قد يحلو للبعض القول ان مبادئ الإسلام منحصرة في العبادات داخل المساجد وان مجالات الحياة الاجتماعية بأسرها منوطة لعقل الإنسان يتصرف ما يشاء خارج الضوابط الخلقية والدينية التي جاء بها الإسلام، والحقيقة ان هذا التصور هو ابعد ما يكون عن فهم حقيقة الالتزام الديني لأنها تتناقض والعقل والمبادئ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية الغراء... فأما تنقضها مع العقل، فلأنه يشعر ذاتياً بأنه قاصر لا يقوى على ادراك الوجود إلا باعتماد الوحي الإلهي الذي يريه منهج التصور وطريقة السير وأسلوب البناء الحضاري. ذلك ان النشاطات الاجتماعية، ينبغي ان تقاس وتقوّم بحسب شروط المعتقد الإسلامي. فإن فعل ذلك سلمت عقيدتهم وقويت عبادتهم وصاروا خير خلف لخير سلف. اما بالنسبة إلى حكمة الصيام من زاوية الموضوع الذي نعالجه في هذا المقام فنقول ان الصيام مدرسة روحية بالدرجة الأولى، ومدرسة اجتماعية بالدرجة الثانية وان كان الفصل بين هذه وتلك منهجياً لا أكثر وذلك لأن الإسلام يريد من المرء ان يعلو على شهواته فلا تؤثر فيه، ولا تجذبه إليها خشية استبعاده وإذلاله. فالمسلم التقي، مترفع، عزيز، لا يتأثر بأي إغراء مادي، وعلى هذا الأساس يتمكن من إنفاق ما يملك من طعام وشراب وملبس وما سوى ذلك حين تكون زائدة عن حاجاته في وجوه البر والخير والإحسان. أي ان من حكم الصوم ان يتجرد المسلم من كل ما يزيد على حاجاته ليقدمه إلى من هو في أمس الحاجة إليه. وهذا هو جوهر العمل الاجتماعي الذي يحبذه الإسلام وينصح أتباعه بالقيام به وتوسيع مجالاته لتشمل الحياة العامة كلها. من هذا يتضح لنا ان عبادة الصوم ذات ابعاد اجتماعية مهمة لا يمكن ان تخفي. فمن الأبعاد والنتائج الاجتماعية لعبادة الصيام نذكر ما يأتي: 1 - الصوم وحماية حقوق المسلمين ان أول بند اجتماعي يعنى به الصوم - بالاشتراك مع سائر العبادات - هو حماية حقوق المسلمين والدفاع عنها وتحريم حرماتهم. فالصائم دائم الصلة بربه، فهو قد تخلص من تأثيرات المادة التي تظهر غالباً في الميل الشديد إلى الطعام والشراب. وهذا يدل - لا محالة - على ان المترفع عن إغراءات الدنيا وتأثيرات المادة، يأبى ان يظلم الناس ويسلب بعض حقوقهم. والسر في ذلك ان مدار الظلم أو السلب والاعتداء هو تلك الإغراءات والتأثيرات. من هذا المنطلق، نفهم ان حماية حقوق المسلمين من واجبات الصائم، اذ لا يكون صيامه معدوداً الا إذا ساهم في خدمتهم واحترام حقوقهم ودافع عنها وتجنبت نفسه الطمع فيما يملكون، والا فلا جدوى من صيامه. وهذا يعتبر ببعض إيحاءات ودلالات الأحاديث الشريفة الآتية: أ - عن ابي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه"متفق عليه. ب - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"متفق عليه. وآخر ما نختم به هذا البند حديث نبوي عطر يوضح لنا حق المسلم على أخيه المسلم، فعن ابي هريرة رضي الله عنه، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حق المسلم على المسلم: رد السلام وعيادة المريض وإتباع الجنائز وإجابة الدعوى وتشميت العاطس"متفق عليه. 2 - الصوم والأمانة من حقوق المسلمين أداء أماناتهم بعد المحافظة عليها وصيانتها. فقد بين الإسلام بوضوح تام ان الذي يخون أمانات الناس فاقد الإيمان هش العقيدة ملحق بجماعة المنافقين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا اؤتمن خان"متفق عليه. وفي رواية"وان صام وصلى وزعم انه مسلم". وقال رسول الله"صلى الله عليه وسلم لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له". رواه الإمام احمد. ووجه الارتباط الكائن بين عبادة الصوم وأداء أمانات الناس يتمثل في ان الله تعالى فرض على المسلم ان يؤدي أمانة عظيمة من أمانات السماء الا وهي أمانة الصوم، وهذا يعد تدريباً روحياً كبيراً يستفيد منه ذوو الألباب والبصائر. 3 - الصوم وفعل الخير ان الموقف الصائب الذي ينبغي ان يتخذه المسلمون في حياتهم - وبخاصة في شهر رمضان: شهر التدريب الروحي - هو ان يكثروا من الخيرات ما استطاعوا، ويكفوا عن فعل الشر، وان كان اقل من الذرة، قال الله تعالى:"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره". وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عمر الإنسان قصير، والمعوقات كثيرة، الفرص قليلة، ويوم الحساب قريب فلا بد على المرء العاقل ان يجد من الطاعات، ويبادر إلى فعل الخيرات بقدر ما اؤتي من جهد وطاقة. قال الله تعالى:"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين"آل عمران: 133. كاتب لبناني.