الفيلم الأول في تاريخ السينما الذي يمكن وصفه ب"الفيلم السوريالي" عنوانه "كلب أندلسي". ولكن عبثاً سيبحث المرء عن كلب أندلسي في الفيلم. فهذا الكلب غير موجود، بل ليس هناك كلب على الاطلاق. والفيلم نفسه على رغم شهرته الواسعة والضجة التي أثارها والمكانة التاريخية التي يحتلها اليوم، ليس فيلماً طويلاً من النوع الذي عرفه تاريخ السينما وأقره. بل هو فيلم قصير لا تتجاوز مدة عرضه السبع عشرة دقيقة. لكنها كانت دقائق أحدثت انعطافة في تاريخ "شاعرية السينما"، اذ استجاب فيه صانعاه الى ما كان السورياليون يرونه، خلال ربع القرن الأول من تاريخ الفن السابع، من ان السينما هي المكان الذي يمكن ان تتحقق فيه الشاعرية المثلى للفنون، وان تمارس فيه تلك التلقائية الفنية التي كانوا ينادون بها. ومن هنا حين قدم الشابان الاسبانيان عملهما هذا، وسط فضيحة اجتماعية وفنية ضجت بها باريس، استقبلا من جماعة السورياليين استقبالاً حافلاً. وسرعان ما صار واحدهما من أهم السينمائيين في القرن العشرين، فيما عزز الثاني موقعه كواحد من أبرز الرسامين السورياليين. ولاحقاً، طوال عقود القرن العشرين التي ستشهد ازدهار كل منهما وتألقه في مجاله، حافظ الاثنان على توجهاتهما ومكانتهما. وإن في دروب مختلفة. وظل "كلب أندلسي" علامة فارقة في مسار كل منهما الطويل. الشابان الاسبانيان اللذان قدما في العام 1929 - اي العام نفسه الذي ولدت فيه السينما الناطقة، لكن الفيلم كان بمنأى عنها كاختيار فني لا كضرورة تقنية - ، هما السينمائي لويس بونويل والفنان التشكيلي سلفادور دالي. والطريف ان بونويل الذي كان دائماً الأكثر موهبة والأقل جنوناً بين الاثنين، لم يتورع بعد عام من عرض الفيلم للمرة الأولى عن "السخرية من الجمهور الاحمق الذي وجد شاعرية وجمالاً، في فيلم لم يكن في حقيقته سوى دعوة يائسة الى القتل". ولئن كان مؤرخو السينما ونقادها قد اشبعوا الفيلم تحليلاً ومديحاً، فإن من بين النقاد من كان أقل حماسة مثل السويسري غريدي بواش الذي كتب عن الفيلم يقول: "إن "كلب أندلسي"، الحافل باللحظات المجانية التي من المحتمل ان تكون صنيع دالي في الفيلم، يبقى عملاً تنقيبياً، ونوعاً من الهجوم العدواني المباشر. عملاً يضع لبنات أولى سوف تغتني حقاً في فيلم "العصر الذهبي"...". وكان هذا الأخير الفيلم السوريالي التالي الذي حمل توقيع بونويل. ولكن، ماذا في "كلب أندلسي"؟ ولماذا كان في وسع تلك الدقائق القليلة ان تثير كل ذلك القدر الذي أثارته من الاعجاب أو من التنديد؟ فيه مشاهد عدة متفرقة، قد تبدو للمشاهد العادي من دون أي جامع يجمع بينها. وهكذا، تتتالى في الفيلم الصور والمشاهد التالية: ففي البداية وتحت عنوان "كان يا ما كان..." نرى رجلاً في غرفة يقص بواسطة شفرة حلاقة عين رفيقته. بعد ذلك تطالعنا لوحة: "بعد ثماني سنوات"، ونجد انفسنا أمام مشهد يدور في غرفة اخرى، وفيه رجل تثيره مشاهد الزحام التي ينظر اليها من نافذته، عابرة الشارع فيبدي رغبته في الحصول على امرأة، لكن ما يمنعه من الوصول الى مبتغاه انما هو ثقل الماضي وذكرياته التي يحملها فوق كتفيه... إثر هذا تأتي لوحة "نحو الساعة الثالثة صباحاً"، حيث نسمع مرتين رنين جرس الباب ونحن لا نسمعه في الحقيقة في النسخة الاصلية للفيلم والتي كانت صامتة، ولكننا نسمعه بوضوح في نسخة أضيفت اليها أصوات وضروب ضجيج حققت