الشاعر الإيطالي فرانكو بيفُوني، أستاذ الأنتروبولوجيا في جامعة روما. وفي الرباط جمعَنا في الخريف الماضي لقاء عن الشعر واللغة. كانت القصائد مصدر الحوار بيننا وكانت أوضاعُ الشعر واللغة في العالم. أثناء فسحة، بعد الندوة، اقترحت عليه زيارة شالّة، المطلة على نهر بُورقْراق. هناك، وسط أطلال رومانية لا تزال تحتفظ بآثار البنايات، كان حديثنا عن الرومان، بين أوروبا وشمال أفريقيا. ثم عن الحضارة الرومانية والأمبراطور الروماني. ثم عن الكنيسة والفاتيكان والمسيحية والبابا. شرح لي فرانكُو أن الطقوس الخاصة بالبابا هي نفسها طقوس الأمبراطور الروماني القديم. لا شيء تغير في طريقة اللباس والمظهر والمراسيم. ثمة استمرارية لروما القديمة في الفاتيكان. وثمة مطابقة بين الأمبراطور وبين البابا. هذا ما أدرّسه لطلابي. قال لي. وأضاف أنه عندما يحدثهم عن البابا، بهذه الطريقة، أو عن الأمبراطور الذي يستمر في مظاهر البابا، يجد صعوبة في إقناع الطلاب بتحليله لهذه الاستمرارية بين نموذجين يبدوان، عند الوهلة الأولى، متعارضين تماماً. حديث عن الرومان، في العاصمة روما وفي مستعمراتها المغربية، قادنا إلى عالم أوسع هو الحضارة الرومانية بين عهدين وفي بنيتين متباينتين، من حيث الاعتقاد، ولكنهما متفاعلتان من حيث الرمزي. كان حديثه يكاد يكون غريباً عني. حتى تناوله لظهور فكرة المطْهر وتمجيدها من طرف دانتي في"الكوميديا الإلهية". غرابة جانب من حديثه جاءت من كوني لم أتعلم الديانة المسيحية إلا من جانبها العقائدي العام. أما الطقوس والشعائر فلا أعرف منها سوى تلك التي أتتبعها، مرة بعد مرة، عند زياراتي للكنائس أو في مناسبات دينية مسيحية، اشهرها ميلاد المسيح. وكلما التقيت صديقاً مسيحياً، له خبرة بالطقوس والشعائر، سعيت إلى تعلم ما لم تسعفني ثقافتي الإسلامية، المغربية، تعلمه. ذلك أكثر من طبيعي. إنه من بين ما يسمح لي بفهم دين كبير، له مع الإسلام تاريخ وله حضور في بلاد المشرق، ابتداء من مصر وشمال الجزيرة العربية. وهو متجذر في تاريخ أوروبا ومنتشر في العالم. له التأثير في الفنون كما له التأثير في الآداب الغربية الحديثة، منذ دانتي. ثم ينكشف تأثيره في الحركة الأدبية العربية الحديثة، على نحو يحتم علي معرفة بالمسيحية. وأنا كل مرة أصطدم بعجزي عن استيعاب أوضاع وأعمال لأنني لا أملك هذه الثقافة. من العقيدة إلى الطقوس والشعائر إلى ما هو أبعد. الأفكار. القيم. المواقف. الأفعال. وأكثر من ذلك حضور البابا يوحنا بولس الثاني في فترة من حياتي كإنسان، يراقب وينفعل بما يعيش. هل مظهره يماثل مظهر الإمبراطور الروماني في اللباس الأبيض الوارف والأردية التي يحمل كل واحد منها رموز القداسة؟ يوحنا بولس الثاني من كبار الشخصيات التي رافقت حياتي وحياة كل واحد منا، منذ نهاية السبعينات. في أحداث غيرت العالم الذي عشنا ونعيش. لم أكن أنتبه دائماً إلى وقائع تخص الكنيسة الكاثوليكية، لأنها ليست من شأني. في مقابل ذلك هناك ما كان يتحرك في مكان ما من المشهد. في زاوية حيناً. في نافذة. أو في ساحة أحياناً أخرى. ويوحنا بولس الثاني تحوّل إلى شخصية مؤثرة في وقائع وأحداث تقترب مني أو تبتعد. ولكنها كثيراً ما كانت تطرح ما لم نكن نعتقد، لسذاجتنا، أنه سيصبح ذات يوم قضية كبرى، في جانب من مسار زمننا. لا أقصد من هذا أنني تحولتُ إلى مؤرخ لحياة يوحنا بولس الثاني ولا إلى مستقْصٍ لأخباره. لا شك في أن معرفتي به محدودة لأنني كنت أتتبع، بين الفينة والأخرى، هذه الشخصية المؤثرة. وأنا، هنا، أسجل ما فكرت فيه وأنا أرى صوراً له، وهو مريض، بين المستشفى والفاتيكان. أو صوراً استرجاعية لفترة توليه البابوية. أسجل مذكرات شخصية عن يوحنا بولس الثاني. في فترة تقاسمتها مع أبناء العالم الذين عاشوها. لذلك فأنا، من جانبي العربي والإسلامي، أسجل ما أجده جديراً بالتذكر أو جديراً بأن يكون نموذجاً للمستقبل. بالتسجيل أقصد أن هناك وقائع استثنائية، طبع بها يوحنا بولس الثاني زمننا، مشتركاً، كيفما كنا في العالم الذي تقاسمته وغيري. وتلك حكمة ما نعيش ونتقاسم عيشه. هناك غموض مضيء في بعض قسمات وجه هذا البابا البولوني. غموض في حالات من جلوسه أو سجوده. دائماً كنت أنظر بصمت إلى انزوائه مع نفسه، حتى ولو كان في مجتمع يحيط به. دائماً كنت أحسه ينسل من الخارج إلى الداخل، بنظرات شاردة أو ابتسامة شفتين لا تتحركان. هذا الانفلات من الجماعي، من العلني، من الخارجي، عادة ما كنت انظر إليه بتركيز. غموض كان يجعلني أحار في كيفية النظر إليه أو يحرضني على التخلي عن التعامل معه كشخص موجود بالآخرين. إنه يعيش في استغراق تام، في انزواء يتردد من مكان إلى مكان، في حركات جسدية لها التوازن. وهو يتكلم بحياء. خَشوع في النطق بالكلمات. هادئ في الإلقاء وفي الإنصات. ذلك ما قصدت به الغموض المضيء، الذي ينعشنا فننسى الجنس والعقيدة والمكانة ولا يبقى سوى الأصلي الذي يتحقق في شخص يبتعد ليقترب. هل في هذا الغموض إحساس بالمأساة أو المأسوي؟ لم أكن أشك في ذلك. كان يوحنا بولس الثاني يبدو لي من أولئك المؤمنين الأصفياء بعقيدة تنبني، في مبادئها العلنية، على الحب والمحبة. ولكنه لم يعثر في العالم، الذي كان، على ما يفيد أن الإنسان قادر، في زمننا، على الاعتقاد في الحب والمحبة. التجربة البولونية في حد ذاتها دالة. إنه بولوني، نازل من جبال الألم والعذاب التي حاصرت التاريخ البولوني وحملتها نفوس أبناء بولونيا، في السياسة كما في الجغرافيا، في الأدب كما في المجتمع. الهولوكوست وجه من وجوه الألم والعذاب. وعمل يوحنا بولس الثاني على تحرير وطنه من الشيوعية، فإذا بالبلد يصبح فريسة العولمة الاقتصادية التي تهدم قيم التضامن التي بشرت بها الانتفاضة من أجل الإعلاء من الاستهلاك والربح واللامعنى. ذلك الغموض له بعدٌ نُسْكيّ. هذا ما كان يتضح لي. بين الانزواء والإحساس بالمأساة تعلن النسْكية عن نفسها في لقطات. يفلت يوحنا بولس الثاني