نشر تقرير التنمية البشرية العربية على رغم اعتراضات واشنطن وبعض الدول العربية اثبت قواعد مهمة اولها ان الممنوع يصبح في خانة اشد حالات الرغبة للاستحواذ، حتى لو كانت الجهة المانعة تملك قوى وقدرات فائقة، وثانيها انه بقدر ما يتم تشديد الحظر، بقدر ما يوفر ذلك مناخاً للتفلت والتسريب وكسر المحظورات. هذا على صعيد ما هو نظري، فكيف يمكن ان يبقى تقرير في نطاق السرية والحظر بعدما طلب برنامج الأممالمتحدة الإنمائي من باحثين عرب إعداده عن التنمية البشرية في المنطقة العربية، وكتب كل في مجاله اقساماً منه. ان في الأمر خطأ ما، وتقديراً غير صحيح من قبل الجهة التي اصرت على المنع والتأخير في نشر التقرير. اذ بادر الباحثون الذين اعدوه - وهم من الباحثين المستقلين عن الحكومات ويملكون كفاية مشهودة في مجالات عملهم ? الى التهديد بنشر التقرير على مسؤولياتهم الخاصة، كونهم معنيين ايضاً وأساساً بحاضر بلدانهم ومنطقتهم ومستقبلها ويهمهم ان تكون التنمية في افضل حالاتها الممكنة، ولا تدور حول"ثقب اسود"يعطل ويصادر ويستحوذ ويمنع ويستوعب ويخرب قدرات وإمكانات وكفايات وثروات ، بشرية وغيرها ، حيوية في الوطن والأمة. فماذا عن حيثيات ما حصل، وما هي التسويات التي تمت لينشر التقرير بعد ستة شهور من الموعد الذي كان من المفترض نشره فيه؟ المعروف ان الأممالمتحدة ومن ضمن برنامجها الإنمائي والتي تساهم الولاياتالمتحدة بنحو 100 مليون دولار من تمويله، أي حوالى 70 في المئة من اجمالي موازنته يساهم الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وبرنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأممالمتحدة الإنمائية بتمويله جزئياً دأبت على إعداد تقرير سنوي عن التنمية ومعوقاتها في العالم، ومن بينها بلدان المنطقة العربية، تكلف باحثين مستقلين بإعداده، وصدرت ثلاثة تقارير حتى الآن، اعتباراً من عام 2002. إلا ان ما حدث بالنسبة الى التقرير الأخير كان لافتاً، إذ ان الأممالمتحدة اعترضت على نشره، وهددت بوقف تمويلها للبرنامج الأممي كله ، بتحريض واعتراض اساسي من الولاياتالمتحدة، إن تم المضي في نشره بصيغته المعدة. وكان مفترضاً ان ينشر التقرير في تشرين الأول اكتوبر الماضي، وعندما أُبلغت هيئة إعداد البرنامج بذلك، اعلنت انها قد تنشر التقرير على مسؤوليتها الخاصة. مع ذلك فإن حبل الحوار لم ينقطع بين الجهات المعنية، وبقي الأمر بين اخذ ورد. وذكر الدكتور مصطفى كامل السيد استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، والمشارك في إعداد الجزء الخاص بالحريات السياسية في مصر من التقرير، تعليقاً على"الفيتو"الأميركي انه"فضيحة جديدة للحكومة الأميركية التي تتباهى بالدعوة الى الديموقراطية، وعندما يصدر تقرير كتبه اكاديميون عرب مستقلون عن الحكومات، ويدعو الى رفع القيود عن المشاركة السياسية في الوطن العربي، وإلى التزام قواعد الحكم الرشيد التي من شأنها تخفيف حجم الفساد السائد، فإن الولاياتالمتحدة تعترض وتنتهك بذلك استقلال منظمات الأممالمتحدة". وتم التوصل الى تسوية بين الجهات المعنية قضت بنشر التقرير كما هو ، ولو متأخراً ، لكن بعد تثبيت مقدمة تخفظية من مارك مالوك براون المدير العام لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، جاء فيها: "ان كتابة هذا التقرير اتخذت ، وللأسف ، طابعاً سياسياً شديداً، وعادة ما تكون غير دقيقة، كون بعض الآراء التي اوردها المؤلفون لا تعبر بالضرورة عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، او الأممالمتحدة، ولكن هذا التقرير يعكس بوضوح غضباً وقلقاً حقيقيين في كل انحاء المنطقة". معوقات الداخل والخارج لماذا اعترضت واشنطن في الأساس على التقرير؟ يعتبر التقرير ان الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والاحتلال الأميركي للعراق ما هما إلا انتهاكات للحرية، ومعوقات للتنمية البشرية في البلدين وفي المنطقة ايضاً، ويذكر ان الولاياتالمتحدة اضرت بالنظام الدولي عندما استخدمت او هددت مراراً باستخدام حق النقض، ما مكن اسرائيل من إقامة مستوطنات جديدة ومواصلة بناء جدار الفصل، مما قد يؤدي الى تغذية دوامة من العنف والعنف المضاد. كما ان الاحتلال المشار إليه منح الحكومات العربية مبرراً لتأجيل عملية التحويل الديموقراطي، وأجبر اصلاحيين عرباً على تحويل بعض طاقاتهم عن الإصلاح، وعزز من موقف الجماعات المتطرفة. وفي ما يتعلق بالعراق ذكر التقرير ان الشعب العراقي خرج من تحت وطأة حكم استبدادي انتهك حقوقه الأساسية وحرياته ليقع تحت سلطة احتلال اجنبي زادت من معاناته الإنسانية. ان عدداً من الحكومات في العالم العربي تذرعت بالخوف من الإرهاب لاتخاذ اجراءات فرضت بموجبها قيوداً اكثر تشدداً على مواطنيها، وأن استمرار العجز التنموي والقهر في الداخل والاستباحة من الخارج يمكن ان تفضي الى تعميق الصراع, وقد يلجأ بعضهم الى اشكال من الاحتجاج العنيف تتزايد معه فرص الاقتتال، ما قد يؤدي الى تداول المقبل للسلطة يتأتى من العنف المسلح. ووجه معدو التقرير انتقادات حادة الى ما سموه"دولة الثقب الأسود"، مشيرين الى ان السلطة التنفيذية في الدولة العربية الحديثة تجسد هذه الظاهرة التي تحول المجال الاجتماعي المحيط بها الى ساحة لا يتحرك فيها شيء، ولا يفلت من آثارها شيء. وأشاروا الى ان اجهزة الاستخبارات تفوق صلاحياتها صلاحيات أي جهاز آخر في الدولة، كما انه يمكن استخدام القضاء العادي والاستثنائي لإقصاء المنافسين والخصوم"والمعارضين"وتحجيمهم. كاتب فلسطيني.