يكثر الحديث هذه الايام عن السلاح الفلسطيني، البعض يربطه بالقرار 1559 الذي يدعو الى تجريد الميليشيات من سلاحها والبعض الآخر يستعمله للتهييج على الفلسطينيين، والتحريض لاقتحام المخيمات، وانهائها كبؤر أمنية خارج السيادة؟! وكمحاولة للاحتكام الى لغة العقل، والدعوة الى التروي في اتخاذ المواقف، وحتى لا يكون الفلسطينيون ضحية أجواء التوتر والاستقطاب السائدة في البلد، كما سبق وحصل مرات عدة، أتوجه الى كل من يهمه الامر باستذكار والتذكير بالوقائع التالية: - بعد اتفاق الطائف الذي أعلن وثيقة الوفاق الوطني، أقرت الدولة اللبنانية أن هذا الوفاق يجب ان يشمل الوجود الفلسطيني على الاراضي اللبنانية، وبناء عليه حصل أول لقاء رسمي بعد عام 1982 بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية على هامش اجتماعات وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية في منتصف أيار مايو من عام 1990، وقد حصل اللقاء على مستويين: الاول سياسي بين الوفدين اللبناني برئاسة وزير الخارجية السيد فارس بويز والفلسطيني برئاسة السيد فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية، تم الاتفاق فيه على ضرورة فتح صفحة جديدة من العلاقات وأن يتعامل الفلسطينيون بكل الايجابية مع اتفاق الطائف، والانخراط في عملية الوفاق. على ضوء ذلك عقد اجتماع على مستوى آخر مثّل فيه الطرف اللبناني اللواء نبيه فرحات مسؤول أمن الدولة ومثّل الطرف الفلسطيني صلاح صلاح مسؤول قيادة العمل الوطني الفلسطيني في لبنان، نتج عن هذا الاجتماع الاتفاق على جدول أعمال بالقضايا المحورية التي يجب معالجتها لتفكيك عناصر التوتر، وتوفير الجو المقبول والمريح للتعايش الفلسطيني - اللبناني، وهي: الوجود العسكري، أمن المخيمات، الحقوق المدنية والاجتماعية. على أن تجرى متابعة الحوار حول هذه القضايا الثلاث في تونس أو لبنان، لكنها فيما بعد توبعت في لبنان من قبل الوزير محسن دلول ومعه اللواء فرحات. وقد تبلغنا في أول لقاء أن الدولة أخذت توجهاً بالموافقة على اعطاء الفلسطينيين كامل حقوقهم المدنية والاجتماعية باستثناء الوظائف العامة والجنسية. كانت بداية ممتازة، لأول مرة تتخذ فيها الدولة اللبنانية هذا القرار العادل والمنصف منذ العام 1948. لكن النقاش تركز على العنوانين الاولين العسكري والامني. لم يكن الامر سهلاً، ولم يقتصر الحوار مع الفلسطينيين على لبنان، خصوصاً أن لهم مرجعيتين منظمة التحرير الفلسطينية ومقرها تونس، وجبهة الانقاذ ومقرها دمشق. أشهد أن الوفد اللبناني بذل جهوداً استثنائية لتذليل التعقيدات الكثيرة التي برزت خلال اللقاءات المتعددة. والوزير دلول تحديداً استثمر صداقاته الواسعة والتقدير العالي له بين الفلسطينيين للوصول الى نتائج مرضية. القيادات الفلسطينية في المقابل تعاملت بايجابية الى أبعد الحدود للتغلب على الهواجس والمخاوف التي تراكمت بسبب الاعتداءات المتعاقبة التي تعرضت لها المخيمات من أطراف عدة. وبذلوا جهوداً لتفهم المعطيات الجديدة ما بعد الطائف والمساهمة في انجاح عملية الانتقال الى مرحلة التعايش بكل أبعادها. في المحصلة تم الاتفاق غير المكتوب على ما يلي: - جمع السلاح الثقيل والمتوسط، وتقديمه هدية الى الجيش اللبناني. وقد تم ذلك بكشوف موثقة ومدققة من قبل قيادة الجيش اللبناني، أعلن بعدها أن هذه المهمة قد أنجزت. - ينطبق على السلاح الخفيف في المخيمات ما ينطبق عليه بيد اللبنانيين"أي لا يتم جمعه ويترك للتنظيمات التعامل معها بالطريقة التي تراها مناسبة. - ينكفئ المقاتلون الفلسطينيون من المحيط اللبناني الى داخل المخيمات، وقد تم ذلك"بدءاً من إقليم التفاح وبيروت الكبرى والجبل وانتهاء في منطقتي صور وصيدا ومحيط المخيمات". حصل اشكال شرق صيدا، بغض النظر عن ظروفه والمسبب والدوافع، في تقديري كان من الممكن تجنبه بمزيد من الجهد وبعض