في العام 1960، ومزج الفيلم عندها بموسيقى اوركسترالية معبّرة. اذاً، بعد رنين جرس الباب يقوم الرجل بفتحه فإذا بقرين شبيه له يدخل ويبدأ في تعذيبه. اثر ذلك تأتي لوحة "قبل ستة عشر عاماً" وفيها نجد الرجل وقد عاد ادراجه في الماضي تلميذ مدرسة يحمل كتبه، لكن هذه الكتب قاتلة تخفي سلاحاً يطلق منه التلميذ النار على الدخيل الذي ولج غرفته في المشهد السابق ويرديه قتيلاً في حديقة. وما ان يقترف صاحبنا جريمة القتل هذه، حتى يستعيد رغبته في الناس. وفي امرأة بعينها، بدلاً من ان تنضم اليه، تذهب لملاقاة عشيق آخر لها عند الشاطئ. وفي اللوحة الأخيرة التي تحمل عنوان "في الربيع" نجد بطلينا هذين وقد التهمتهما الحشرات... من المؤكد ان هذا التلخيص لا يمكنه ان يعكس ما في هذا الفيلم من دلالات، على رغم ان الاحداث تتتالى كما نصف... ذلك أن كل شيء هنا، وضمن اطار "الرؤى" و"القوانين السوريالية" يحمل رموزه ودلالاته، التي حاول كثر من النقاد والشرّاح تحليلها، ومن بينهم الناقد الفرنسي جورج سادول الذي قبل توجهه نهائياً الى الماركسية، كان ذا توجه سوريالي، سيقول لاحقاً ان هذا الفيلم نفسه، قد وجهه نحوه. ويقول سادول ان "المهم هنا هو تتالي هذه الكتابات السوريالية مشهداً بعد مشهد. وهذه الكنايات هي العين المقطوعة التي تقارن بغيمة رقيقة تعبر حاجبة القمر والفتاة غير مكتملة الأنوثة وهي تلهو بالعصا في الشارع، واليد المقطوعة، يد البطل وقد علقت بالباب، واساتذة المدرسة المسيحية وآلتا البيانو اللتان ملئتا بحمير عفنت، وفم البطل الذي يختفي فجأة، وكتبه التي تتحوّل مسدساً"... ويضيف سادول: "لسوف يكون من العبث البحث عن تفسير منطقي لكل واحدة من هذه الكنايات التي تجتمع تطبيقاً، كما يبدو، بعبارة لوتريامون: "جميل مثل اللقاء غير المقصود بين مظلة وآلة خياطة فوق طاولة". ويلفتنا سادول هنا الى ان هذا لا يعني ان الفيلم الذي يمكن اعتباره تعبيراً عن ثورة جيل بأسره "يخلو من الدلالات الحقيقية والثورية". كل ما في الأمر انه يتخذ من السينما "مكاناً للتعبير عما تفعله الصدفة". ومهما كان من تدخل سلفادور دالي في "كلب أندلسي"، فإن تاريخ السينما ينحو دائماً الى ربط هذا الفيلم بتاريخ شريكه الأساسي فيه لويس بونويل وعمله، الذي، منذ ذلك الحين، سوف تكون له مسيرة سينمائية حاشدة وطويلة تواصلت طوال سنوات القرن العشرين، وشهدت تنقله بين الكثير من البلدان، حيث عاش وعمل في اسبانيا، وطنه الاصلي، كما عاش وعمل في فرنسا، وفي المكسيك. وبونويل من مواليد العام 1900 في كالاندا الاسبانية. لكنه ما إن بدأ حياته العملية والنضالية بالتالي، حتى ترك اسبانيا حين اصبحت تحت حكم بريمو دي ريفيرا الديكتاتوري وتوجه الى فرنسا، وانضم الى حلقات السورياليين وعمل مساعداً للمخرج جان ابشتاين. ثم كانت بدايته مع "كلب أندلسي" و"العصر الذهبي" قبل ان يعود الى اسبانيا ويحقق فيلم "أرض من دون نصب" ليغيب بعده حتى العام 1946 فنجده في المكسيك عند بداية حقبة حقق خلالها بعض افلامه المهمة، ليعود بعدها الى فرنسا، ثم الى اسبانيافالمكسيك من جديد قبل ان يستقر آخر الأمر في فرنسا ويحقق آخر افلامه الكبرى مثل "تريستانا" و"حسناء النهار"، و"سحر البورجوازية" و"شبح الحرية" و"غرض اللذة الغامض هذا...". رحل في العام 1983، معتبراً واحداً من كبار مبدعي الفن السابع خلال القرن العشرين كله.