هل تحولت الموصل، أكبر المدن السنية العراقية 370 كلم شمال بغداد الى فلوجة ثانية؟ وما الذي يجرى في المدينة التي اعتبرها صدام حسين عام 1991 من المدن"البيض"لعدم انتفاضتها عليه؟ ما هي الجماعات المسلحة الناشطة فيها؟ وما مدى صحة التقارير التي تتحدث عن سيطرة جزئية لقوات الأمن والشرطة عليها؟ على رغم نفي المسؤولين الأمنيين في العراق مراراً فقدانهم السيطرة على المدينة، إلا أنه لا يكاد يمر يوم من دون أن تشهد الموصل انفجارات وحوادث قتل وعمليات انتحارية، ضد مقرات الشرطة والأحزاب والدوائر الحكومية. وتتحدث مصادر مختلفة عن سيطرة حكومية ضعيفة على المدينة التي شهدت في العقود القليلة الماضية تحولات كبيرة في بنيتها السكانية والاجتماعية. واللافت ان الموصل ظلت حتى آخر عام 2004 هادئة نسبياً. فما الذي حدث كي تتفجر الأوضاع فيها وتفقد الشرطة السيطرة تماماً عليها لأيام عدة كما حدث في وقت سابق من العام الحالي؟ الأوضاع الأمنية نائب محافظ الموصل خسرو كوران نفى في حديث الى"الحياة"ان تكون الأوضاع في المدينة خارج سيطرة الحكومة. وكشف عن ان"وصول قوات أمن من كردستان العراقوبغداد لمحاربة المسلحين"كانت سبباً في"انحسار الارهاب والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية، واستتباب الأمن فيها نسبياً". غير أن تقارير أشارت الى استمرار تدهور الأوضاع فيها خصوصاً في بعض مناطقها. وبحسب مصدر في قيادة شرطة نينوى، فجر انتحاري كان متنكراً بملابس عسكرية نفسه صباح 16 تموز يوليو الجاري، في مديرية شرطة حمام العليل 30 كلم جنوب الموصل فقتل على الفور أربعة من عناصر الشرطة، وجرح 18 شرطياً، إضافة الى أضرار جسيمة في المبنى. وقبل يوم من ذلك، تعرض قطار الموصل - ربيعة المحمل بالنفط الخام الى هجوم مسلح كثيف بالقذائف والأسلحة الخفيفة. وذكر مصدر في مديرية سكك حديد المنطقة الشمالية ان القاطرة المرقمة 2750 كانت في طريقها إلى ربيعة عند نقطة التبادل الحدودي حينما قامت مجموعة من المسلحين بفك قضبان السكة الحديد عند الكيلومتر 418 في حي التنك في الجانب الأيمن من الموصل مما أدى إلى جنوح شاحنات القطار مع القاطرة. مثل هذه الحوادث اصبحت يومية، لكنها لا تُغطى من جانب الصحافة الدولية، لخطورة الأوضاع، وخشية وسائل الاعلام العربية والدولية من ارسال مراسليها الى المدينة. قائد الجيش الأميركي في الموصل الجنرال رودريغز توجه في 13 تموز الجاري الى المعقل الرئيس لحزب رئيس الجمهورية جلال طالباني في"قلاجولان"لتقديم الشكر الى الاتحاد الوطني الكردستاني"لدوره المهم في مقارعة الارهابيين والحد من هجماتهم وإفشال عملياتهم". ما يعكس دوراً كردياً متنامياً في السيطرة الأمنية على المدينة. خسرو كوران نفسه وهو كردي، أكد لپ"الحياة"اعتقال عدد كبير من"رؤوس الخلايا الارهابية في المدينة من أشهرهم: الملا مهدي عربي سني من عشيرة الجبور ينحدر من قرية"حُميرة"التابعة لناحية نمرود، قام بذبح عشرات الأشخاص". واعتقال قيادي آخر في الجماعات المسلحة هو محمد خلف شكار، الملقب بپ"أبو طلحة". وأوضح انه كان"ضمن تنظيمات النظام السابق وتحول بعد زواله الى عنصر خطير ضمن أحد التنظيمات الاسلامية المتطرفة"، مشيراً الى وجود علاقات استخباراتية ومادية تربط المجموعة الأولى بالثانية. ورحب كوران بتعاون"الموصليين