ساهم موقع البلقان في انتشار الديانات الرئيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلام استناداً الى حكم الدول التي امتدت فيه قرون عدة المجر والنمسا وبيزنطة والدولة العثمانية مما ادى مع الزمن الى ان تتمايز فيه بوضوح الثقافات الرئيسة الغربية الكاثوليكية والشرقية الارثوذكسية والشرقية الاسلامية. وقد مرّ التفاعل بين هذه الثقافات في أطوار مختلفة، بحسب التحالفات الاقليمية والدولية والمد والجزر في حدود الدول، وصولاً الى بدايات القرن العشرين الذي اتسم بانتهاء الحكم العثماني وانطلاق موجات جديدة من الحروب التي كانت تغير الحدود وتحمل الى السلطة أنظمة جديدة. وهكذا يلاحظ مع كل موجة من الحروب الحرب البلقانية 1912-1913، الحرب العالمية الاولى 1914-1918 والحرب العالمية الثانية 1939-1945 كانت تبرز نوعية جديدة من الأنظمة تعبر عن ذهنية مختلفة في ما يتعلق بالتفاعل ما بين الثقافات الديموقراطية القومية، الشعبوية، الشيوعية. ومع موجهة الحروب الاخيرة 1991-1992، 1992-1995، 1999 التي افرزت ظواهر جديدة التطهير الثقافي الخ وأنظمة جديدة، يبدو الوضع الآن كأنه ينحسر عن طور جديد من التعايش/ عدم التعايش بين الثقافات. ونريد هنا تفحص نوعين من العوامل/ الحوافز: التي تساعد على التفاعل والتي تعمل على عدم التفاعل: 1- حوافز/ ملامح التفاعل. 1- الموقع ما بين الشرق والغرب. كان من حوافز التفاعل موقع البلقان ما بين الشرق والغرب بالمفهوم الجغرافي والثقافي. فقد اعتبر هذا الموقع حتى الماضي القريب خلال نمو حركة عدم الانحياز حافزاً للتفاعل والتعاون وكان يشار اليه دائماً باعتباره الجسر بالمفهوم الجغرافي والثقافي. وهكذا لم تمنع مطرانية فان نولي 1882-1965 رأس الكنيسة الارثوذكسية في ألبانيا ورئيس الحكومة فيها خلال 1924 على ان يعتبر ألبانيا بالذات كونها تحتضن الاسلام والارثوذكسية والكاثوليكية هي التي يمكن ان تقوم"بدور خاص يقوم على الاسلام والمسيحية". وكذلك كان الرئيس الالباني السابق صالح بريشا 1992-1997 يرحب بأن تعلب ألبانيا دور الجسر بين أوروبا والعالم الاسلامي. وعلى العكس من ذلك يرفض الآن الكاتب المعروف اسماعيل كاداريه مثل هذا الحافز/ الدور انطلاقاً من ان ألبانيا بعد الحروب/ التغيرات الاخيرة لم تعد ما بين الشرق والغرب بل هي في اوروبا. وتجدر الاشارة الى ان حدود"الشرق"لم تكن ثابتة اذ كانت تمتد الى بلغراد في الشمال حتى مطلع القرن التاسع عشر، حيث كانت تعرف في كتابات الرحالة الغربيين بپ"بوابة الشرق"، والى البحر الأدرياتيكي في الغرب حيث كانت ألبانيا تعتبر حتى 1919 على الاقل جزءاً من الشرق الأدنى. 2- التنوع الديني الثقافي: على عكس اوروبا الغربية التي تجمّع معظم المسلمين فيها خلال القرن العشرين فإن المسلمين في اوروبا الجنوبيةالشرقية شبه جزيرة البلقان، هم من السكان الاصليين للمنطقة الذين اعتنقوا الاسلام منذ قرون عدة وأصبح من مكوناتهم الثقافية والقومية. وعلى رغم ان التنافس بين القوى الكبرى روسياوالنمسا... الخ حول السيطرة على المنطقة ادى الى سلسلة حروب انعكست سلباً على المسلمين وأدت الى انكماش حجمهم بسبب المجازر والهجرات... الخ إلا ان ما بقي من مسلمين