرة قسّمت ديوانها الى ثلاثة أجزاء تحمل عناوين مختلفة هي: أنثى مواربة، تناهيد، مواءات. ويمكن القارئ أن يتخطى العناوين والأجزاء ويقرأ القصائد القصيرة وكأنها أشعار متوالية، تبعاً لتشابهها بعضاً ببعض، لغوياً وتقنياً. تعلن الشاعرة في احدى القصائد أنها جعلت"قصائدها القصيرة"شباكاً تصطاد بها الحبيب في"الشعر العكر". هنا يكتسب الشعر مهمة اضافية هي اصطياد الرجل الذي تخاطبه"الأنثى"مباشرة ولكن ليس في الماء العكر بل في الشعر العكر. كأنها اذ تصطاده انما تحرره من حال الاعتكار مثلما سيحررها هو بدوره من هاجس الموت. في هذا الصدد تقول الشاعرة في قصيدة أخرى:"أحتاج يدك/ هاتها/ لنجذّف بالقصيدة/ ضدّ الموت". يد"الحبيب"هي التي ستؤازرها في الخروج من هاجس الموت المشبّه بپ"البحر". بل انها لن تتوانى أيضاًَ عن جعل"الحبيب"شاعراً بدوره وعن جعل نفسها"القصيدة"، كأن تخاطبه قائلة:"يا شاعري/ اكتبني قصيدة"أو:"بكَ/ ضفّرني قصيدة". لا يبدو شعر هيلدا اسماعيل"نسويّ"النزعة ولو كان أنثوياً وپ"موارباً"في أنثويته، كما يعبّر عنوان الجزء الأول. فالأنثى هي دوماً في مقام الضحية، ضحية الحبّ الذي هو الألم والجرح والحزن... ويكفي احصاء المفردات التي تدلّ على مفهوم"الضحية"حتى تتضح حال المعاناة التي تكابدها الشاعرة وتشفعها أحياناً بالسخرية المرّة أو الأليمة:"أجلس القرفصاء/ وأموء"تقول الشاعرة في ختام الديوان، أو:"25 عاماً/ قضيتها في مقعد واحد/ في قاطرة واحدة/ كانت تقودني/ الى الخلف". وتصف نفسها في احدى القصائد بپ"الطفلة الدبقة"وبپ"لوح شوكولا/ لا يلتصق بلسانه". وتقول أيضاً:"أفقأ أمنياتي/ وأجهش... بالضحك". تدرك"الأنثى"هنا أنها"ضحية ممكنة"ولكن لپ"الشوق"، هذا الاحساس العميق والشائك والأليم الذي لا يطفئ ناره سوى"الحبيب"نفسه أو الوصال واللقاء. وهي لن يضيرها أن تجاهر بصفتها"ضحية"ما دامت تعاني وتتوق الى الخروج من معاناة تدري في دخيلتها أنها معاناة قدرية. والمجاهرة بهذه الحال لن تنال من موقعها ولا من حياتها، ولن تجعلها راضخة وأسيرة. فهي تكتب لتوقف"الموت"كما تقول ولتواجه الحياة نفسها في قدريتها وطابعها المأسوي. بل انها تعترف بپ"انثويتها"المتضوّرة بجرأة تامة كأن تقول:"أنثى أنا/ كلما تضوّرت/ صرت أشهى". ولعل التضوّر الذي تقصده ليس التضوّر جوعاً وانما حباً وشوقاً. الجرأة التي تتسم بها الشاعرة هيلدا اسماعيل جعلت قصائدها تبتعد من منابت"البوح"الأنثوي الذي تقع في شراكه شاعرات كثيرات وخصوصاً في بداية تجاربهن. والجرأة هذه غير مفتعلة أو مصطنعة، ولم تتعمّدها الشاعرة لتحدث فضيحة أو"ثورة"أو لتطلق شعارات رنانة وخاوية. الجرأة تنبع هنا من الاحساس الداخلي، المأسوي أو التراجيدي ومن عمق المعاناة التي تواجهها"الأنثى"في مقتبل حياتها، عاشقة وحالمة. وهذا ما يبعد القصائد عن الاتجاه"النسوي"وعن النضال وپ"الصراخ"وهذا أيضاً ما يحيطها بجوّ من الألفة والكآبة الشفيفة