المتزايد مع الحكومة في الابلاغ عن النشاطات المشبوهة". وقال:"إن عناصر الجماعات المسلحة يخفون أنفسهم الآن من أعين الناس بعد أن كانوا يقومون بأعمالهم علانية امام الجميع". وتابع:"عدم كفاية قوات الأمن في الموصل واختراق تلك القوات من جانب الجماعات المسلحة أدى أيضاً الى انتشارها"، مشدداً على أن إشراك العرب السنّة في العملية السياسية الجارية في العراق الآن وصوغ الدستور خطوة لها أهميتها للحد من عمل هذه الجماعات المتطرفة. ويعتقد بعض المراقبين ان الموصل تُعتبر اليوم عاصمة ما يسمى"المقاومة"والجماعات المسلحة، خصوصاً بعد ضربة الفلوجة، لكن عدداً من سكان المدينة الأصليين ينفون ذلك بشدة، ويقولون إن مدينتهم"رهينة بيد الأرهابيين والحكومة عاجزة عن تحريرهم"! لمدينة المستباحة أحد المثقفين الموصليين نسبة الى الموصل طلب عدم الكشف عن اسمه، رفض في حديث له الى"الحياة"اتهام الموصل بأنها"حاضنة للارهاب"، وقال:"لو كانت حاضنة للارهاب لانتفضت بجماعاتها وسكانها من اول أسبوع كما حصل في الفلوجة ومثلث الموت". وأضاف:"الموصل تعاني من انقسام فكري وعقائدي وأيديولوجي، فهي ليست معقلاً للاخوان المسلمين كما هي حال سامراء والأعظمية مثلاً، وهي ليست معقلاً للناصرية والبعثية، حتى وان وجد فيها النوعان معاً، إذ انها زاخرة بالشيوعيين والتقدميين والليبراليين الذين سكتوا وخافوا وانزووا في بيوتهم، ناهيك عن المسيحيين الاصليين في المدينة". ويرى ان الموصل زادت احتقاناتها الاجتماعية لا السياسية بحكم "هجمة الاطراف عليها من كل حدب وصوب... اذ انها تطوّق باحياء غريبة عليها مملوءة بالغرباء مثل حي الخضراء وحي التنك وحي الزنجيلي واحياء الساحل الايسر وفيها سكان من كل الاجناس هم ليسوا من أبنائها، بل قدموا من ارياف جنوبالمدينة من قرى حمام العليل والشرقاط ومن عربان اللهيب والجبور. وهناك نازحون اعافرة وشبك وأكراد من جهات الشرق. انها مدينة مطوّقة بقوى سكانية لا تمت لتراث المدينة بصلة ابداً ولا لقيمها المدنية وتعايشاتها الاجتماعية". ويعتقد المثقف الذي رفض الكشف عن اسمه ان مشكلة المدينة تنحصر في هذا الطرح، وهي"مشكلة بدأت منذ زمن طويل حتى مع جوبة البكارة وجوبة النبي شيت وسكان باب سنجار الذين ينتمون للناصرية والبعثية... انني لا انزه سكان المدينة من الاشتغال بالسياسة الدينية وبالقومية العربية والافكار الماركسية، ولكن ابناء الموصل الحقيقيين لا يعرفون العنف ابداً مهما كانت لديهم اتجاهاتهم السياسية... انها مشكلة العام 1959 نفسها عندما فعلت الاحقاد الاجتماعية فعلتها وهب الرعاع وارتهنت الموصل لعصابات اغتيال". ورداً على من يتهم أبناء الموصل بالارهاب قال:"إن ابناء المدينة الحقيقيين محجوزون فلا تظلموهم... انهم لا يعرفون ماذا يفعلون. فهم اشبه بمرتهنين لدى تلك القوى الضالة ، فلا تتهموا الناس وهم أبرياء... وأعتقد بأن مشكلتها ستبقى هكذا ما دامت مطوقة بعناصر وقوى سكانية عربية، وهي المدينة الحضارية القديمة التي يقطنها قدماء يضيعون يوماً بعد آخر وفيها من اقدم الكنائس واعرق الاماكن الحضارية والدينية الاسلامية والمسيحية، وبرز منها اعظم العلماء وابرز الشعراء وافضل المثقفين والساسة والمعلمين". مدينة الضباط تعتبر الموصل أيضاً مدينة الضباط. منها تنحدر عدد كبير جداً من قادة الجيش والأجهزة الأمنية للنظام السابق. ويوجد فيها حي الضباط الراقي الذي يقطنه المئات من هؤلاء. وبدءاً من عقد الثمانينات من القرن المنصرم، أثناء الحرب العراقية ? الأيرانية 1980 ? 