بعد نهاية الحكم العثماني في البلقان كان كافياً لأن يترك في البلقان تنوعاً دينياً ثقافياً في كل الدول الجديدة التي برزت/ توسعت حدودها في القرن العشرين صربيا والجبل والأسود وبلغاريا واليونان ورومانيا. ولكن هذه الدول تباينت سياساتها في الترحيب بمثل هذا التنوع الديني الثقافي ضمن حدودها الجديدة من القبول به الى العمل على التخلص منه ضغوط لدفع المسلمين الى الهجرة، اتفاقيات مع تركيا لتبادل السكان او لتهجير المسلمين اليها. وفي هذا الاطار فقد حصل المسلمون في البوسنة التي تعتبر صورة مصغرة عن البلقان من حيث التنوع والتعايش بين الثقافات على نتيجة مهمة عندما تم الاعتراف بثقافتهم المميزة مع انهم يتحدثون لغة مشتركة مع الصرب والكروات التي تبرر الاعتراف بهم كشعب مكوّن لجمهورية البوسنة/ يوغوسلافيا السابقة. 3- السبق في تبني المسلمين للمفاهيم الاوروبية الجديدة الديموقراطية، العلمانية الخ: أدت التطورات الجديدة في البلقان الى تفاعل مبكر للمسلمين مع المفاهيم الاوروبية الجديدة كالديموقراطية والعلمانية، والى السبق في تطبيقها على مستوى العالم الاسلامي. ففي 1978 فوض"مؤتمر برلين: النمسا/ المجر احتلال البوسنة وادارتها لتنظيم امورها، بحيث عاش المسلمون هناك تجربة الديموقراطية الاوروبية المتمثلة في تشكيل الاحزاب والمشاركة في الانتخابات وحرية التعبير عن الرأي بواسطة الصحف والمجلات الخ. وفي هذا الاطار عايش المسلمون تجربة التحول من غالبية في الدولة العثمانية الى اقلية في الدول النمسوية المجرية ذات الغالبية الكاثوليكية وتأسيس هرمية دينية جديدة تعنى بشؤونهم الدينية والثقافية. ومن ناحية اخرى فقد وضعت ألبانيا ذات الغالبية المسلمة بعد استقلالها عن الدولة العثمانية في خريف 1912 تحت رقابة الدولة الكبرى، التي أعدت لها في 1913"القانون الموقت للادارة المدنية"المأخوذ من الدساتير الاوروبية. ويلاحظ هنا ان ألبانيا بموجب هذا القانون كانت اول دولة في العالم الاسلامي تأخذ بالعلمانية، حيث نص القانون الاساس على"الفصل بين الحقوق المدنية والشريعة". وقد تأكد هذا في القانون الاساس/ الدستور الجديد الذي وافقت عليه الدول الكبرى 1914 والذي اكد على ان"ألبانيا ليس لها دين رسمي". ومع انه برزت حالة"تمرد"في ألبانيا الوسطى ضد هذا التوجه الا ان ألبانيا بقيت محافظة على نظامها العلمانيمن خلال الدساتير التي اقرت لاحقاً سواء خلال العهد الانتقالي 1920-1924 او العهد الجمهوري 1925-1928 او العهد الملكي 1928-1939، وهي بذلك تقدم حالة مختلفة عن حالة العلمانية التركية/ الكمالية التي كانت مستفزة اكثر للمسلمين في المشرق. 4- تطوير مفهوم الاسلام الاوروبي: نظراً لكون المسلمين في البلقان من السكان الاصليين/ الاوروبيين، الذين تفاعلوا منذ وقت مبكر مع المفاهيم الاوروبية وعاشوا في نظم/ دول مختلفة، فقد كان في وسعهم الإسهام اكثر في بلورة ما عرف في العقد الاخير بپ"الإسلام الاوروبي". وتجدر الاشارة الى ان هذا المصطلح برز بقوة قبل حوالى عشر سنوات، وأخذ يثير الجدل والانقسام حوله بين الطرفين الاساسيين المعنيين به. فقد كان هناك من المسلمين من اعتبروه"تآمراً على الاسلام ومحاولة لتحريفه"، بينما كان هناك من الاوروبيين من ينظر اليه باعتباره"مؤامرة موجهة ضد اوروبا". وفي هذا الاطار يمكن للمسلمين في البلقان وخصوصاً في البوسنة وألبانيا وكوسوفو في شكل خاص ان يساهموا في تجربتهم الغنية التي امتدت على حوالى مئة عام، نتيجة تفاعلهم مع القيم والمؤسسات الاوروبية، في بلورة الاسلام الاوروبي باعتباره حصيلة التفاعل بين الشرق والغرب. 