الوقت. على كلٍ بُذلت جهود سريعة لمعالجته وتم الاتفاق مع اللجنة الوزارية بتاريخ 4/7/1991 على خطوات أقرها في ما بعد مجلس الوزراء"تقضي بمعالجة الاحداث التي وقعت على وجه السرعة وإلغاء كل التدابير الاستثنائية التي رافقت الانتشار من تطويق وحصار المخيمات ووقف الاعتقالات والافراج عن المعتقلين واستعادة الحياة الطبيعية والانتقال الى مائدة الحوار والبحث في ملف الحقوق المدنية والاجتماعية الفلسطينية". على ضوء ما تم انجازه على صعيد عسكري"باعتبار هذا الملف أغلق، عقدت القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان اجتماعاً بتاريخ 18/7/1991 لتقويم ما سبق وتحديد خطوات العمل اللاحقة، فقررت في موضوع السلاح الخفيف وأمن المخيمات اللذين أحالهما الطرف اللبناني عليها: * إخفاء السلاح الخفيف بشكل طوعي" * يتخذ كل تنظيم الاجراءات المناسبة لضبط عناصره" * تعزيز دور الكفاح المسلح. في اليوم التالي أصدرت القيادة بياناً يوضح الخطوات الايجابية التي اتخذتها لتنفيذ التزاماتها وتعهداتها، وتدعو الطرف اللبناني، أن يتعامل معها بالمثل، بخاصة على صعيد"معالجة ذيول الاحداث التي وقعت شرق صيدا، وإلغاء جميع التدابير الاستثنائية التي رافقت الانتشار من تطويق وحصار المخيمات ووقف الاعتقالات والافراج عن المعتقلين واستعادة الحياة الطبيعية والانتقال الى مائدة الحوار والبحث بملف الحقوق المدنية والاجتماعية الفلسطينية". بعد ذلك تبلغت المراجع الفلسطينية القيادة السياسية للمنظمة، وجبهة الانقاذ الفلسطينية أن الحكومة اللبنانية وبعد أن عولج الموضوعين، العسكري والامني، قررت تشكيل لجنة وزارية جديدة تضم الوزيرين شوقي فاخوري وعبدالله الامين، لمتابعة الحوار حول القضايا العالقة خاصة البند الثالث على جدول الاعمال المتفق عليه في القاهرة وهو الحقوق المدنية والاجتماعية. بدأت اللجنة اتصالاتها مع المرجعيتين الفلسطينيتين المنظمة والانقاذ كل على حدة. تخوف الفلسطينيون من أن يُحمّل تعدد المرجعيات مسؤولية أي فشل للحوار، فقرروا بعد اتصالات في مقرات القيادتين، وأثناء اجتماع عقد في مخيم مار الياس حضرته قيادات من منظمة التحرير والانقاذ، بتاريخ 30/7/1991، تشكيل وفد فلسطيني موحد من شخصين يمثلان المرجعيتين هما صلاح صلاح وفضل شرورو. الوفد اللبناني، في لقاءاته مع الاطراف الفلسطينية، كرر ما سبق وطرحه الوزير دلول"موافقة الدولة اللبنانية على اعطاء الفلسطينيين كامل الحقوق المدنية والاجتماعية، باستثناء الجنسية والوظائف العامة"، وطلبوا من الفلسطينيين تقديم وجهة نظر مكتوبة تشرح تصورهم للحقوق الاجتماعية والمدنية التي تلبي حاجاتهم وتساهم في تحسين ظروفهم. بعد مشاورات وفي اجتماع آخر ضم مسؤولي جميع الفصائل الفلسطينية أقر المجتمعون الوثيقة المؤرخة في 12/8/1991 بعنوان"مذكرة حول الحقوق المدنية والاجتماعية الفلسطينية في لبنان". قدم الوفد الموحد المذكرة للجنة الوزارية في أول اجتماع عقد بينهما في مقر مجلس الوزراء بتاريخ 17/8/1991 كان الجو في غاية الود والايجابية. اتفق في هذا اللقاء على: - إقرار المضمون العام للمذكرة والذي يتناول الحقوق المدنية والاجتماعية من منظور فلسطيني. - تجنب الحديث في الحقوق السياسية لما تسببه من حساسية على صعيد الوضع اللبناني الداخلي. - وضع آلية للمتابعة تتضمن : * عقد اجتماعات دورية بين الطرفين يتم فيها البت في ما يمكن معالجته من بنود المذكرة. * تشكيل لجان للمواضيع التي تحتاج الى المزيد من البحث والتدقيق. - الموعد الآخر بعد أسبوعين من تاريخه. قبل أن نصل الى نهاية الاسبوعين اتصل الوزير عبدالله الامين يطلب تأجيل الاجتماع الى موعد آخر نتبلغ به لاحقاً... لم يأت بعد الموعد الآخر حتى الآن. قصدت من هذا العرض الذي أستند في وقائعه إلى ما لدي من أوراق باعتباري كنت من المساهمين في الحوار، أن أستخلص ما يلي: - تعاطت الدولة