هناك سلسلة مسرحيات كتبها شكسبير خلال فترات متفرقة من حياته ومساره المهني، حاول أن يروي فيها مسرحية بعد أخرى فصولاً من تاريخ ملوك بلده انكلترا... ولقد تألقت تلك السلسلة من عدد لا بأس به من مسرحيات حملت اسماء الملوك الذين كانت كل مسرحية من المسرحيات تتناول حياة كل واحد منهم. والمدهش في الامر ان معظم تلك المسرحيات كان يكتبه شاعر بريطانيا العظيم، بلغة واسلوب صريحين، لا يوفران حتى سمعة الملوك الذين تتحدث عنهم المسرحيات، على رغم انهم ? وفي شكل مباشر وبالنسبة الى معظمهم ? من جدود الاسرة المالكة التي كان شكسبير يعيش في أحضانها. فمن أين استمد صاحب"هاملت"و"عطيل"كل تلك الجرأة؟ وكيف تمكن من أن يعبر بحرية لا بأس بها، بل حتى بأسلوب لا يخلو من أبعاد تغوص في التحليل النفسي والاخلاقي للملوك؟ أسئلة، شكلت ولا تزال تشكل، لغزاً آخر من ألغاز حياة شكسبير الذي لم يعرف بمعارضته للملوك، أو حتى بمواقف سياسية حادة في حياته الشخصية، على عكس ما حصل في سيرته المهنية. ومن أولئك الملوك الذين تناول عمل شكسبير سيرتهم، من دون تملق أو أي محاولة للتستر على عيوبهم، الملك هنري الخامس، الذي كرس له الكاتب الانكليزي الكبير، مسرحية خاصة به هي"هنري الخامس"التي ينظر اليها عدد كبير من النقاد والباحثين بصفتها الأقوى والأجرأ بين سلسلة"ملوك انكلترا". بل ان هنري الخامس نفسه، يظهر كذلك، تحت اسم"الأمير هنري"في مسرحية أخرى لشكسبير هي"هنري الرابع"وهي مسرحية ذات جزأين. وأكثر من هذا، ان الأمير هنري، اضافة الى فالستاف الشخصية المدهشة التي تعود مراراً في مسرحيات شكسبيرية عدة، يُقدم لنا في"هنري الرابع"بصفته الشخصية الأكثر صواباً وحيوية في هذا العمل. ولعل هذا الحضور في"هنري الرابع"قبل الحضور الكلي في"هنري الخامس"هو ما دفع النقاد والباحثين الشكسبيريين الى المقارنة، ليفتوا في نهاية الأمر، بأن المسرحيتين يجب أن تُشادا أو تقرآ معاً، لأن سر شخصية الأمير هنري/ هنري الخامس، وسر كتابة شكسبير عنه، يكمنان هنا، في ذلك التبدل الذي يطاول شخصيته، بين مرحلة كونه أميراً، والمرحلة الأخرى التي صار فيها ملكاً. بل ان نقاداً اعتبروا وصف شكسبير له"حتى حين صار ملكاً بأنه يرمي الى تقديم صورة ملك واع، شجاع، عادل، كفي وعنيد بصفتها تجسيداً للنجاح في هذا العالم الناقد ايفانز، في وقت رأى فيه آخرون ومن بينهم ويليام باطلر ييتس ان شكسبير إنما وسم بطله بصفات تجعل منه مقترفاً لأخطاء فادحة وذا قوة ضارية... باختصار شخصاً لا يعرف ان يحكم إلا أشخاصاً عنيفين". أما الالتباس في الرؤية، تجاه عمل فني واحد فإنه، في اعتقادنا، ينبع من فنية العمل الشكسبيري الذي لم يكن أبداً ذا خط توضيحي واحد، وبخاصة في"هنري الخامس"هذه المسرحية التي عاشت ولا تزال تعيش، متجاوزة تاريخ شخصيتها الرئيسة. في"هنري الرابع"قدم لنا شكسبير ملامح أساسية في شخصية الأمير هنري، فهو منذ ظهوره على الخشبة يبدو لنا تواقاً الى الاصلاح، بل راغباً حتى في اصلاح اخلاقه الخاصة وسلوكه - حتى وان كان شكسبير يلفتنا الى ان هذه الرغبة انما تنبع من حسابات عملية خالصة. وفي هذا الاطار يقول لنا كم ان الامير هنري انسان براغماتي يحكم على الناس من خلال نفعيتهم، ما يجعله مجرداً من العواطف تجاه رفاقه أو تجاه أعدائه... وهنا لا يفوت شكسبير أن يقول لنا ان هذه الصفات ضرورية لمن يريد أن يحكم... ومن هنا تقدم لنا بإيجابياتها، بحيث اننا سرعان ما ندرك ان ذكاء الأمير وواقعيته، انما كان شديدي الأهمية في مجال مواصلة أهدافه السياسية. والسؤال هنا: هل ان شكسبير بهذا الوصف الذي يحمل شيئاً من الالتباس في اعماقه، كان يروج للبعد السياسي البحت في شخصية قادة الدول والشعوب، بعيداً من العواطف الانسانية التي قد لا تكون ? في رأيه ? ذات جدوى في هذا الاطار؟ ربما... المهم أن"هنري الخامس"تواصل رواية سيرة حياة ذلك الأمير، وقد أصبح ملكاً هذه المرة خلفاً لوالده هنري الرابع، الذي سادت الحروب الأهلية في زمنه لكنه تمكن في آخر عهده من تهدئة الامور، بل أيضاً من بناء حداثة ثقافية عبر رعايته نشاطات أدبية وفكرية. وهكذا ورث هنري الخامس مملكة هادئة نسبياً، ما مكنه من أن يبني ملكه وشخصيته، وجعله يحوز شعبية كبيرة... ولقد دفعته تلك الشعبية، كما دفعته المنعة التي صارت لبلاده من أن يتطلع صوب القارة الأوروبية، ليبدأ المطالبة بما كان يرى انه حقوقه وحقوق اسرته في فرنسا. وهكذا نظم، في العام 1415، حملة على هذا البلد توجت بالانتصار الكبير في موقعة آزنكور 25 تشرين الأول/ اكتوبر من ذلك العام، ثم نراه ينظم حملة ثانية في العام 1417، تتوج بدورها بانتصار ساحق تحقق على رغم ضآلة عدد المهاجمين الانكليز مقارنة بأعداد المقاومين الفرنسيين. والحقيقة ان جزءاً كبيراً من مسرحية"هنري الخامس"الشكسبيرية، يدور من حول ذينك الانتصارين، ليقدَّم الملك من خلالهما، قائداً شجاعاً وديبلوماسياً متميزاً... وخصوصاً أن المسرحية تنتهي به وقد فرض نفسه وريثاً لعرش فرنسا، واقترن بالأميرة الفرنسية كاترين. عرضت"هنري الخامس"اثر كتابة شكسبير لها عامي 1597 - 1998، وحققت نجاحاً كبيراً أدى الى استعادة عرضها مرات ومرات. ومع هذا فإن الأمر لم يخل من نظرة اليها رأت فيها عملاً ايديولوجياً أشبه ما يكون بالعمل السياسي الدعائي... لا سيما من حيث تركيزها على"معركتي غزو فرنسا"، حيث رأى فيها البعض ابتعاداً عن الجدلية التي طبعت دائماً أعمالاً شكسبيرية من هذا النوع. وبخاصة بالنسبة الى باطن نظرة شكسبير الى الحدث السياسي الكبير. فهنا لا يقدم لنا دخول قوات هنري الخامس الى فرنسا بصفته تحريراً، بل بصفته غزواً تاماً... وهذا ما يقوله لنا الكورس في النهاية على اي حال حين"يلوم خلفاء هنري الخامس، لأنهم ضيعوا أجمل حديقة في العالم"بعدما استولى عليها الملك المهم القدير. وثمة، في هذه المسرحية، على أي حال، حضور قوي للكورس الذي يأتينا قبل كل واحد من فصول المسرحية الخمسة، ليطلب منا نحن، الجمهور، أن نشارك مباشرة في العمل باستخدام مخيلتنا وسيلة لتسهيل عملية إيصال الوهم المسرحي الى اذهاننا... والحال ان هذا الاستخدام الكثيف للكورس، وما يدعونا اليه هذا الكورس... وهذا التعمد من شكسبير لجعل كثافة الكورس تخدم كعنصر تغريب للجمهور عن التماهي مع أحداث المسرحية يبدوان لافتين، بل لغزاً آخر من الألغاز الشكسبيرية، حيث من الواضح ان الكورس ليس موجوداً هنا ليروي لنا الأحداث، بل لكي يذكرنا في كل لحظة بأننا انما نشاهد مسرحاً، وان ما نشاهده ليس علينا ان نتلقاه كما هو، وكما يروى لنا، بل كما قد تساهم مخيلتنا في رسم صورته النهائية. وفي هذا الاطار تبدو"هنري الخامس"غريبة، وعلى حدة بعض الشيء في سياق المتن الشكسبيري، كما تبدو، وكأنها خارجة بعض الشيء عن سلسلة الملوك وعن المسرح الذي يتوخى تقديم التاريخ لا أكثر. أما بالنسبة الى سلسلة مسرحيات الملوك التي كتبها ويليام شكسبير 1564 - 1616، فإنها تضم أيضاً"الملك جون"و"هنري الرابع"و"ريتشارد الثالث"و"ريتشارد الثاني"و"هنري الثامن"حتى وإن كانت هناك هذه الأخيرة ذات خصوصيات تخرجها عن الاطار التاريخي العام.