5- انهيار الأنظمة الشيوعية/ احتكار الحقيقية: أدت الاوضاع المتفاقمة في بقية اوروبا الشرقية الى سقوط الانظمة الشيوعية في البلقان ايضاً خلال 1990-1992 مع عقد الانتخابات التعددية الاولى التي نظمت هناك. ونظراً لأن هذه الانظمة كانت معادية للدين بحكم أيديولوجيتها، مع تباين كبير في اشكال التعبير عن هذا العداء وفي الموقف من الحرية/ الهوية الدينية، وكانت تقوم على احتكار/ فرض الحقيقة الواحدة، فإن سقوطها كان يبشر في تعايش جديد بين الافكار والأديان والثقافات في هذه الدول. ولكن بقدر ما كان سقوط الانظمة الشيوعية ينزع كابوساً بقدر ما جاءت الانظمة الديموقراطية الجديدة بكابوس آخر. فقد لعبت الانظمة الشيوعية دوراً ايجابياً في التشبث بالهوية الدينية الثقافية في مواجهة التذويب، بينما جاءت الانظمة الجديدة بأيديولوجية جديدة/ الأوربة تهدد بالتذويب ايضاً من خلال ربط رموز هذه"الأيديولوجية"للأوربة بالتخلي عن الاسلام واعتناق المسيحية. 6- كان لسقوط الانظمة الشيوعية في اوروبا الشرقية، وما أدى من انهيار للأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، وتفاقم الاوضاع في بلدان جنوب المتوسط وشرقه ان تزايدت الهجرة المشروعة وغير المشروعة في اتجاه البلقان، سواء للعبور او الاستقرار فيه. ونظراً للواجهة الطويلة لليونان على ثلاثة بحار تحيط بالبلقان بحر أيجه والبحر المتوسط والبحر الأدرياتيكي وعضويتها في الاتحاد الاوروبي، فقد تلقت اكبر نسبة من المهاجرين الجدد حيث يقدر عددهم الآن بمليون مهاجر يشكلون ما نسبته 10 في المئة تقريباً من عدد السكان. وكانت حكومات اليونان قد سعت خلال مئة عام تقريباً الى بناء دولة قومية بثقافة واحدة، وذلك سواء بتذويب بعض الاقليات سلاف مكدونيا والألبان الارثوذكس وتهجير بعض الاقليات الأتراك والألبان المسلمون. وبسبب ذلك فقد تميزت السنوات الاولى من وجود/ تعبير المهاجرين عن ثقافتهم الخاصة بمشاعر وأفعال عنصرية معادية للأجانب، ولكن مع الزمن أخذ وجود الآخر/ الثقافي يفرض نفسه ويتمخض عن قانون جديد ضد العنصرية في 2005 يحمي التنوع الثقافي الجديد في البلاد. وبعبارة اخرى فقد اصبحت اليونان في العقد الاخير 1995-2005 هي الإطار الاوسع للتفاعل الجديد بين ثقافات المتوسط، مع ان هذا لا يتم إلا بفضل القانون الجديد، الذي يفرض غرامات كبيرة على مخالفيه، وليس بفضل التراث السابق له. 1- حوافز/ ملامح عدم التفاعل: 1- غربة الإسلام عن أوروبا: عشية الحرب على البوسنة في 1992 تزايدت الاشارة في كتابات الصحافيين والأكاديميين وحتى المستشرقين الذين يفترض ان يعرفوا الحقائق اكثر من غيرهم، حول غربة الاسلام عن اوروبا، والمقصود هنا بأن الاسلام جاء من الشرق مع"الغرباء"و"الأتراك المحتلين"، وهو بهذا تحول الى دين لپ"المحتل"وأصبحت