"الرجل المريض" هوأفضل ما ينطبق على العالم من المصطلحات الحديثة الدالة. هكذا يتعاطى معه علي حرب كمفكر يزداد تمسكاً بمنهج التفكيك، وإصراراً على نكء القيح العالمي بكل اشكاله وتعبيراته ومدلولاته ورموزه وتجسداته. في كتابه الجديد"الإنسان الأدنى - امراض الدين وأعطال الحداثة"، يتصدى حرب بعدته النقدية والفكرية المعهودة لأخطر ظاهرة عالمية عابرة لكل القيم والمعتقدات والأزمنة والأمكنة، هي ظاهرة الإرهاب، فضلاً عن عناوين إشكالية اخرى الدين والمجتمع، الدين والحياة، الأسلمة والأزمة، العرب والكارثة، الحداثة وأعطالها، والحاجة العالمية للإصلاح. وهو ينقض كل الأطروحات التي انتهت الى الإفلاس دينية، فكرية، فلسفية، قومية، وطنية، أو أصولية إسلامية ومسيحية وصهيونية، ما دامت كلها آلت الى التمييز والاضطهاد والتسلط والإرهاب، فضلاً عن الكوارث والأزمات والفقر والأوبئة والتلوث والفساد. ف"الأصوليات المتناحرة متواطئة في ما بينها ضد الحوار والتضامن والعدالة والسلام". لكنه في المقابل يعتبر ان الحداثة تصنع اعطالها وكوارثها. والأزمة في اعتقاد حرب متعددة الأبعاد تشمل الدين والعقل معاً، أي انها ازمة الإنسان والعقل الكوني بوجهيها اللاهوتي والعلماني. وهو يشكك في صدقية الدعوات الى الأنسنة ويعتبرها خادعة ومزيفة، اذ تنتهك الشعارات فيما منتهكوها هم حملتها ودعاتها والساعون الى تحقيقها. والعالم اليوم، كما يراه حرب، اصطدم بالحائط الأصولي فسقط وسقطت معه كل المنظومات التي أنتجته من فكرية ودينية وإيديولوجية. والسبب هو من فعل الإنسان نفسه، أي ان"الإنسان هو المشكلة"، فيما يكمن الحل في تفكيك مفهوم الإنسان كما تجلى في تسميتيه الإسلامية الإنسان بالوكالة عن الله أو خليفة الله على الأرض وأشرف مخلوقاته والغربية الإنسان"المتعلمن"المطلق السيادة على الطبيعة. وبنتيجة الممارسة التي قام بها النموذجان، حل بالأرض الفساد والدمار، وكان مآل العالم التخبط في والكوارث والويلات والأزمات. لكن الحكم الأقسى يقع على الإنسان نفسه، ف"الأجدى فتح ملف الإنسان لأنه ليس الضحية، وإنما هو الجلاد وجرثومة الفساد بمركزيته ونرجسيته، بشراسته وهيمنته... فضلاً عن استراتيجياته القاتلة وصراعاته الطاحنة من اجل البقاء، الأمر الذي يكاد يحول نظام الحياة المدنية الى حال طوارئ كونية، يمسي معها حفظ الأمن هو الجحيم". من حقنا هنا ان نسجل اعتراضاً على صيغة الإطلاق والتعميم، حرصاً على الموضوعية وتصويباً للأحكام حتى لا تجعل من الإنسان الضحية ضحية مرتين. واذا كنا نوافق المفكر رأيه في ما خص الجلاد، الا ان الضحية تحتاج الى من يناصرا في مواجهة الظلم وحفظاً لإنسانية الإنسان. في القسم الأول من الكتاب يتناول حرب الدين والإرهاب كموضوع يشغل العالم شرقاً وغرباً، وتتفرع منه ظاهرة الإرهاب، فيرى انها نتاج الثقافة الدينية والتعصب، وانها"ليست خططاً شيطانية بقدر ما هي صناعة بشرية ... فالإرهاب الذي يصدمنا ويرعبنا هو ثمرة حكوماتنا الدينية ومرجعياتنا العبثية وشعاراتنا الأحادية وثوابتنا الأبدية". وهكذا يرى الكاتب الى الإرهاب كنتاج ثقافة دينية متزمتة ومغلقة وتعبئة ايديولوجية، وليس تعبيراً عن حال احتجاج على واقع القهر والظلم او الاحتلال. بل هو يعبر عن مأزق ذاتي وأزمة هوية، فضلاً عن موقف تعصبي تجاه الوطن والدولة، كما تجاه الحضارة المعاصرة والمجتمع المدني والعالم. وتشترك في تلك الأزمة كل الأصوليات الدينية سواء في الغرب او في العالم الإسلامي، وسواء الأصولية الإسلامية أو الإنجيلية الأميركية. وإذا كان المفكر الفرنسي جان بوديارد يعتبر احداث 11 ايلول سبتمبر شهادة على انفجار النظام العالمي وأن الولاياتالمتحدة في حربها على الإرهاب إنما ترتد على نفسها وقيمها، يرى حرب ان من قاموا بهذه التفجيرات يقدمون الدليل، ايضاً، على انفجار المنظومة الإسلامية وارتداد الجهادي على قيمه وتعاليمه، وليس دفاعاً عن الهوية والخصوصية كما يقول بوديارد. والمشكلة كما يتصورها الكاتب وليدة السعي الى أسلمة الحياة المعاصرة عبر منظومة فكرية قوامها الاصطفاء واستعادة الماضي والتماهي