من نفسه إلى نفسه في وقفة تسمع فيها جميع الواقفين في حضرة ما لا يدركه إلاّ هُمْ. في عينين مغمضتين. في انحناء الرأس لمدة طويلة. في أصابع اليدين وهي تضغطُ على بعضها بعضاً. تلك علامات تنقل الغموض بين حالات وأحوال. ولذلك كنت أنظر إليه كما لو كنت أقرأ عن متصوف قديم. أو عن متعبّد لا يغادر مغارته، حتى وهو يلتقي بالجموع التي تحج لرؤيتة والتبرك به. أنظر إليه ويغريني أن أعرف كيف يقضي بقية وقته داخل الفاتيكان. كنت متحرراً من المقارنة بينه وبين ما كنت أقرأ عن الباباوات عبر التاريخ. يبدو لي أن يوحنا بولس الثاني كان مؤمناً إيمان الشعراء المتصوفة بدين الحب والمحبة. قصائده التي كان يكتبها هي كتابه السري عن هذا الدين. الحب والمحبة. مع يوحنا بولس الثاني عشنا حوار الأديان. أنا، المغربي، العربي، المسلم، أشعر بفائدة فعل الحوار. هناك أولاً الإيمان بالتكامل والتساوي بين البشر وعقائدهم"ثم هناك الإيمان بجميع هؤلاء الذين جعلوا، عبر التاريخ، من اختلافهم العقائدي حجة في الاحتكام إلى الكراهية والحقد والعداء حجة للحروب والدم والإذلال والاستعباد. تاريخ الكنيسة الكاثوليكية عريض ومؤلم. بين الكاثوليك والوثنيين. بين الكاثوليك والمسلمين. بين الكاثوليك والبروتستانت. كيف لي أن أختصر هذا التاريخ؟ شخصياً لا أجد نفعاً في استعمال أي تبرير. الإنسان قبل كل شيء. كرامته وحريته. هو ما يجب الاحتكام إليه. إيمان يوحنا بولس الثاني هو الذي أرشده إلى فكرة الحوار بين الكاثوليك والمعتقدات الأخرى، المؤمنة بالإله الواحد أو ذات عقيدة وثنية. لربما كانت هذه الفكرة هي التي ستبقى لعهد طويل وستطبع الكاثوليكية في عهده. لنا الآن قراءات لهذا الحوار وستتكاثر في كتابة تاريخه وسيرته الشخصية. ولكنها فكرة تملك ما يسمح لها بأن تستمر بعده. بين الكاثوليك وسواهم. وبين أصحاب العقائد، الذين يمكن أن يتعلموا من حكمته درساً في فتح حوار بينهم، أي أن يعترف أصحاب كل عقيدة بالعقائد الأخرى، القائمة على التسامح والرحمة. لن أنتظر قراءات حتى أسجل في مذكراتي هذه الفكرة التي قلَب بها البابا يوحنا بولس الثاني وجه الكنيسة الكاثوليكية، بل وجه المسيحية، التي يريد السيد بوش أن يديم لها وجهها الاستبدادي، الدموي، الذي لا يترك للحب ولا للمحبة ما تتحرك به في اتجاهات مختلفة للحياة البشرية. ويكون الحوار بين المسيحية والإسلام. دائماً لي التأكيد نفسه. لست مؤرخاً للأديان ولا للعقائد أو الطقوس والشعائر. كل ذلك بعيد عني. أكتب عما عشت في زمن الحروب والاستعباد والظلم والجوع والكراهية. عندما نطق يوحنا بولس الثاني باسم الحب والمحبة وجد الطرق الألف للحوار مفتوحة. بين المسيحية والإسلام. هو حوار لا يقل في شيء عن الحوار بين المسيحية واليهودية. أو بين الكاثوليكية واليهودية. يعرف الفاتيكان كما يعرف المسلمون أن بين الطرفين تاريخاً قاسياً، دموياً. وأن بينهما، أيضاً، في أكثر من زمان ومكان، تاريخاً من الحياة المشتركة، المبدعة. حوار بين ديانتين تعيشان جنباً إلى جنب في الكثير من جهات العالم عبر مؤسسات لها صلاحية التوجيه. لماذا الحوار بين المسيحية والإسلام؟ من أين يبدأ هذا الحوار؟ بين من ومن يتم؟ كيف ينتقل من قمة الهرم إلى قاعدته أو من قاعدته إلى قمته؟ أسئلة، وغيرها، كانت تتردد في نقاشات من هذا الجانب أو ذاك. وهي لا تعني أن الطرفين وضعَا أسساً للحوار وشرعَا في بناء خطاب بينهما. فكرة الحوار، التي أتى بها يوحنا بولس الثاني، هي التي تعنيني، هنا. فمسألة الحوار بين الديانتين، المسيحية والإسلام، أو بين الأديان، بل بين الطوائف ضمن الديانة الواحدة، فكرة لا يمكن أن تنطلق إلا من وعي يؤمن بدين الحب والمحبة. كان جاك لاكان عقد في تاريخ 24 تشرين الأول أكتوبر 1979 ندوة صحافية في النادي الثقافي الفرنسي في روما، بمناسبة حضوره مؤتمراً للتحليل النفسي. من بين المحاور التي كانت تشغل الملاحظين آنذاك مسألة عودة الدين إلى الفضاء العمومي. طرح صحافي سؤالاً على جاك لاكان جاء فيه: - كيف تفسرون انتصار الدين على التحليل النفسي؟ وكان الجواب: - ليس ذلك قط من طريق الاعتراف. إذا كان التحليل النفسي لن ينتصر على الدين، فلأن الدين لا يبلى. التحليل النفسي لن ينتصر، فهو قد يستمر على قيد الحياة وقد لا يستمر. - هل أنتم متيقنون من أن الدين سينتصر؟ - نعم. إنه لن ينتصر فقط على التحليل النفسي، بل سينتصر على كثير من الأشياء الأخرى أيضاً. نحن لا نستطيع حتى أن نتخيل كم هو الدين قوي. جرى هذا الحوار بين صحافيين وبين جاك لاكان في روما نفسها، على مقربة من الفاتيكان. وتحقق ما كان نطق به لاكان. في كثير من مناطق العالم. عودة الدين. وهي عودة متموجة الدلالة. ويطغى عليها العنف. الكراهية، الحقد بين الأديان والعقائد. وفكرة الحوار بين الأديان، كما عمل من أجلها يوحنا بولس الثاني، أو جاءت بين المسيحية والإسلام، لمسنا معناها مباشرة بعد حرب الخليج الأولى، ثم أصبحت بعد 11 أيلول سبتمبر وحرب الخليج الثانية ذات وضعية أفصحت عن صعوبة إقامة حوار، في غياب التكافؤ بين الطرفين المتحاورين، أو عدم فاعلية الحوار في زمن انتصار قيم عولمة المال والاقتصاد. من حوار جاك لاكان إلى فكرة يوحنا بولس الثاني بين الأديان، وخصوصاً بين المسيحية والإسلام، لم ينتج أي تغيير في وضعية الجفاء بين مسيحية على أرض غربية وإسلام على أرض عربية وإسلامية. وفي الوقائع ما يدل على أن الفكرة لم تعثر بعد على تربتها. ولربما كان لنا أن نأمل في زمن مقبل. من يدري؟ فكرة يوحنا بولس الثاني هي التي كانت تمثل خلاصة ما كنت ألاحظه في سلوكه المتواضع حتى لكأنه غمامة تهبط على أرض أماتها الجفاف لعهود أو لهو نسمة تهب من واحة بعيدة على مسافرين في صحراء تحيط بالأرض. ولنا في فراق يوحنا بولس الثاني لحظة لقاء لتحية ناسك تعلم كيف يحوّل مبدأ الحب والمحبة إلى فكرة إنسانية، على غرار سلفه ابن عربي، الذي كان جعل من الحب والمحبة ديناً وإيماناً.