بعد صدور تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس في جريمة اغتيال رفيق الحريري وتوصيته بإمكان متابعة التحقيق والمحاكمة امام السلطات القضائية والأمنية اللبنانية وبمساعدة دولية، صدرت مواقف عدة مؤيدة لإنشاء محكمة دولية وأخرى متحفظة، كما يبدو واضحاً ان مواقف ستظهر لاحقاً ستزيد هذا الاختلاف، فما هي الخيارات القانونية المتاحة امام لبنان لكشف الحقيقة والتي يمكن ان يجمع عليها اللبنانيون كوسيلة لهذا الهدف؟ من الواضح ان توصية التقرير بمتابعة الموضوع لبنانياً مع مؤازرة دولية لا يعتبر تنصلاً من الموضوع، وإنما ابتعاداً عن خيارات اخرى مكلفة من الناحية المادية للأمم المتحدة كمثال للمحكمة الدولية الخاصة التي أنشئت لمحاكمة زعماء يوغوسلافيا السابقة، او محكمة الجزاء الدولية التي دونها بعض العقبات. ويبدو ان نظرة تقريبية لما يمكن ان تصل إليه المواقف في لبنان ترجح ان تؤول الأمور الى الاتفاق على محكمة مختلطة لاعتبارت عدة من بينها ان تفسير توصية التقرير هي الأقرب الى هذه المحكمة، وأيضاً باعتبار انها يمكن ان تكون حلاً توفيقياً بين الفرقاء المختلفين. فما هي سوابق هذه المحاكم وما هي ميزاتها؟ وهل يمكن ان تتطابق او تتوافق مع احتياجات الوصول الى الحقيقة في لبنان؟ هناك سوابق عدة في هذا المجال، آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة الى"الخمير الحمر"إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين 1975 و1979، وقد صدر قرار عن الأممالمتحدة في 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقّع بينها وبين الحكومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من اجراءات. ونص الاتفاق على انشاء غرفة قضائية اولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين، وإنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع اخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من اربعة قضاة كمبوديين يعينهم ايضاً مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة اجانب. ويعهد الى هذا القضاء الخاص امر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام امام هذا القضاء الى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة الى الحكومة الكمبودية. كما ان تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس العدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة، واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضماناً للعدالة والصدقية، اضافة الى ان الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع اجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية او أي عفو عام او خاص. والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقاً لقرار مجلس الأمن 1315 في 14/7/2000، والتي انشئت عام 2002 ومؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر في الجرائم الخطرة التي حدثت عام 1996، مع ملاحظة بعض التعديلات ايضاً على القوانين الوطنية بما يتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام. اما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الرقم 1272 في 25/11/1999 الذي وضع تيمور تحت ادارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة، بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975. وعمدت الأممالمتحدة الى انشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة، وينظم هذا القضاء وفقاً لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصاً في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحال اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الأراضي اللبنانية فإنها تستلزم الكثير من الإجراءات اولها قرار من مجلس الأمن باعتباره اكمالاً لمندرجات القرار 1595 اضافة الى ابرام اتفاق في هذا الشأن بين الحكومة اللبنانيةوالأممالمتحدة لا يصبح نافذاً إلا بإبرام مجلس النواب له وفقاً لنص المادة 52 من الدستور اللبناني. كما يتوجب على المجلس النيابي اصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على"السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة"، وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية، وتحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد امن الدولة، والجرائم المسماة خطرة. كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كإلغاء عقوبة الإعدام. وإذا كان هناك من سبب يمكن ان تواجه عقد المحكمة المختلطة على الأراضي اللبنانية لدواع مختلفة، فمن الممكن عقدها خارج لبنان وهو امر بدوره يستلزم بعض الاجراءات ومنها، وجوب توقيع اتفاق مع الأممالمتحدة توضع بموجبه اصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية. على ان ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والإجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة امام هيئة قضائية عليا، وكذلك توقيع اتفاق مع الأممالمتحدة على ان تمنح المحكمة المختلطة حق اعتقال الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى ان تتولى الأممالمتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبين ان احد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال او التفجيرات بهدف تسليمه الى المحكمة المذكورة، اضافة الى قضايا التعويضات الناجمة عن الأذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال. طبعاً هناك خيارات قانونية عدة متاحة امام لبنان، منها المحاكمة امام المجلس العدلي اللبناني، لكن دونه عقبات لا سيما لجهة تحفظ الفريق المطالب بمحكمة دولية خاصة وفي هذا الإطار له بعض المبررات. ولكن مهما يكن من امر فإن الخيارات جميعها ليست سهلة وليست بالضرورة القادرة على الوصول الى الحقيقة المطلقة في الجريمة، سيما ان بعض الجرائم الكبيرة غالباً ما تتقاطع مصالح دول كبرى فيها ما يعقّد الكثير من الإجراءات لفك ملابساتها ورموزها. استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية.