العبارة الأقل تردداً في التصريحات العلنية للمسؤولين الأميركيين هي اليوم الأكثر تداولاً على ألسنتهم في الجلسات الخاصة، وكذلك في اللقاءات مع الزعماء العرب. فمع تزايد التذمر لدى الحلفاء من طول الحرب في العراق وقرار بعضهم سحب قواته في نهاية العام بات البحث عن"مخرج"أمراً مطروحاً بإلحاح. والأرجح أن التجاذب داخل مراكز صنع القرار الأميركي بين خيارات متصارعة بدأ يميل إلى اعتماد الخطة التي صاغها رئيس مجلس العلاقات الخارجية ليزلي غيلب قبل أكثر من عام والتي عاود عرضها أخيراً في طبعة معدلة في ضوء زيارة للعراق استغرقت اثني عشر يوماً. الثابت أن الأميركيين الذين يستيقظون كل صباح لانتظار مزيد من السيارات المفخخة والهجمات على مراكزهم وقوافلهم العسكرية بدأوا يفقدون الصبر ويعتقدون أن حجم الخسائر البشرية والمادية، على رغم التكتم عليه دائماً، يفرض معاودة البحث عن مخرج حقيقي. ومن دلائل ذلك أن الحزبين الجمهوري والديموقراطي اللذين وافقا بأكثرية مريحة على قانون مالي جديد سيكون البنتاغون المستفيد الأول منه للتعويض عن الخسائر المسجلة في العراق وتمويل استمرار الحرب، عبرا عن الإحباط من رفض الإدارة وضع تقديرات لنفقات القوات التي ستحتاج اليها في العراق على المديين الوسط والبعيد. وهي لم تفعل لأنها لا تملك خطة للمستقبل ولا جدولاً للإنسحاب. وتجلى ذلك في تأكيدات رامسفيلد لكل من طالباني والجعفري خلال زيارته بغداد الشهر الماضي أن واشنطن لم تضع بعد خطة لسحب قواتها من العراق، وهو ربط تلك الخطوة بامتلاك القوات العراقية القدرة على تولي مهمات الأمن. لكن يبدو أن الجدل الداخلي حقق"تقدماً"منذ ذلك التاريخ بحصول ميل الى اعتماد رؤية ليزلي مع الإيحاء في الوقت نفسه للحكومة العراقية بطلب بقاء قوات أميركية وإقامة قواعد دائمة لها كي يستمد الإحتلال شرعيته من طلب داخلي. ولا بد من ملاحظة أن الخارجية الاميركية أرجأت ابتّ الخطة على أيام باول لكنها تبدو مقبلة على اعتمادها في عهد خليفته رايس. والأرجح أن بوش بحث مع بوتين أمس فحوى الخيارات المعروضة للخروج من العراق والخطط المتزامنة معها، وأكيد أن الأمر سيطرح في لقاءات مقبلة مع زعماء معنيين بالملف العراقي. لكن المشكلة أن الإدارة الأميركية تفكر بالموضوع تحت ضغط المأزق السياسي والعسكري الذي برز من تجلياته عدم السيطرة على الوضع الأمني واستطراداً محاولة تحميل سورية المسؤولية وإن جزئياً، وانهيار معنويات الجنود وتزايد الفضائح السياسية والإعلامية بالإضافة الى رغبة حلفاء كثر في الخروج من الورطة العراقية وآخرهم اليابان وبلغاريا وربما إيطاليا غداً. ويشعر الأميركيون بأنهم بين نارين، فلا البقاء في حقل الألغام العراقي ممكن ولا الإنسحاب الفوري جائز سياسياً وعسكرياً لأنه سيترك انعكاسات سلبية على الولاياتالمتحدة لعقود طويلة، بالإضافة الى قناعتهم بأن القوات العراقية غير قادرة على ضبط الوضع وأن غالبيتها ستفرَ لدى أي مواجهة مع الخصوم. والواضح أن الهدف الأساسي لخطة غيلب هو الحؤول دون عودة العراق دولة قوية في المنطقة إذ أنها ترمي الى اقامة ثلاثة كيانات فيديرالية إلى جانب حكومة مركزية ضعيفة للإبقاء شكلياً على الأمورالسيادية بأيدي حكم مركزي. ويتطابق هذا المنظور مع رؤية إسرائيل التي تحرص على استثمار الوضع الراهن للقضاء على أي خطر إقليمي يمكن أن يهددها، لكنه يتنافى مع الخط البياني لتطور العراق تاريخياً والذي يؤكد التلازم بين الدولة المركزية القوية واستمرار الكيان العراقي ذاته. وإذا اعتقدت الإدارة أن "المخرج الإستراتيجي"الذي تستعد لاعتماده سيحقق الإستقرار في العراق تكون واهمة لأنه سيقود إلى تكريس التقسيم وتصاعد الفوضى بسبب ضعف حكومة الجعفري وعدم قدرتها على كسب ثقة السَنة باعتراف غيلب نفسه، بالإضافة لوجود قطاعات غاضبة من الشيعة. لكن هاجس الأميركيين الحقيقي ليس استعادة العراق عافيته واستقرارالمنطقة وإنما استمرار تدفق النفط الذي يشكل قطب الرحى في الإستراتيجيات السابقة وكذلك في"المخرج"المنوي اعتماده.