والجوى:"لأنني لا أتقاسمه/ الا مع نفسي/ الألم/ يجعلني وحيدة"تقول، أو:"فراشي حزين/ وأعمى"، أو:"أليس بين الجرح/ والجرح/ يسكن قلبي؟". لكنّ الشاعرة لن تنثني عن مواجهة"الحبيب"مواجهة تتفاوت بين التأنيب والعتاب والتودّد. هكذا مثلاً تخاطبه جهاراً:"أيّها اللص/ أرجع لي فمي". قصيدة قصيرة لا تتعدّى الجملتين لكنها جريئة جداً وتختصر ببضع كلمات حالاً من الوجد لا حدود لها. وفي قصيدة أخرى تقول له:"لا تريدني/ دعني استمتع بي"، وكأنّها ثوب يبحث عن حريته الكامنة في الوحدة. وتقول أيضاً:"وسادتي تحكي/ كنت هنا/ رائحتك ما زالت ساخنة". انها الجرأة تدفع الشعر الى القول المأسور، استيهاماً وربما ذكرى. في الجزء الأخير من الديوان وعنوانه"مواءات"تتوهم"الأنثى"أنها هرّة وأن"الحبيب"بدوره هر. الحال هذه لن تعني"الامّساخ"عقاباً أو ذلاً. فالمواء كما تقول الشاعرة هو"صرير قلب/ تئن مفاصله/ وجعاً". واذا أعربت"الأنثى"عن استمتاعها بپ"تدليل الأصابع"فهي ستدفع"الحبيب"الى استخدام"مخلبه السادس"ليحفر وجهه فوق ظهرها، كما تقول في إحدى الفقرات. وكانت سألت نفسها:"دمية أم قطة أنا؟"من غير أن تحسم الأمر، فپ"كلتاهما تستمتع". وعندما تقول في النهاية انها تجلس القرفصاء وتموء فإنما تؤكد احتجاجها على مأساتها ولكن بصوت خفيض هو المواء. لعل هذا الموقف هو ذروة ما يمكن أن يقوم به المرء تمرّداً ورفضاً بعيداً من الصراخ وپ"الجعجعة". ولئن قالت الشاعرة ان"أرذل الشعر/ نص طويل"فإنّما لاعتقادها بأن الشعر المكثف الذي تكتبه قادر على أن يؤدّي الرسالة التي يفترض بالشعر أن يؤدّيها. لكنّ قصائد كثيرة في ديوانها بدت كأنّها تتخلى عن اللحظة الشعرية لتقع في النثر العادي وفي الكلام الخالي من الايحاء والجمالية. فاللعبة التي اختارتها هي على مقدار من الخطورة، فهي اما أن تنجح واما أن تسقط في الانشاء. علماً أن الشاعرة لم تسع الى كتابة القصيدة - اللحظة أو قصيدة البياض، بل اكتفت بالاختصار والقول القليل عبر القصيدة - اللقطة. حتى الصور الشعرية تكاد تغيب عن القصائد القصيرة، ما خلا بعض الاستعارات التي ضمّتها بضع قصائد ومنها:"الساعة تمام القاسية"أو:"عن ظهر موسيقى/ أحفظ تضاريس شفتيك". وقد تميل القصائد القصيرة هذه الى اللحظة - الفكرة أكثر من ميلها الى الخلق الشعري. انها قصائد تتوسل النثر لتقول فكرة ما أو لتعلن موقفاً ما أو لتصف حالاً ما أو مقاماً:"أليس خيراً/ يفوتني قطار الحب/ بدلاً من أن يدهسني؟"تقول. وقد يشعر القارئ في أحيان أن القصيدة تنتهي من غير أن تؤدّي"رسالتها"وأنها تحتاج الى الزائد من الكلمات لتكتمل أو أنّها تحتمل مزيداً من الكلام الشعري. لا أدري ان كان هذا الديوان هو باكورة الشاعرة السعودية الشابة أو ديوانها الثاني أو الثالث، فالقصائد على رغم بعض الهنات تنمّ عن قدْرٍ من النضج في الاختصار والتكثيف واستخدام اللغة بطواعية وفي التعبير الذي لا يخلو من الشفافية.