دأبت الإدارة الأميركية، منذ أن كانت تمهد لاسقاط صدام حسين، على تصنيف الشعب العراقي باعتباره سنّة وشيعة وأكراداً! وتجنب الحديث عن التيارات السياسية المتعددة، التي تضمها المجاميع المذكورة، منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي. ولم يكن ما طرحه ملك الأردن الراحل حسين، في حينه من جعل العراق ثلاثة أقاليم: سنّي وشيعي وكردي، بعيداً عن طرح الإدارة الأميركية. وفي شهر آب اغسطس 2002 دعت الإدارة الأميركية، تطبيقاً لهذا التصنيف ستة أطراف من المعارضة العراقية هي: الحزبان الكرديان، الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والدكتور أحمد الجلبي والدكتور اياد علاوي والحركة الملكية الدستورية برئاسة الشريف علي بن الحسين، واعتبرتها الأطراف"الاساسية"في المعارضة العراقية، ودعتها لعقد مؤتمر لهذه المعارضة خلال شهر. غير أن هذا المؤتمر تعثر عقده أشهر عدة، وعقد في كانون الأول ديسمبر 2002 في لندن، ليكون، كما كانت تخطط الإدارة الأميركية، غطاء سياسياً للحرب، التي كانت هذه الإدارة تخطط لشنها على نظام صدام حسين. وساهمت هذه الإدارة في أعمال المؤتمر، بل أدارته عن طريق زلمان خليل زاد، الأفغاني الأصل الأميركي الجنسية، الذي سبق له أن أدار مؤتمر المعارضة الأفغانية في المانيا لاسقاط نظام"طالبان"، والذي عُيّن أخيراً سفيراً للولايات المتحدة في العراق، خلفاً لجون نيغروبونتي. كانت الوثائق المُقرة في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية جيدة عموماً، بتركيزها على ضرورة اسقاط نظام صدام حسين وتصفية آثار الديكتاتورية وإقامة نظام ديموقراطي اتحادي فيديرالي في العراق، ينبثق عن انتخابات حرة. وإن كانت هذه الوثائق سكتت عن موضوع خيار الحرب، الذي كان مقبولاً من قبلها، على ما يبدو، في حين أن قوى ديموقراطية وقومية عربية وإسلامية لم تشارك في مؤتمر لندن كانت ترفض خيار الحرب، وتطالب بتعبئة قوى الشعب العراقي لاسقاط نظام صدام حسين بدعم سياسي ومعنوي من كل الأطراف الداخلية والخارجية، التي تريد ذلك. وما أن تم اسقاط نظام صدام في التاسع من نيسان ابريل 2003 عن طريق الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدةوبريطانيا، حتى جرى وضع وثائق مؤتمر لندن، التي تظاهرت الإدارة الأميركية بقبولها، على الرف. وراحت هذه الإدارة تخطط لحكم العراق بشكل مباشر والاستعانة بهيئة استشارية"عراقية"كانت قد هيأتها قبل شنها الحرب. وسارعت الى استصدار قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1483 باعتبارها دولة محتلة للعراق! الأمر الذي رفضته كل قوى المعارضة العراقية، بمن فيها التي تعاونت مع الإدارة الأميركية أوثق التعاون، وتعتمد على معونتها المالية السخية. ولذا جرى التوصل الى حل وسط يقضي بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي الموقت ذي الصلاحيات المحدودة، الذي ضم قوى وطنية معارضة أوسع من تلك القوى التي شاركت في مؤتمر لندن، كان من بينها حزب الدعوة الإسلامية والحزب الإسلامي العراقي والحزب الشيوعي العراقي، وكذلك ممثلو بعض القوى العشائرية. واستمر الصراع في الداخل، وفي المحافل الدولية، من أجل انهاء الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق حتى صدور القرار 1546 الذي أنهى الاحتلال"قانوناً"وإن لم ينهه واقعاً. وكان القرار خطوة في الاتجاه الصحيح، وتشكلت الحكومة العراقية الموقتة برئاسة الدكتور اياد علاوي، وجرى تشكيل المجلس