اللبنانية بعد الطائف بكل الايجابية مع الفلسطينيين على أساس الاعتراف بحقوقهم المدنية والاجتماعية واتخذت خطوات عملية لتحقيق ذلك لكنها فجأة توقفت بدون تقديم أي تفسير ولا تبرير مما فتح المجال أمام الطرف الفلسطيني أن يستنتج أحد أمرين: إما أن هذه الخطوات والتطمينات الايجابية كانت خديعة لتطمين الفلسطينيين حتى تسهل معالجة الموضوعين العسكري والامني ثم يضرب بعرض الحائط بأي وعود أخرى كما حصل فعلاً. وإما أن الدولة اللبنانية قد راهنت على التسوية السياسية التي أعلنت انطلاقتها في مؤتمر مدريد بأنها ستكون مدخلاً لحل شامل يتضمن مشكلة اللاجئين. إذا كان هذا فعلى الدولة أن تراجع حساباتها... نحن الآن في عام 2005 أي بعد 14 سنة على ما تسمى مسيرة السلام، كافية للحصول على قناعة بأننا لسنا أمام حل سياسي قريب، وأن مشكلة اللاجئين ستبقى معلقة لسنوات طويلة قادمة، وعلينا معاً، فلسطينيين ولبنانيين، أن نستمر في النضال الذي بدأ منذ أوائل الخمسينات ضد المشاريع المتعددة لحرمان الفلسطينيين من حقهم في العودة الى أرضهم وممتلكاتهم التي أخرجوا منها قسراً عام 1948. لقد تصدى الفلسطينيون ومعهم الجماهير العربية لكل مشاريع التوطين والتجنيس والتهجير التي تتجدد من وقت لآخر لحل مشكلة كل اللاجئين وليس في لبنان فقط. نحن معاً معنيون برفضها ومقاومتها لكنها يجب ألا تبقى ذريعة لحرمان الفلسطيني من حقه كانسان أن يعيش بكرامة وشرف، وأن ينعم بالديموقراطية والحرية التي يطالب بها كل لبناني مع الاحترام لكل الشرائع والقوانين المرعية على الاراضي اللبنانية. المطلوب وبإلحاح أن تستذكر الدولة اللبنانية قرارها وتعود للحوار مع الفلسطينيين حول حقوقهم المدنية والاجتماعية. - يتضح من خلال سياق العرض أن الفلسطينيين قد سلموا ما لديهم من سلاح ثقيل ومتوسط، ولم يعد هذا النوع موجوداً داخل المخيمات، فقط السلاح الخفيف، وبناء على اتفاق كما هو حاصل في المناطق اللبنانية. مع ذلك أين هو السلاح الخفيف؟ هل المخيمات فعلاً هي غابة سلاح؟ كما تروج لذلك بعض وسائل الاعلام المغرضة والمضللة؟ السلاح الظاهر نجده في مخيمين فقط هما عين الحلوة والرشيدية، في يد حراسات لقيادات ومقرات للاخوة في فتح نتيجة لما تعرض له بعضهم للاغتيال أو محاولات الاغتيال منذ تسعينات القرن الفائت حتى اليوم. وضع له ما يبرره في هذين المخيمين، بغض النظر عن الخطأ والصواب في ذلك. لماذا يجري تعميم هذه الحالة الاستثنائية في مخيمين من أصل 12 مخيماً على المخيمات الاخرى. بالقطع تستطيع أي وسيلة إعلام الدخول الى أي من هذه المخيمات ليتبين لها زيف ما تقوم به من تضليل مقصود لعله يستهدف تبرير استمرار التضييق على المخيمات، وتصويرها بأنها تشكل خطراً أمنياً على البلد، وأنها ملجأ للارهاب !؟. - نأمل أن يعيد المسؤولون في لبنان النظر في سياستهم الظالمة تجاه الفلسطينين، بخاصة أن لبنان يقف على عتبة مرحلة جديدة فيها مساحة واسعة للحديث عن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان. لا يجوز تجاهل الانسان الفلسطيني، لا يجوز استمرار حرمانه من أبسط حقوقه التي تمكنه من العيش بكرامة، لا يجوز استمرار حصار المخيمات في الجنوب وإشعار سكانها بأنهم في سجن كبير. لا يجوز أن يسمح لكل انسان في العالم أن يمتلك بيتاً أو قطعة أرض في لبنان بما في ذلك الاسرائيلي إذا تجرأ ورغب التملك في لبنان بجواز سفر أميركي أو فرنسي أو غيره من جوازات الدول الكثيرة التي يحق للاسرائيليين الحصول عليها ويستثنى من ذلك الفلسطينيين فقط. ولا يجوز استمرار حرمان الفلسطيني من حقه في العمل والحصول على دخل يساعده في توفير العلم والعلاج لعائلته. في تقديري انها مصلحة لبنانية بقدر ما هي فلسطينية أن تتوقف الدولة عن معاملتها المجحفة تجاه الفلسطينيين التي بسببها توجه للبنان تهم بالعنصرية وتجاهل حقوق الانسان. كاتب وسياسي فلسطيني.