انني اشعر بنفسي الآن روح راعي قطيع، لذا أحس بأنني سأبذل جهدي لكي تتمكن لجنة التحكيم من ان تعبر عن وجهة نظرها كاملة، وتعرض رؤيتها لفن السينما ككل. ومن هنا سنستقبل كل فيلم من الافلام بعناية فائقة، لكي نتمكن بعد ذلك من التناقش من حوله بكل حرية، خصوصاً ان السينما فن يعبر خير تعبير عن حس التعاون، والعمل الجماعي. كما ان كل فيلم انما هو ناتج عن رؤية شخصية للواقع...". بهذه العبارات تحدث المخرج اليوغوسلافي إمير كوستوريتسا عن الكيفية التي بها يجابه وظيفته الجديدة في مهرجان"كان"السينمائي: وظيفته هذا العام بوصفه رئيساً للجنة التحكيم في"المسابقة الرسمية"التي هي الاهم والاضخم من بين تظاهرات مهرجان"كان"السينمائي الذي يفتتح نشاطاته الاربعاء المقبل في مدينة كان الفرنسية على شاطئ البحر الابيض المتوسط. والحال انه منذ اعلن قبل شهور عن ان المهمة سيقوم بها كوستوريتسا هذا العام، تنفس كثر الصعداء. فصاحب"الحياة معجزة"و"اندرغراوند"معروف بصرامته وحبه للسينما، مما يضمن - من ناحيته على الاقل - جوائز قد لا تكون مثيرة للسجال كما حدث في العام الماضي حين أعلن كثر سخطهم لفوز"بيان مايكل مور السياسي""فهرنهايت 11/9"بالسعفة الذهبية لاسباب قيل يومها ان لا علاقة لها بالسينما. ولقد كان كوستوريتسا من بين الساخطين، حيث انه كان يراهن على فيلمه المشارك"الحياة معجزة"ليحقق له معجزة الفوز بالسعفة للمرة الثالثة، لكن هذا لم يحصل. وواضح ان اختيار كوستوريتسا هذا العام لرئاسة محكمي"كان"فيه تعويض له عن ذلك الغبن! أهل"كان"العائدون غير ان مهمة كوستوريتسا لن تكون سهلة هذا العام... ذلك ان الدورة التي ستشغل اهل السينما ومحبيها خلال الأسابيع التالية، تعتبر دورة كبيرة واساسية، ليس فقط من ناحية كمّ الافلام المعروضة في التظاهرات الاساسية، ولكن ايضاً، وبخاصة من ناحية اسماء المشاركين الرئيسيين في هذه التظاهرات بأفلامهم، ولا سيما داخل المسابقة الرسمية التي، هي، ما يعني كوستوريتسا على وجه الخصوص. ولا بد من ان نلاحظ هنا، ومنذ الآن، ان معظم هؤلاء المشاركين، هم من الذين يدينون، اصلاً، لمهرجان"كان"بسمعتهم العالمية وبمكانتهم في الفن السابع. ومن هنا كان من الطبيعي لكل واحد منهم، إذا برمج خلال الفترة الماضية موعد تصوير وانجاز فيلمه، ان يحرص على ان يكون جاهزاً في وقته يجعله قادراً على ان يأخذ مكانه في المهرجان. وهو ما سيظهر بعد سطور حين تستعرض اهم الافلام المشاركة... اما هنا فقد يكون من المفيد ان ننقل عن تييري فريمو بعض الارقام الاساسية حول دورة هذا العام، فهو يقول ان مسؤولي المهرجان ولجان الاختيار قد اضطروا الى مشاهدة 1540 فيلماً طويلاً، اتت من 97 بلداً قبل ان يصار الى اختيار الافلام الثلاثة والخمسين المشاركة في التظاهرات الرئيسة الثلاث:"المسابقة الرسمية"و"نظرة ما"و"اسبوع النقاد"- علماً بأن هناك تظاهرة اخرى هي"اسبوعي المخرجين"تعقد في"كان"وعلى هامش المهرجان لكن لها استقلاليتها الكلية، وسنتحدث عنها على حدة الاسبوع المقبل. والافلام المعروضة تمثل 28 بلداً، ليس بينها من بلد عربي، هذا العام، سوى العراق. ومن بين هذه الافلام خمسون تقدم في عرض اول. اما المسابقة الرسمية ففيها 20 فيلماً آتية من 13 بلداً... فلمن هي هذه الافلام؟ غائبون / حاضرون اولاً لدزينة، او أكثر، من المخرجين المعروفين ب"أبناء كان"من فيم فندرز الألماني ولارس فون تراير الدنماركي، الى جيم جارموش الاميركي، مروراً بالصيني هوهسياوهسين، والكندي الارمني آتوم ايغويان، والاسرائيلي عاموس غيتاي، والكندي الآخر دافيد كروتنبرغ... وهؤلاء جميعاً كانوا، ليس فقط، عرضوا افلامهم السابقة في دورات"كان"المتعاقبة، بل نالوا ارفع جوائزه... ومن هنا يعتبرون جميعاً اليوم في عودة حميدة الى مهد سينماهم... لكنهم لن يكونوا وحدهم سادة الساحة، وان كانت افلامهم تبدو، حتى الآن على الأقل الأبرز، والمنتظرة اكثر من غيرها، بخاصة وان بعضهم - مثل فيم فندرز - غائب منذ زمن. فدافيد كروننبرغ، الذي كان"العنكبوت"آخر مشاركة له في"كان"يعود هذه المرة قوياً بفيلمه الجديد"تاريخ العنف"من بطولة فيغو مورتنسن، في دور رجل يرينا كم ان الانسان في امكانه ان يصل في عنفه لنيل التوبة وانقاذ جماعته. اما ايغويان فيعرض لنا، بعد"ارارات"قبل اعوام، شريطه الجديد"حيث توجد الحقيقة"بينما يقدم غيتاي، الاسرائيلي المنشق جزئياً عن الايديولوجية الصهيونية فيلم"منطقة حرة"عن حكاية ثلاث نساء من ثلاثة اديان يلتقين في فلسطين اسرائيل. وهو هسياوهسين، يعود الى استقراء التاريخ الصيني من خلال"أفضل ما في زماننا"بينما يستعيد جارموش ألقه القديم بفيلم"زهور محطمة"، ويتابع لارس فون تراير ثلاثيته"يو أي إي"في جزئها الثاني هنا وعنوانه"ماندرلاي"، بعدما عرض في دورة"كان"قبل عامين تحفته"دوغفيل"من بطولة نيكول كيدمان، فضن عليه محكمو ذلك العام، بأية جائزة، على رغم ان ذلك العمل التأسيسي، بأكثر من معنى، كان الافضل، لا يضاهيه الا الفيلم الذي فاز بالسعفة، وهو"الفيل"لغاس فان سانت، الذي يعود هذا العام لمنافسة فون تراير، في فيلمه الجديد"الايام الاخيرة"... علماً بأن نيكول كيدمان لن تكون، هذا العام، الى جانب الدنماركي لمساندة فيلمه، اذ انه في الجزء الثاني من الثلاثية اضطر لاستبدالها ببرايس دلاس هوارد بطلة"قرية"شيامالان وابنة رون هوارد التي ستجتاز في"كان"اول امتحان نجومية اوروبي لها. طبعاً لسنا في حاجة الى الاشارة هنا الى ان فيلم فون تراير، هو الفيلم المنتظر اكثر من غيره، وعلى الاقل لمعرفة ما الذي حل ببطلة"دوغفيل"بعدما انتقمت من المجتمع الأميركي العميق، الذي أدانه المخرج في ذلك الجزء، ليدين في هذا الجزء الجديد، تعامل اميركا المذل مع الزنوج... أما فيم فندرز الذي لا يفتأ يتحف"كان"بافلامه منذ ثلاثة عقود فيقدم هذه المرة شريكاً جديداً، يحاول ان يستعيد به مكانة له تبدو خبت بعض الشيء خلال العقد الاخير. الفيلم عنوانه"لا تأتي قارعاً الباب". جدد بينهم كبار مقابل مخضرمي"كان"هؤلاء، هناك جدد بعضهم يجرب حظه هنا للمرة الاولى، وبعضهم للمرة الثانية. من هؤلاء الاخيرين دومنيك مول الفرنسي - الألماني المتأمرك، الذي له فيلم الافتتاح"ليمنغ"، بعدما كان فاز بجائزة اساسية في دورة سابقة ل"كان"... وكذلك حال الاخوين البلجيكيين داردين اللذين يعرضان جديدهما"الطفل"، والنمساوي هانيكي، الذي يعرض"كاش"بعدما فاز قبل سنوات بجوائز عدة عن فيلمه"مدرسة الموسيقى"المأخوذ عن رواية للكاتبة الفريدي البينكه. أما الجدد فمن بينهم العراقي هايثر سليم في فيلمه"الكيلومتر صفر"الذي سنعود الى الحديث عنه على حدة لاحقاً، والأميركي / المكسيكي روبرتو رودريغز، الذي يعرض له فيلمه