في العام 1929، دنا من العمل السينمائي، كتابة وإخراجاً، شابان اسبانيان كانا في ذلك الحين، في مقتبل العمر والجنون، كما يليق بأي اسباني من طينتهما ان يكون. أولهما كان مجهولاً تماماً إلا لدى حلقات مثقفين ضيقة، اذا كان اعتاد ان يكتب مقالات سينمائية، اما الثاني فكان بدأ يعرف كرسام غريب الأطوار. اسم الأول لويس بونويل، واسم الثاني سلفادور دالي. طبعاً بعد تجربتهما السينمائية المشتركة الأولى، سيتابع كل منهما مساره منفرداً، ليشغلا كل على طريقته مساحة جيدة من القرن العشرين، وليموتا غير بعيد زمنياً واحدهما عن الآخر في نهاية ذلك القرن: بونويل سيصبح السينمائي الكبير الذي حقق، في إسبانيا وفرنساوالمكسيك، عشرات الأفلام من بينها روائع، ودالي سيصبح ذلك الرسام الشهير"التواقف الى الدولارات"بحسب تعبير زعيم السوريالية اندريه بريتون ووجود اسم بريتون في هذا السياق ليس، على اية حال، بعيداً ابداً عن ذلك الفيلم الأول الذي حققه الشابان. فهما كانا معاً من حواريي الحركة السوريالية، وفيلمهما نفسه، الذي حققاه في العام 1929، قدم ولا يزال، بصفته اهم دنو من السوريالية حققته السينما في تاريخها. * اسم الفيلم"كلب اندلسي"... مع هذا لا وجود لما هو اندلسي في الفيلم كله. وكذلك ليس ثمة فيه أي طلب على الإطلاق. فقط بونويل كان اندلسياً في شكل او في آخر. اما الكلب فيُحس وجوده لا أكثر خلال دقائق الفيلم التي لا تزيد على 17 دقيقة. يحس وجوده الى درجة ان المخرج جان فيغو، ما إن شاهد الفيلم في عرضه المجنون الأول حتى هتف:"انتبهوا إن هذا الكلب يعض"!. يعض لكنه لا ينبح. والسبب بسيط: كان الفيلم صامتاً... لكن النسخة التي قد يقيض للمرء ان يشاهدها اليوم متكلمة، بإبهام، اذ اضيف الصوت إليها في العام 1960. غير ان هذا كله، ليس اهم ما في الحكاية. المهم هو ان"كلب اندلسي"الذي خرج المتفرجون من عرضه يلعنون ويشتمون لا يزال حتى اليوم مدار السجالات والنقاشات و... ضروب التحليل المختلفة، حيناً على ضوء تاريخ الفن وحيناً على ضوء التحليل النفسي، وأحياناً على ضوء التحليل الطبقي. وفي بعض المرات على ضوء اعتباره, ايضاً، نظرة الى السينما. ترى أفلم يقل ناقد ان المشهد المرعب في الفيلم والذي يمثل رجلاً يقطع بشفرة عين امرأة، إنما هو دعوة من صاحبي الفيلم للنظر الى السينما نفسها بعين اخرى! حسناً...كل هذا ممكن ومنطقي - لعمل لا يبدو ان له منطقاً - لكن المهم - مرة اخرى - هو ان تلك الدقائق السبع عشرة، تمكنت من ان تحتل مكانة طيبة في ابدية تاريخ السينما... وتحديداً بفضل مجموعة من المشاهد واللقطات التي تتتالى من دون ان يكون في الحقيقة رابط بينها. بونويل سيقول لاحقاً ان المسألة كانت مزاحاً بمزاح على الطريقة السوريالية. ودالي سيقول انه إنما كان يريد ان يحطم خطّية فن السينما لا اكثر ولا أقل. ولكن هل يهم كثيراً ما قاله الاثنان... اما تأكيدات وتحليلات مئات النقاد والمؤرخين؟ مهما يكن من أمر، فإن السورياليين اعترفوا بسرعة بانتماء الفيلم إليهم، واعتبروه دليلاً قاطعاً على ان السينما يمكنها ان تكون حاملاً للشعر والتخريب في آن معاً... وهو، على اية حال، الدور الذي كان السورياليون اناطوه منذ البداية بكل فن وبكل الفنون. اما بونويل، الذي سجل الفيلم اسمه ككاتب ومنتج ومخرج، فيما سيحمل اسم دالي ككاتب فقط وهو امر فيه شيء من الظلم لهذا الأخير طالما ان المشاركة، اصلاً، في كتابة فيلم من هذا النوع، معناها المشاركة، حتماً