الوطني الموقت في صيف العام الماضي. وجرت الانتخابات في 30 كانون الثاني يناير من هذا العام، وانبثقت عنها الجمعية الوطنية العراقية، التي انتخبت هيئة رئاستها من الدكتور حاجم الحسني سنّي رئيساً والدكتور حسين الشهرستاني شيعي وعارف طيفور كردي نائبين للرئيس، وهيئة رئاسة الدولة: جلال طالباني كردي رئيساً، وغازي الياور سني عربي وعادل عبد المهدي شيعي عربي نائبين للرئيس. وفوضت الجمعية الوطنية الدكتور ابراهيم الاشيقر، الذي صار يتلقب بالجعفري، رئيساً للوزراء، وصوتت بالثقة لوزرائه. ولم تكن ولادة هذه الهيئات الثلاث، خصوصاً حكومة الجعفري سهلة، وذلك بسبب المحاصصة الطائفية والقومية، التي فرضت بحكم المجريات السابقة، مع الأسف، من دون ان تلقى الصد المطلوب من قبل القوى السياسية، التي حظيت بنسب عالية من أصوات الناخبين في انتخابات 30/1/2005. ومما يبعث على القلق ان حكومة الجعفري، على رغم ادعاء رئيسها بأنها حكومة وحدة وطنية، فانها لم تكن سوى حكومة الفائزين بالانتخابات بأعلى الاصوات، اي قائمة الائتلاف العراقي الموحد الشيعية وقائمة التحالف الكردستاني، لأن الدكتور الجعفري ليس فقط استثنى التيار الديموقراطي من المشاركة في الحكومة، بل واستغنى حتى عن التشاور معه بشأنها. وعندما لاقى صعوبة في اكمال حصة السنة العرب في تشكيلة وزارته، عمد الى اعلان السيد الشبلي وزيراً في حكومته من دون ان يبلغه مسبقاً بذلك، الأمر الذي رفضه السيد الشبلي، ليس فقط لأنه لم يفاتح مسبقاً بذلك، بل ولأنه لا يقبل ان يكون وزيراً بصفته سنياً، وليس بصفته وطنياً ديموقراطياً ينتمي الى حزب سياسي ديموقراطي. ولم يكن حذف كلمات"النظام الديموقراطي الاتحادي"من القسم، الذي أداه الوزراء، بأقل اثارة للقلق، لما يمكن ان يوحي به من توجه معاد للديموقراطية والفيديرالية، التي سبق للدكتور الجعفري وحلفائه في الائتلاف العراقي الموحد ان قبلوا الالتزام بهما في قانون ادارة الدولة في الفترة الانتقالية، وفي الميثاق المعقود بين قائمة الائتلاف، التي ينتمي اليها وقائمة التحالف الكردستاني، الذي تشكلت الوزارة الائتلافية على أساسه، على رغم ان وزراء الائتلاف، اجبروا على اعادة القسم كاملاً هذه المرة، بسبب اصرار وزراء التحالف الكردستاني على ذلك. ومما له دلالته المؤسفة ايضاً تجاهل الدكتور الجعفري كل شهداء التيار الديموقراطي عند تطرقه الى شهداء الشعب وتمجيد حفصة العمري وتجاهل الشهيد عبدالكريم قاسم، اذ لم يسبق لحزب"الدعوة"، الذي يرأسه الدكتور الجعفري، ان اتخذ مثل هذا الموقف طوال تاريخه النضالي المشرف المليء بالتضحيات الجسام ضد نظام صدام حسين، الذي كان يمجد حفصة العمري ومن على شاكلتها. ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن هذه الظواهر المقلقة ان نذكر بالخطر الناجم عن تصاعد اعمال الارهاب والتصفيات الجسدية التي ترتكب على أساس طائفي، الى جانب اعمال الارهاب والجرائم التي ترتكبها قوى الارهاب والتخريب من أعداء الشعب لاعراقي وأعداء العملية السياسية السلمية، الذين يستهدفون نسف هذه العملية والعودة بالعراق الى عهود الاستبداد والديكتاتورية، مقدمين بذلك خدمة مباشرة للمخططات الاميركية الهادفة الى البقاء في العراق، على الضد من مطمح الغالبية الساحقة من أبناء الشعب، التي تريد العراق آمناً حراً ديموقراطياً يتمتع بالسيادة الوطنية الكاملة، بعيداً عن وجود أية قوات أجنبية على أرضه. كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.