معه وتوسل العنف تحقيقاً"لهذا المشروع المستحيل". في القسم الثاني يتطرق حرب الى علاقة الدين بالمجتمع، فيرى ان المذاهب تتحول مصانع لإنتاج الكراهية والتعصب والبغضاء، ويعتبر ان مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية لم تحقق الغاية منها، وأن الخلاف بينها تطور من نزاع سياسي الى عقدي حول مسألتي الشورى والنص. ويعتقد ان لا جدوى من كل محاولات التقريب والحوار اذا لم يتم التخلي عن منطق التكفير الذي يقضي على كل صيغ التعايش، ويعتبر ان الحوار بين السنّة والشيعة، كما بين المسيحيين والمسلمين، يستوجب اعادة النظر والتأهيل، واعتراف كل فريق منهم بأنه غير محتكر للحقيقة وحده دون سواه، وأن التقارب لا يمكن ان يتحقق عبر العقائد، بل بالتواصل والتعايش والاختلاط. وربطاً بجدلية الأفكار وتلاقحها وتفاعلها واختراقها لبعضها بعضاً ينفي الكاتب في القسم الرابع المعنون بپ"الأسلمة والأزمة"مقولة اسلامية المعرفة وهوية العلم، من منطلق عدم وجود معرفة إسلامية خاصة بالمسلمين وحدهم من دون سائر البشر ودياناتهم الأخرى. ويحيل القائلين بالرؤية التوحيدية الكونية على التاريخ الإسلامي الشاهد على تفرق المسلمين انفسهم الى مذاهب وفرق وما دار بينهم من حروب وفتن مهلكة، في حين ان الغربيين اليوم يتجاوزون خلافاتهم وحروبهم المدمرة فتوحدهم العملة والأسواق وشبكات المصالح. ويرفض حرب ان تكون للعلم هوية ثقافية، معتبراً ان التصنيف هو بحسب المناهج والطرق والمواضيع لا على الأساس الديني العقدي او العرقي. وهذا ما رأيناه لدى اليونان والغربيين في عصر النهضة، والعرب في فترة الازدهار الفكري. ولكسر هذا المنطق الانغلاقي يدعو الى إسقاط الحصانة الرمزية عن كل من يتعاطى الشأن السياسي لمحاسبته، وإلى إخضاع كل الشعارات والمصطلحات للنقد والفحص للخروج من المآزق، وخلق مجالات اكثر اتساعاً للتفاعل والمشاركة والتعارف. وبأسلوب التعرية والجرح والتشخيص والتشريح ذاته يمضي حرب في القسم الخامس"العرب والكارثة"في منزعه التفكيكي، ليحمّل العرب تبعات ما هم عليه من عجز وتبعية وهامشية، لأن المشكلة هي في عقيدة الاصطفاء واستراتيجية الإلغاء والقوالب المتحجرة التي يؤمن بها"المحافظون الجدد من الإسلاميين، والرجعيون الجدد من القوميين والماركسيين". والنتيجة كارثية من صنع عقول كل النخب وأيديها. ويرد على من ينكرون الحداثة بأن العرب غير بعيدين عنها، وأنهم لامسوها منذ قرنين مع حملة نابليون على مصر وإن لم يشاركوا فيها. كما ينفي صفة الروحانية عن الشرق، ويعتبر ان ثنائية الروح والمادة مقولة فلسفية. وفي تعليقه على نظرية صراع الحضارات المتداولة، يلفت الكاتب الى استخدامها مبرراً للحجب والزيف وطمس الحقائق وتمويه الغايات، خصوصاً من جانب الأصوليات المتصادمة من الأصولية الإسلامية الجهادية، الى الأصولية العنصرية مروراً بالأصولية البروتستانتية الأميركية والأصولية الاستيطانية الصهيونية. وهذه المقولة تتعارض، برأيه، مع سير العالم المتعولم، وتتعاطى مع المجموعات الثقافية كعوالم مغلقة صافية متجانسة وثابتة، علماً ان الغرب والإسلام عالمان مركبان وغنيان. اما ما يخشاه فهو ان يكون انشغالنا بالصراع مع الخارج تغييباً لواقع الصراع في الداخل. وفي شأن الحداثة وأعطالها، يدعو حرب الى مساءلة دعاة الحداثة انفسهم عن مصيرها لأنهم في اعتقاده هم من حال دونها لعجزهم عن تحديث الأفكار وتطوير المفاهيم. ويقول:"لعله من حسن حظ بلدان الخليج العربي ان لم يتسلم ادارتها داعية اسلامي او مناضل قومي او منظر يساري اشتراكي او مثقف حداثي رجعي بأصنامه النظرية وقوالبه الإيديولوجية". ويدعو حرب الى الاعتراف بدونيتنا انسجاماً مع"مفهوم الإنسان الأدنى"كما يراه هو، ورفض التأله والتأنسن كونهما وجهين لعملة واحدة كانت وراء كل هذا الخراب والدمار والفساد والإرهاب والاستعداء، ومن مقتضيات النقد العمل على التحرر من الهوامات وهواجس الاعتقاد بما هو مطلق وجوهري ويقيني، للانخراط في واقع كوني جديد يقوم على تشابك المصالح والمصائر، والاشتراك في المخاطر، والاعتماد المتبادل. كاتب لبناني