النموذج الذي قدمه لنا المرحوم حسين البرغوثي، مثقفاً ومبدعاً وإنساناً، كان نموذجاً مختلفاً حقاً، فهذا المثقف والمبدع كان شجاعاً بما فيه الكفاية ليذهب إلى مناطق العتمة والجدل في ثقافتنا العربية وليمزجها مع مناطق الجدل والضجيج في الثقافة الغربية خارجاً من كل ذلك برؤية اعتمدت المنهج أكثر مما اعتمدت النتائج. كان مثقف الأسئلة أكثر من مثقف الإجابات، كان مثقف الاحتمال وليس مثقف الاكتمال، كان مثقف القلق وليس مثقف السكون والركون، وكان مثقف التوتر وليس الاستكانة. لم يبهره الغرب عند رؤية كنوز ثقافته وأسئلتها ومضامينها ولم يتعصب لمقولاتها أيضاً، فرأى الصورة بإحداثياتها الزمانية والمكانية، ومال إلى الاستبصار والاستبطان بما يشبه العرفانية الكشفية. النموذج الذي قدمه هذا الرجل، يظل في مشهدنا الثقافي الفلسطيني نموذجاً لا ينسى ولا يمحى، فهو النموذج الجريء الذي لم ينصع لشروط اللحظة السياسية أو"الموضة"العقائدية ولم ينصع ولم يخضع للموروث ولا لقداسته، ولم ينقل من دون تمحيص ولم يقرأ بانبهار، بل كان حراً كما ينبغي لمبدع، وسيداً كما ينبغي لمثقف. أراد للشعر أن يعبّر عن العالم ببراءة أو حكمة النص المقدس، وأراد للنثر أن ينثر بدائع الكون ثم يضمها من جديد، وأراد للتنظير النقدي أن يجمع شتات العلوم كلها لفهم الجمال العصي على الفهم. النموذج الذي نتحدث عنه، هو نموذج المبدع الذي أضاف إلى السرد ما أضاف، وأضاف إلى النثر ما أضاف، وأضاف إلى الشعر كذلك، إذ على يدي هذا المبدع تحول السرد في روايته"السادن"دفيئة تزهر بكل شيء، المتعدد والغائب والحاضر والمتواري والواضح والغامض، وعلى يديه صار النثر سبيكة ذهب وفضة، وحمل عنه ومنه المعادلة الرياضية والمعادلة الروحية، أما الشعر فصار معماراً من الاسمنت والزجاج والضوء والغيم والماء. النموذج الذي نتحدث عنه، بدأ معرفياً ثم انتهى عرفانياً، قاطعاً المسافة الطويلة والمُنْهِكة ما بين البصر والبصيرة، وما بين الحس والإحساس، وما بين الكشف والانكشاف. ما الذي أراده هذا المبدع، وما الذي بحث عنه؟ وكيف لنا أن نقوّم عمله في هذه اللحظة؟ أقول بإحساس شديد بالتواضع ان المبدع الكبير حسين البرغوثي من قلائل المبدعين الفلسطينيين الذي أراد من مشروعه الإبداعي أن يتحول نصاً حضارياً في كل معنى الكلمة، وأعني بذلك أن يتحول النص بإحالاته ودلالاته ورموزه ممثلاً أو رامزاً للحظة الحضارية التي انتهى إليها ويكتب فيها، أي أراد أن يجعل من نصّه خلاصة ما وصل إليه من أفكار ورؤى ومقولات، وأراد بحق أن يرد وأن يبحث عن إجابة، أراد بحق أن يحدد مواقعه ومواقفه ما وسعه إلى ذلك من سبيل. والمشكلة هنا أو الممتع أيضاً أن ما كان يصل إليه مبدعنا كان يتركه سريعاً معتقداً أن الوقوف مقتل وأن الاستكانة مجرد قبر. إذاً، نحن أمام مبدع حقيقي، راحل أبداً، متطلع أبداً، يسعى إلى معبد الجمال وهيكل الفن أنّى وجد، ولأن الفكرة في حد ذاتها غامضة وعصية على الإمساك، فإن بحث المرحوم لم يتوقف. كان يعتقد أن كل ما يُفَسَّر غير جدير بالتوقف عنده، وكل ما يُحَاطُ به دليل على نقصانه. وفي ديوانه"ليلة وتوبة"يعبّر شاعرنا عن خيبة أمله من الكلمات التي يستطيع قولها ويتمنى تلك التي لم يقلها، وفي الديوان ذاته، يسأل الحجر عن عدد التماثيل اللانهائي الذي يستطيع هذا الحجر أن يشكّلها. هذا النموذج من المبدعين يذكرنا بأولئك المتصوفة الذين جعلوا لمراتب الوجد والكشف درجات ومقامات لا تُبلغ ولا تُرتقى إلا بالجهد، وهو ما كان يعبّر عنه مبدعنا الأصيل"بقوة الروح". والجهد لا يعتمد على المعرفة فقط، الجهد هو التأمل، وهو الإشراق. وقد يكون من الغريب أن هذه الكلمة بالذات التي انحدرت إلينا من لغة المتصوف السهروردي كانت إحدى مفردات مبدعنا أيضاً. حسين البرغوثي، كان يعرف تماماً واقعة الثقافي والفكري، كان يعرف أنه نتاج ثقافة بشرية كونية، ثقافتنا فيها جزء من كلّ، وإذا كان لنا شرف الانتماء إليها، إلا انها ككل ثقافة عريقة تعاني نواقص وعيوباً، وكان مبدعنا الكبير أحد الذين حفروا تحت جذر هذه الثقافة في أخص خصوصيتها وأكثرها حساسية، وقدم أفكاراً جديرة بالاهتمام والتحقق. حسين البرغوثي، الذي نحتفل اليوم بذكراه الثالثة، لم يكن صديقاً فقط، ولم يكن معلماً أكاديمياً فحسب، وإنما كان روحاً كبيرة، أرادت أن تستوعب العالم وأن تعلمنا كيف نستوعبه أو نفهمه أو نكتشفه بحجر من الورد المقدود من الروح والقلب وأن نرى الجمال فيه كالسائل في الأواني المستطرقة. قدم لنا المرحوم قلقه لنتعلم منه، وعلمنا ألاّ نمر على ظواهر الأشياء فنتوقف عندها، طلب منا ببساطة وحكمة أن نحدق وأن نتبصر، ليس لنعرف فقط، وإنما لنكتشف ذواتنا وأن نغير أماكننا لأن الأماكن التي لم نرها هي الأكثر جمالاً واستحقاقاً وجدارة بالمغامرة. ذكرى هذا المبدع المختلف في قلوبنا دائماً، وسنظل نقول إن في هذا الوطن رجلاً كان بيننا اسمه حسين جميل البرغوثي، مر سريعاً في مساء مدينتنا، أضاء قليلاًَ، ثم انطفأ، لكن المساحة التي اتسعت لنجومه ظلت مضاءة بعدما غاب البرق ذاته، له الرحمة ولإبداعه البقاء. * مدير بيت الشعر، رام الله.