ثقافته"وافدة"و"طارئة". واستناداً الى ذلك أصبحت الأديان والثقافات تقسم الى أوروبية وغير اوروبية شرقية او مقبلة من الشرق، وكأن المسيحية لم تأت من الشرق. ومع نمو النزعة الاوروبية او الأوربة في البلقان بعد سقوط الانظمة الشيوعية، التي كانت تمثل"اوروبا الشرقية"، لم يعد يتورع كاتب معروف مثل اسماعيل كاداريه عن القول ان الاسلام والشيوعية بالذات كانا وراء عزلة الألبان عن بقية اوروبا، ولذلك فإن الحل هو العودة الى"الثقافة المسيحية المشتركة"مع بقية اوروبا. وهكذا يصبح الاسلام وثقافته لدى الألبان، على رغم استمراره حوالى 500 سنة، أمراً"طارئاً"وعلى ألبانيا ان تتخلص منه بسرعة كما تخلصت منه أسبانيا. 2- عداء الاسلام لأوروبا: مع موجة الكتابات الجديدة في العقد الماضي لا يبدو الاسلام غريباً عن اوروبا فقط بل انه بطبيعته معاد لأوروبا الديموقراطية التعددية ولكل ما هو اوروبي لأن المسلمين"لا يمكن ان يكون لهم ولاء لأي دولة اذا لم يكن الاسلام دينها". واستناداً الى ذلك تصل هذه الكتابات الى ان"الحياة المشتركة مع المسلمين مستحيلة"وتضع القراء امام خيارين: إما ان تقبل/ تصبح مسلماً وتخسر نفسك وثقافتك وأوروبيتك وإما ان تتخلص فوراً من"الوجود الاسلامي من حولك". وهذا العداء لأوروبا اصبح يربط بجوهر الإسلام من حيث انه"نظام شمولي لا يمكن لأي روح غربية ان تتفهمه او تتخيله". وفي هذا الإطار اصبح المسلمون يُنتقدون لتمسكهم بثقافتهم"التي لا يوجد ما يجمعهما مع الحضارة الأوروبية". 3- رهاب الإسلام/ الإسلام والإرهاب: يقوم هذا على الربط ما بين الإسلام والعنف الى حد تنميط الإسلام باعتباره"دين العنف". وهكذا يصف يغيتش الإسلام بكونه"ليست لديه رحمة تجاه كل ما هو غير مسلم". وخلال الحرب على البوسنة اصبح الرئيس علي عزت بيغوفيتش يتهم ك"أصولي اسلامي"بأنه"لا يريد السلام ولا يمكن ان يقبل به لأنه بهذا يخرج عن اسلامه". ومع تفجيرات ايلول سبتمبر 2001 اصبح من السهل ربط الإسلام بالإرهاب وتضخيم بن لادن و"القاعدة"بين المسلمين هناك والتضييق على الجمعيات الخيرية العاملة في المنطقة البوسنة وكوسوفو وألبانيا بتهمة تمويل"انشطة ارهابية"مما ادى الى اغلاق معظمها على رغم حاجة السكان الى الخدمات الثقافية والاجتماعية التي تقدمها. وفي هذا السياق المحموم لربط الإسلام بالإرهاب لخدمة اجندة محلية لم تتورع اجهزة رسمية وزارة الداخلية في مكدونيا خلال 2002 عن استقدام سبعة مهاجرين باكستانيين وهنود من بلغاريا ووضعهم في سيارة مع ازياء محلية وأسلحة قرب العاصمة وقتلهم لإيهام الرأي العام بإحباط عملية لپ"إرهابيين اسلاميين"ضد اهداف غربية. 4- الإسلام كحاجز في وجه اوروبا/ الغرب: بعد سقوط الأنظمة الشيوعية، وخصوصاً بعد حرب كوسوفو 1999 التي بدا معها ان الغرب تدخل لپ"انقاذ"المسلمين هناك، برزت موجة قوية نحو الأوربة، وبالتحديد نحو الاندماج في اوروبا التي"أنقذت"الألبان من ذوي الغالبية المسلمة من المأساة التي كانت تهددهم. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة آل البيت/ الأردن والمقالة جزء من ورقة مقدمة الى ندوة "اوروبا وإدارة حوار الثقافات الأورومتوسطية" التي عقدت في جامعة القاهرة خلال الشهر الماضي.