1988 كثف صدام حسين من اهتمامه بقادة الجيش والضباط الكبار، فأغدق عليهم الهبات والمكارم وبنى لهم القصور، وأهداهم السيارات الفارهة، ومنحهم السلطة المطلقة في المجتمع. فكان من الطبيعي ان يكوّن هؤلاء"سلطتهم الخاصة"التي ربطها النظام السابق بمصيره. وبعد سقوطه سقطت معه هذه"السلطة"وفقد أصحابها امتيازاتهم، فوجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها على قارعة الطريق، خصوصاً بعد حل الجيش العراقي من جانب الحاكم المدني الأميركي السابق للعراق بول بريمر. وهكذا لم يستغرب أحد انضمام غالبية هؤلاء الى الجماعات المسلحة المتطرفة. ونظراً لقرب الموصل من سورية، استغل مقاتلون عرب ضعف الاجراءات الأمنية على الحدود، فاجتاحوا المدينة، في ظل اتهامات حكومية عراقية بتواطؤ من جانب الاستخبارات السورية، مستفيدين من الدعم اللوجستي الذي قدمه لهم ضباط جيش صدام السابق والعشائر الموالية له، التي تحيط بالمدينة. كذلك الحال، أدى قصف المقاتلات الحربية الأميركية، في آذار مارس 2003 لمواقع حركة أنصار الاسلام الكردية في جبال كردستان العراق الى لجوء المئات من هؤلاء الى المدينة، بسبب مطاردتهم من قوات" البيشمركة"الكردية التابعة لحزبي جلال طالباني ومسعود برزاني. المسؤول الكردي في الموصل خسرو كوران صنف الجماعات المسلحة في المدينة الى ثلاثة أصناف"إما بقايا النظام السابق وأزلامه من ضباط الجيش والاستخبارات والحرس الجمهوري وفدائيي صدام وقسم من البعثيين الذين كانوا جزءاً من عمليات التعريب". والنوع الثاني، هم من" عناصر الارهاب الوافد الى العراق من الانتحاريين وجذورهم تمتد الى تنظيمات القاعدة بزعامة أسامة بن لادن". مشيراً الى انه جرى"تشكيل مجاميع مرتبطة بها مثل"أنصار السنة"وپ"أنصار الأسلام"وپ"جماعة التوحيد والجهاد"وپ"سرايا المجاهدين"وغيرها من التسميات. وقد تمكنت تلك الجماعات من احتلال مناطق بكاملها في المدينة وأقفالها على عناصرها كالاصلاح الزراعي والموصل الجديدة واليرموك و17 تموز". وأوضح"أن تلك الجماعات تحاول تصفية حساباتها مع الأمريكيين على أرض العراق مستفيدة من ضعف السلطة التي تحكم العراق حالياً وتريد السيطرة الكاملة على الوضع الأمني فيها". أما الصنف الثالث الذي يثير الفوضى في الموصل وپ"الأكثر إثارة للشغب"بحسب كوران يتمثل بمجموعة"عتاة من المجرمين الذين أطلق صدام حسين سراحهم في تشرين الأول أكتوبر 2002 قُبيل سقوطه بأشهر، بعد أن أعدم المعتقلين السياسيين من أصحاب المبادئ... هذه المجموعات لها باع طويل في مجال القتل والاغتصاب والسلب والنهب. وقد نشط عملهم في ظل غياب دولة القانون وطغيان الفوضى على النظام وقلة فرص العمل". الدور الكردي لا شك ان بعد تنامي الدور الكردي في عراق ما بعد صدام حسين، فان الأحزاب الكردية، تحاول إضعاف المسلحين في المدينة وشل قدرتهم على إثارة المشكلات في مدينتي أربيل ودهوك المجاورتين للموصل. ويعتبر الأكراد مناطق في الموصل، كسنجار مثلاً، تابعة لهم محا صدام حسين طابعها القومي وعرّبها. وتحاول الأحزاب الكردية من جهة ثانية، تعزيز نفوذها في منطقة