الجديد"مدينة الخطيئة"المأخوذ عن كتب شرائط مصورة، وسيكون احد ظواهر"كان"من دون شك، علماً بأن رودريغز كان بدأ حياته السينمائية كظاهرة حين حقق فيلماً اول كلفه 7000 دولار، وأطلق شهرته في هوليوود ثم في العالم اجمع، ليطلق معه شهرة اللبنانية الأصل سلمى حايك. وهناك، طبعاً آخرون، ستملأ اسماؤهم واسماء افلامهم، صفحات التقارير والكتابات الصحافية طوال فترة المهرجان... مثلها في ذلك مثل"نجوم السينما"المخرجين / الممثلين القدامى والجدد من الذين يقفون وراء الكاميرا كما وقفوا امامها، ومنهم بالطبع وودي آلن الذي يعرض فيلمه الجديد"ماتش بوينت"خارج المسابقة، وميشال بيكولي الذي يعرض فيلماً من اخراجه عنوانه"ليست هذه، تماماً، الحياة التي حلمت بها". وايضاً تومي لي جونز الذي يدخل فيلمه الاول"المرات الثلاث التي دفن فيها ملكيادس استرادا". ومن بين اصحاب افلام خارج المسابقة ايضاً جورج لوكاس الجزء الجديد من"حروب النجم: الحلقة 3 - انتقام السبت"الذي يشغل عالم السينما كله هذه الايام، والألماني - التركي فاتح آكين، والاسرائيلي الصاعد آفي مغربي الذي لا يفتأ يحقق افلاماً تفضح احادية المجتمع الاسرائيلي واخفاقاته، وغيرهم. أما تظاهرة"نظرة ما"فإن جديدها هذا العام، يكمن في الجدة المطلقة لاسماء السينمائيين المشاركين فيها. فمن بين 21 فيلماً مشاركاً في هذه التظاهرة هناك فقط حفنة من المخضرمين، أما الباقون فإما انهم يقدمون هنا افلامهم الاولى، واما انهم ليسوا معروفين خارج بلدانهم. وهو ما ينطبق ايضاً على المشاركة في"اسبوع النقاد". طبعاً ليس هذا كل شيء... ذلك ان في"كان"كالعادة، نشاطات اخرى لا تقل اهمية عن عرض الافلام، ومن أبربزها هذا العام الاحتفال بالذكرى الخمسين لرحيل جيمس دين، عبر عرض افلامه ومعرض لصوره، وصدور كتب ومنشورات عدة عن حياته وتأثيره في مجتمعات الشبيبة الاميركية والعالمية، وليس في هواة السينما وحسب. أما في زاوية"محترف المهرجان"الذي يقام على الهامش، فلقد دعي 18 سينمائياً للمحاورة حول مشروع يعرضه، كل واحد منهم، ليجدد دعماً ما له. اما"درس السينما"السنوي التقليدي فيقدمه هذا العام المخرج السنغالي سمبان عثمان... ولعل عثمان يعوض بهذا الحضور على تلاشي الحضور الافريقي سواء كان عربياً او غير عربي، علماً بأن الحضور الجغرافي القوي هذا العام سيكون آسيوياً من خمسة بلدان على الأقل بينها اليابان والصين وتايوان وكوريا واميركياً لاتينياً... أما اوروبا فإنها ممثلة كالعادة، ولكن تقريباً وسط غياب شبه تام لشرقها، اذ سنفتقد هذا العام حضوراً كان اعتاد ان يكون مميزاً في سنوات سابقة لروسيا او رومانيا او بولندا او غيرها... هل نتحدث من جديد اذاً، عن زمن انعطافي في تاريخ السينما - المهرجانية على الاقل -، زمن يكرس اسماء كانت قد كرست كثيراً من قبل، لتصعد الى جانبها اسماء جديدة، ستشغل اروقة"كان"في السنوات المقبلة؟ سؤال أساس، لكن الوقت لا يزال أبكر من ان يجيب عليه، إذ يبقى علينا ان ننتظر مشاهدة الأفلام نفسها... بغثها وسمينها قبل ان نحكم. أما ما يهم هنا فهو ان عيد الفن السينمائي الكبير، يبدأ بعد ايام قليلة دورته الثامنة والعشرين،"كانياً"بامتياز وسط غياب عربي محزن، وظروف دولية تطرح مجدداً سؤال هوية العالم ومستقبله من خلال هوية السينما ومستقبلها... وتطرحه بالحاح لم يسبق له مثيل.