للمرة الثانية تنظم أمل طرابلسي معرضاً للنحاتة نيكول بولدوكيان في غاليري أيبروف- دارتيست القرية الفنية في الصيفي تضمن مجموعة من 49 قطعة برونزية غالبيتها بأحجام صغيرة ومتوسطة، مستوحاة من موضوع الجسد الانساني، ولكن في أسلوب يبتعد عن الأكاديمية والواقعية الكلاسيكية ليفتح أمام العين احتمالات جديدة مستوحاة من تنويعات الحركة البهلوانية والرقص وأشكال القواقع البحرية. بولدوكيان فنانة عصامية، لم تتلمذ على أستاذ أو تدرس في أكاديمية، ولكنها على درجة عالية من الموهبة والشغف بفن النحت. منذ خطواتها الأولى اتخذت العصافير والاحصنة والسيرك والألعاب والأم والطفل ومشاهد من الحياة اليومية، موضوعات لها وراحت تطورها بغية دراسة الحركة الرشيقة الراقصة، وما يكتنفها من اختصارات في التأليف، وصولاً إلى جمالية خاصة في توازن الكتل والأحجام. تتلاعب الفنانة بالأشكال، تحوّرها على نحو مفاجئ للعين، بناء على تشييد عضوي غرافيكي، ما هو إلا تأليف خطوطي لشبح الشكل، أي محيطه الخارجي. كأنها ترسم بالحركة، وتمعن في إبراز الالتفافات الناشئة عن تموضعات غير معتادة في الجسم الانساني. لذلك يتراءى الجسم في مختلف حالات انطوائه وتشعبه وانبساطه وتقوقعه، بمثابة عجينة طرية ومطواعة، كعجينة أجساد راقصي الباليه. وفي خضم هذا الموضوع ترتكز لغة النحاتة على إظهار الرقة والخفة والجمال في قوام الراقصة من خلال حركة انبساط اليدين. فاليدان شراعان فوق سارية الجسد على ضفة بين القاعدة والفراغ، حتى تبدو الراقصة على شفا التحليق. وفي أعمال اخرى يغيب حضور اليدين، لتقتصر الحركة على الرجلين، لكائن منعزل يمشي أو يقفز كالبهلوان أو كالعصفور الطليق. هكذا يتمتع التحوير"الكتلوي"بقدر كبير من التحرر والتخييل، في وضع تصورات أو تصميمات لجسد يلوح في الهواء ويلعب خفيفاً كشريط، ثم نعود لنراه متقوقعاً يدخل في حجره، وكثيراً ما تلتف أعضاؤه على نحو ملتبس، كالتفاف قضبان النحات إدواردو شيليدا. غير أن بولدوكيان ذات رؤية واقعية مفخخة بالالتباسات، كأجسادها المفخخة بالهواء، واختزالية متقشفة في اقتصادها الكتلوي. لذلك هي ابسط وأقرب الى اكتشافاتها المباشرة. وكأنها تتعلم من تجاربها وتستنتج من التكرار، لتمارين الشكل ورياضاته وتحولاته. وهذه البساطة هي سر جمالية المنحوتة، وقوّتها في آن واحد. قد تبدو للعيان منحوتات بولدوكيان واقعية، ولكنها رشيقة رشاقة النحات آرب. تستبعد في تعبيراتها الجسمانية التفاصيل في التشخيص. فالملامح مموهة ومسطحة أقرب من صفات التجريد اللاشكلاني. وهي إن اتخذت موضوعات كلاسيكية كالمستلقيات أو المستحمات على شاطئ البحر، غير أن الخطوط الدائرية اللينة تتحكم في هندستها المستوحاة من خامات الطبيعة، كي يصل التحوير إلى مرتبة التجريد، ويتداخل فراغ الخارج مع ثغرات الداخل، في تناغم تعبيري متميز بالتقليل. فالفراغ هو ليس الشغور في فن النحت، بل هو قرين الحركة، لأنه يهبها مجالها ومدارات خطوطها، وكيفية توسعها في الأعماق المنظورية، وينم كثيراً عن اسلوب الفنان وذائقته الجمالية. يؤكد معرض بولدوكيان أن التجديد لا يزال ممكناً إزاء الجسد الانساني، وهو الموضوع الأقدم في تاريخ الفن، وإن خلا لديها من أي اسقاطات أو معاناة أو جروح، كونه يستلهم غالباً الرقص موضوعاً باعثاً على إلهامات الحركة والحرية في التعبير عن الجمال. ما يبقى أن هذا الجسد يتم الآن تناوله كشكل خارجيّ مجرد، بلا مضمون إنساني، لكأنه موهوب فقط لتأملات العين، التي تحيل احياناً إلى مقتربات شعرية بصرية. إذ في إمكانه أن يتحول شجرة أو طائراً أو حجراً مثقوباً بلا ذاكرة. وفي إمكانه ايضاً أن يكون مجرد سطح لعوب ومتموج مثل كثبان رملية أو تأليف خطي يتراقص على صفحة الهواء.