سهل نينوى ذات الغالبية المسيحية المحاذية لاقليم كردستان. وتصطدم طموحات وأهداف الكرد في الموصل بالبعثيين وبقايا النظام البائد، والجماعات المسلحة التي تسعى بكل قوتها الى ضرب الجماعات الكردية، وهو ما حصل مرات عدة في مناطق ربيعة وتلعفر وفي قلب المدينة نفسها، حيث تعرض الأكراد الى حملة اغتيالات ما زالت مستمرة. ويرتبط الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بعلاقات قديمة مع بعض عشائر المنطقة العربية منها عشيرة شمر، التي تمتد علاقاتها الى زمن الملا مصطفى بارزاني والد مسعود بارزاني. وتستخدم الجماعات المناهضة للأكراد في المدينة في حربها ضدهم، المشاعر القومية، والادعاء بأن الكرد عازمون على غزو الموصل وتكريدها! الموصل تاريخياً يقول الكاتب ازهر العبيدي في كتابه"الموصل ايام زمان"إن الآشوريين اتخذوا من مدينة نينوى عاصمة لهم في سنة 1080 ق م. وكشاهد على ذلك يجد الزائر للمدينة آثار نينوى الكائنة في الجانب الايسر من مدينة الموصل حالياًً. وحصّن الاشوريون نينوى بالاسوار والقلاع التي نشاهد اثارها اليوم في باب شمس وتل قوينجق وبوابة المسقى وبوابة نركال وتل التوبة النبي يونس والتي يربطها سور نينوى المطمور في معظم اجزائه. وبعد الفتح الإسلامي لها في سنة 16 ه شهدت الموصل عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعقليين والعهد السلجوقي وبعده الاتابكي ثم جاءت سيطرة المغول والتتر والفرس. ثم العهد العثماني والاحتلال الإنكليزي حتى قيام الدولة العراقية سنة 1921. ويرى المستشرق جان موريس الدومينيكيان وهو من أكثر المهتمين بالموصل وتراثها وتاريخها ولغتها ومعالمها إن أول اسم للموصل كان"ماشيل". من القبائل العدنانية التي سكنت الموصل بكر وأياد ونمر وتغلب وقضاعة وكانت معظمها تدين بالنصرانية ثم أسلمت بعد الفتح الإسلامي. وسكنت الموصل قبائل قريش وثقيف وبني شيبان وبني الحارث وبني تميم والأمويون والعباسيون والعلويون والعمريون وبنو سعد بن لؤي وبنو عبادة بن عقيل وغيرها من القبائل التي نزحت إلى العراق من اليمن بعد حادثة سيل العرم، أو محررة مع الجيش العربي الإسلامي ثم تكاثرت هذه القبائل وتفرعت أصولها إلى فروع كثيرة والمعروف منها الآن في الموصل: طي وعبيد والجبور والحديدين والعزة والشهوان والحيال والجحيش والشمر …الخ، كما سكن الموصل وشمالها"الاكراد"ومن عشائرهم : المزوري والزيباري والهركي والبرواري والدوسكي…الخ. وتمتاز الموصل باحتضانها أقدم وأعرق الجوامع والمساجد والكنائس والأديرة القديمة، منها: جامع النبي يونس، والجامع الأموي، والجامع النوري ومرقد الإمام يحيى بن القاسم رض. ومن الكنائس والأديرة القديمة في الموصل، دير مار متى، ودير الربان هرمزد في القوش، وكنيسة الطاهرة للكلدان التي تعتبر من أقدم كنائس الموصل، نسفها مسلحون متطرفون قبل اشهر. وعبر التاريخ كانت الموصل مركزاً تجارياً، نشطت فيه التجارة، خصوصاً مع بلاد الشام وتركيا. مع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق، يبقى من الصعب التكهن بستقبل الموصل. خصوصاً مع عدم اتضاح الرؤية لما سيكون عليه شكل الدولة العراقية الجديدة بعد صوغ الدستور الجديد وإقراره. فهل ستتعافى الموصل وتعود مركزاً حضارياً وتجارياً كما كانت عبر التاريخ، أم تستسلم ل"غزاتها"الجدد؟!