في اخراجه، بونويل فقال، في شكل اكثر جدية ان اقل ما يمكن ان يقال عن هذا الفيلم انه"يخرج كلياً عن المألوف، واستفزازي، وحقق من دون اي منظومة انتاجية على الإطلاق". اما في شكل عام، وفي الجانب السوريالي منه، فإن هذا الفيلم، يبدو، بحسب الناقد الفرنسي الراحل كلود بيلي"المعادل السينمائي لتوجه السورياليين نحو الكتابة الأوتوماتيكية". والناقد بيلي تولى بنفسه، في احد مقالاته اختصار تتابع مشاهد الفيلم على النحو التالي، فهو بعد ان يبدأ بالجملة العربية الأثيرة: كان يا ما كان... يقول: هناك في اول هذا الفيلم رجل في غرفة يقطع بشفرة عين رفيقته. وبعد هذا المشهد يقفز زمن الفيلم ثمانية اعوام الى الأمام وهي عبارة توجد الآن مكتوبة على الشاشة، وتجدنا في غرفة اخرى... امامنا شاب يثيره مشهد زحام الناس من الشارع اذ يراه من نافذة غرفته، فيبدي توقه للحصول على امرأة... لكنه يبدو عاجزاً عن الحصول على اية امرأة لمجرد انه يجر خلفه كثيراً من بقايا ماضيه. وينتقل الفيلم الآن ليشير الى اننا عند الساعة الثالثة صباحاً:"نسمع"قرعاً على الباب في غرفة الشاب نفسه، يفتح هذا الباب فإذا به يهاجم من قبل قرين شبيه له. وهنا يعود الفيلم ستة عشر عاماً الى الوراء: هذا الفتى نفسه كان في ذلك الحين تلميذ مدرسة مدججاً بالكتب... لكن الكتب قادرة على ان تقتل. وكذلك حال الشاب الذي يعود الفيلم إليه الآن وهو يطلق النار على ذلك المتطفل الداخل غرفته. والمتطفل هذا يخر صريعاً في الحديقة. اما الشاب فها هو وقد فعل ما فعل، يستعيد من جديد توقه الى امرأة... والمرأة نفسها تنطلق على الفور، وإذ يخيّب الشاب ظنها، لتبحث عن عشيق جديد لها تنضم إليه... هناك بعيداً من الشاطئ. وأخيراً حين يحل فصل الربيع ها هي الحشرات تلتهم الفتاة وعشيقها الجديد هذا. * هل فهمتم شيئاً من هذا السرد كله؟ على اية حال، مع مثل هذه الأعمال، سيقول الخبراء انه ليس المطلوب من المرء ان يفهم، حسبه ان يشاهد ويتمعن. وبعد ذلك له ان يقرر مجرى الحكاية كما يشاء. لأن الفن التلقائي اذا كان ينبع في لحظة ما من الفنان، عليه ان يتلاقى في لحظة اخرى مع نظرة المتلقي. ولكن، اية عقوبة، في تصوير سينمائي حقق انطلاقاً من سيناريو محكم الكتابة اشتغل عليه اثنان؟ * كل هذا لم يكن كبير الأهمية، بالنسبة الى فيلم كان محتماً له ان يدخل تاريخ فن السينما من باب شديد الغرابة... اما اذا كان الفيلم قد حقق لدى عرضه الأول نجاحاً كبيراً، أعاده كثر الى فضول المتفرجين، ونزعتهم بعد مشاهدته، الى السجال ساعات وأيام في محاولة لفهمه، فإنه في الحقيقة فتح الطريق واسعاً امام تلك العلاقة الملتبسة التي قامت لاحقاً بين فن السينما والسورياليين. * ولكن الأهم من هذا هو ان"كلب اندلسي"سجل بداية دخول لوسي بونويل 1900 - 1983 عالم الفن السابع، هو الذي بعد بدايات اسبانية --فرنسية، وبعد مساهمة اساسية في الحرب الأهلية الإسبانية الى جانب الجمهوريين واليساريين الديموقراطيين - فيما وقف شريكه دالي لاحقاً الى جانب ديكتاتورية فرانكو وفاشيه - سافر الى المكسيك حيث اسس فيها صناعة سينما مهمة، ثم عاد الى اسبانيا ليحقق فيها مزيداً من افلامه المهمة، وينتقل بعدها الى فرنسا، حيث انهى حياته بمجموعة من افلام جددت شبابه وشباب السينما في آن معاً. ومن اشهر اعمال بونويل"فيريديانا"وپ"ال"وپ"سيمون الصحراء"وپ"حسناء النهار"و"تريستانا"وپ"غرض الرغبة الغامض"وپ"شبح الحرية"وپ"سحر البورجوازية الخفي"...