دخلت العملية السياسية العراقية التي انطلقت على أساس قانون إدارة الدولة الموقت الذي وضعه بول بريمر طوراً جديداً مع فشل الجمعية الوطنية في تفعيل دورها ووضع برنامج جاد لمعالجة حال فقدان السيادة والأوضاع الكارثية التي تعانيها البلاد. فبعد شهرين كاملين من الانتخابات التي وصفت بأنها مفتاح إنهاء الاحتلال وفاتحة عهد ديموقراطي جديد، لا تزال الأطراف السياسية منهمكة في مساومات شخصية وفئوية ضيقة وتبدو غير قادرة على العمل من دون قرار من الاحتلال نفسه، فيما قوات الاحتلال من جهتها مستمرة في عدوانها وإرهابها، فاتحة على مصراعيها كل أبواب الشر من الفساد الإداري والجريمة المنظمة والعنف المنفلت، إلى الطائفية السياسية والعنصرية المقيتتين والجهل والتطرف الهمجي الأعمى. ويدفع الاحتلال بالبلاد إلى المزيد من الخراب والشعب إلى العوز والمجاعة، مبعثراً آمال المواطنين كأشلاء البشر في الفضاء وعلى قارعة الطرق. ولنا أن نتساءل إن كانت الأطراف المشاركة في العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال أضحت أسيرة لتحالفها غير المبدئي مع عدو مدجج طامع يضمر السوء للوطن. وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع قوى سياسية معينة، فإن حال الشلل الراهنة لا تخدم أهداف أي طرف يسعى إلى مستقبل سياسي في البلاد، اذ ان نتيجة هذه الحال هي ترك إدارة البلاد لإشراف السفارة الأميركية واستمرار تدهور الأوضاع وقيام الاحتلال بتعميق الفرقة بين العراقيين واستفراد القوى العراقية الواحدة تلو الأخرى وصولاً إلى تفكيك وتدمير الكيان الوطني. كانت الانتخابات التي أجريت في 30 كانون الثاني يناير الماضي محل خلاف عراقي شديد، فمن قاطعها لا يعتقد بشرعية المؤسسات الناجمة عنها إلا أنه في الغالب مستعد للتعامل مع هذه المؤسسات على أساس أدائها. أما من شارك فيها فتقع عليه مسؤولية احترام الثقة التي منحه إياها ناخبوه وتنفيذ وعوده التي كان أولها تحديد موعد زمني لجلاء قوات الاحتلال. وعلى رغم اختلافنا مع نهج خوض الانتخابات في ظل الاحتلال ووفقاً لشروطه، فإن نتائج الانتخابات كانت واضحة في نسبة المشاركة الكبيرة بغض النظر عن صحة الكثير من الشكوك والطعون، وواضحة أيضاً في منحها ثقة كبيرة من جانب قطاع واسع من المجتمع العراقي لقائمة الائتلاف العراقي الموحد. ومهما تكن أسباب كسب هذه القائمة ثقة تفوق غيرها من القوائم وربما مساهمتها في تقليص حجم المقاطعة، فإن على هذه القائمة اليوم مهمة تمثيل ناخبيها وتعزيز ثقة عموم المواطنين بالجمعية الوطنية وبالعملية السياسية التي أقدمت هي عليها. إن فشل الجمعية الوطنية في أداء دورها المفترض كمجلس تشريعي وتلكؤ أدائها كمجلس دستوري يضع على عاتق قائمة الائتلاف، قبل غيرها، مسؤولية المبادرة خارج إطار قانون المرحلة الانتقالية الذي وضعته سلطة الاحتلال كعقبة في طريق المسيرة الدستورية والسياسية العراقية. فمن غير المعقول ألا تكون في القانون آلية لحل الإشكال السياسي والدستوري الحالي، وأن يبقى العراق رهينة لعبة استعمارية خبيثة تشترط أما الإجماع الكامل أو القبول بواقع الاحتلال. والخروج من هذه الأزمة لا يتم من طريق الخوض الأعمق في وحل المحاصصة القومية والطائفية والقبول بشروط كل من هو على استعداد لربط مصيره بأميركا وصولاً إلى شروط تلغي فاعلية مؤسسات الدولة وتهدد وحدة الكيان الوطني والمصير العراقي المشترك. والمخرج من الأزمة لا يكون بانتداب من يدَعي تمثيل طوائف بأكملها، بل على العكس من ذلك فإن الحل هو بالخروج على المنطق الطائفي وبالانسحاب من قاعات الاجتماع المحاطة بالقوات الأجنبية إلى عملية سياسية يشارك فيها أوسع جمهور ممكن بما في ذلك القوى التي قاطعت الانتخابات. على قائمة الائتلاف أن تختار بنفسها بعد أوسع حوار وطني مجلساً رئاسياً وفريقاً وزارياً مهنياً نزيهاً لا يخضعان لمعايير المحاصصة المقيتة ويكونان أهلاً لثقة المواطن العراقي من كل الأعراق والأديان والطوائف، على أن تكون قيادة هذا الفريق من العناصر النزيهة التي لا تشوبها ممارسات الفساد المعروفة لدى الجميع وشبهات العلاقة بمخطط العدوان الأميركي على الوطن. ولهذا الفريق السياسي أن يطلب الثقة من الجمهور العراقي عموماً وثقة مختلف قواه بما في ذلك القوى التي تقف في صفوف المقاومة الوطنية، إضافة إلى ثقة الجمعية الوطنية. وعلى هذا الأساس يصبح أي حجب للثقة من جانب أقلية في الجمعية الوطنية بالاستناد إلى قوانين بريمر إيذاناً باللجوء إلى التحرك الجماهيري الشعبي السلمي الواسع لإزاحة كابوس الاحتلال وإخراج جنوده ومرتزقته من طريق التعبئة الشعبية والعصيان المدني والتظاهرات المليونية. وبطبيعة الحال، فإن مشروعاً كهذا يتطلب وحدة الصف الوطني العراقي، وبالتالي، على قائمة تشكلت على أساس طائفي ضيق أن تضطلع بمسؤوليات وطنية أكبر من كيانها ولكن لفترة قصيرة ومرحلية وبتوافق وثقة من يثق من الأطراف الأخرى. فهل هذا ممكن؟ في اعتقادنا بأنه ممكن إذا استطاعت التنظيمات الجماهيرية المتحالفة في القائمة أن تحافظ على وحدتها والتزامها ببرنامج وطني يتضمن تحديد موعد ثابت ونهائي لخروج القوات الأجنبية من البلاد، وإذا أقامت هذه التنظيمات حواراً جاداً مع القوى الوطنية خارج المجلس متجاوزة الطائفية السياسية على أساس النضال الوطني لإنهاء الاحتلال وإقامة الحكم الوطني الديموقراطي الذي يعالج تركات الماضي بحكمة ويؤسس للمستقبل. إن الانفتاح على بقية الأطراف السياسية وعلى المواطنين عموماً لا يعني أبداً منح أفراد ومجموعات ذات طموح سياسي ضيق حق تمثيل فئات واسعة من المجتمع العراقي على أساس طائفي وتكريس هذا الحق في تقاسم المناصب وفي تسخير الوزارات ومؤسسات الدولة لمصلحة نفوذ فئوي. فالانفتاح الحقيقي يتم من خلال الثقة بالنفس وبالمشروع الوطني ومن خلال الخروج عن الأفق الطائفي الضيق. وإذا قررت القوى السياسية ذات الامتداد الشعبي المتحالفة في الوقت الحاضر ضمن قائمة الائتلاف الخروج على إطار مهادنة الاحتلال وتجاوز قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية والمطالبة بجلاء القوات الأجنبية، فعلى القوى الوطنية المناهضة للاحتلال مساندتها والوقوف معها صفاً واحداً. ولتكن الانتخابات المقبلة في إطار عراق حر مستقل يتمتع شعبه بحرية التعبير والعمل السياسي من دون وصاية أو رهبة. وحتى ذلك الوقت، ستكون للبلاد قيادة سياسية جماهيرية قادرة على انتزاع الشرعية الدولية بإلتفاف الشعب حولها. ان البديل لتوجه جديد جريء هو خضوع أحزاب وقوى عراقية تاريخية لسياسات الاحتلال وتنازلها تجاه تيارات من داخل الائتلاف وخارجه، وثيقة الارتباط بالقوات الغازية، وفقدان الأحزاب التاريخية تدريجاً صدقيتها ونفوذها الشعبي مما قد يدفع ببعضها نحو المزيد من التعصب والانغلاق الطائفي والابتعاد من المشروع الوطني ومما يقود البلاد إلى كارثة جديدة. استاذ اقتصاد الشرق الأوسط في جامعة اكستر، بريطانيا.