بات من الممكن أن تعثر على الكاتب الصعلوك"العراقي في باريس"، المقيم في لندن وقطارات أوروبا صاموئيل شمعون عبر شبكة الإنترنت، من دون عناء وبحث أو موعد. هذا غريب، إلا أنه لم يعد مستحيلاً. ويمكن أن تقرأ يومياً المسودات اليومية للشاعر سعدي يوسف، بل ما يعيشه أو يحبه أو يشتمه يومياً، أيضاً عبر الشبكة العنكبوت. لست في وارد مديح الشبكة العنكبوت. البداهة تستخف بذلك، قبل حاجتها إلى الاستنجاد بالكرامة الشخصية والعقلية لاستبعاد خطر المديح وتفاهته. إلا أنني سعيد بحصولي على العنوان الالكتروني لصديقي الشاعر السوري لقمان ديركي الذي رد على رسالتي إليه خلال ثوانٍ باعثاً"إي- ميل"من الحانة مباشرة. وسعيد بالتحية التي ألقتها في يوم قاتم الشاعرة عناية جابر بعدما قرأتْ قصائد وقعتُها على موقع"كيكا"، المعني بنشر"الثقافة الحرة وقيم التسامح"، كما تقول بالخط العريض اللافتة في أعلى صفحته الأولى. وها أنا أراسل بفرح الشاعرة جمانة حداد، وهي تراسلني لا أعرف نسبة فرحها، وأقرأ نشاطاتها الكوكبية المتعددة المنتشرة هنا وهناك في المواقع المختلفة. وفي القدر الذي أزعجني تمنع الشاعرة سوزان عليوان عن إجراء مقابلة صحافية معها، إلا أنني استسغت فكرة أن"تتعقد"مسألة ما سهلة التحقق. فالمقابلة كانت لتتم في لمح البصر: ما عليّ إلا أن أرسل إليها مجموعة من الأسئلة، وما عليها هي سوى الإجابة عنها وإرسالها. لكن ذلك لم يتحقق على النحو الذي تشاءه العنكبوت والعقول الجبارة التي تعمل لتسهيل تواصل الناس في القرية العالمية. وطارت المقابلة. لكن عنوان سوزان ما زال محفوظاً لدي، بل أنه مكرر، ولا أعرف السبب. كأنني احتفيت به لحظة عثوري عليه في أحد المواقع الشعرية المكتبية التي"بنتها"بنفسها، أو كأن لا يكفيني أن أرسل إليها عبر عنوان واحد فقط، بل أحتاج إلى عناوين ورسائل، كي أشكرها على إهدائها أحد تلك المواقع إلى الشاعر وديع سعادة. وقد جمعتْ فيه دواوينه كلها، من"ليس للمساء إخوة"إلى"غبار"، مروراً بپ"رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات"وپ"مقعد راكب غادر الباص"وپ"بسبب غيمة على الأرجح"، خصوصاً أن وديع سعادة بلحمه وعظمه لا يمتلك في مكتبته، على الأرجح، هذه المجموعات كلها التي طبع بعضها على نفقته ووزعها بمفرده خلال عقود بين لبنان واستراليا وما بينهما وبعيداً منهما. "قالت العنكبوت"عنوان جميل لقصة يمكن أن أحكيها لابنتي وهي تعاند النوم تأخذني سهلاً إلى اللعب ونسيان الوقت والموعد المقرر لخلودها إلى الفراش."قالت العنكبوت"تحكي عن حب الشعراء بعضهم بعضاً، إلى درجة أن كل واحد منهم يعتبر الآخرين أصدقاءه، ويعتبر نفسه صديقاً للآخرين بالجملة والمفرق. وتحكي عن النشاط الطيار والبريدي للعنكبوت كي تلبي سعي الأحباء الموزعين في جهات الأرض إلى التواصل وتبادل الخدمات والإطلاع على الأحوال والأوجاع والإبداع. ليس في الأمر أي جديد! أما النهايات السعيدة فمذهب قديم. أتكون العنكبوت هي ما يغيِّر مشاعرَ الشعراء والكتاب، يجعلهم أصدقاء محبين، أو كائنات أقرب إلى تصديق ذلك وادعائه وممارسته بأشكال مختلفة... متناقضة أحياناً؟ تبدل تلهف الشعراء بعضهم نحو بعض وبردت الرغبة في التعرف بعضهم إلى بعض انطلاقاً من شوقهم لتجسيد التصورات التي يرسمونها من بعيد بعضهم عن بعض، من خلال النصوص التي يقرأونها ويدعونها تكوّن تصورات وخيالات حول هيئة الشاعر المقروء وشخصيته وحياته وسيرته. لم ينتهِ التلهف إنما أخذ مع الانترنت شكلاً ثانياً مختلفاً، شكلاً مباشراً. إذ صار في مقدور الشعراء التعارف والتواصل عبر الشبكة، وتبادل الخدمات.. والنصوص، بعدما كانوا لا يحققون ذلك إلا عبر اللقاء المادي، أو عبر الوسطاء. يحصل ذلك ضمن مجموعة تغييرات تطاول، على نحو غير مبلور بعد، مفهومَ النشر بالنسبة إلى الشعراء وفي عوالمهم. وبعضهم بات الناشر، وبعضهم الآخر المنشور، أو المستفيد من النشر وأندية الأصدقاء. يكتب الشاعر البحريني قاسم حداد مؤسس ومدير موقع"جهة الشعر"التوثيقي:"أصبحت جهة الشعر تتلقى الاتصال والنصوص والمساهمات من أنحاء العالم، وتحولت مصدراً موثوقاً به. ونشأت صداقات وعلاقات واسعة مع شعراء ومترجمين من مختلف أنحاء العالم، يتعاونون مع"جهة الشعر"بأشكال مختلفة. وهذا ما مهد لفكرة الانتقال إلى المرحلة الجديدة التي يجري الاستعداد لها حالياً لإعلانها وإطلاق صيغتها فنياً وموضوعياً. استطاعت"جهة الشعر"أن تقترح على المشهد الثقافي العربي شكلاً جديداً من الاتصال بالآخر. ليس بالخطاب السياسي الإعلامي الدعائي، ولكن بالتجارب الشعرية التي تمثل الحلم والمخيلة والطموح الإنساني المبدع. وفي السنوات الأخيرة لمست شخصياً التحول النوعي في فهم النشر الالكتروني لدي قطاع كبير من الأدباء والشعراء العرب. فبعد موقف عدم الاكتراث واللامبالاة، بل وأحياناً الاستهانة بفكرة الانترنت، أصبح الآن عدد كبير من هؤلاء من بين مستخدمي الانترنت النشطاء، وكثير منهم أطلق لنفسه صفحات خاصة لنشر أعماله الأدبية والشعرية". ثمة وجه آخر للكلام"التأريخي"الذي يوثقه مدير موقع"جهة الشعر"الذي استطاع خلال أعوام تأمين دعم مادي مؤسسي ترافق مع إعلان توسعة الموقع وضمه أبواباً عدة من لغات عدة أسباني، إيطالي، إنكليزي وفرنسي، إلا أنها ما زالت محدودة وشبه فارغة. فعلى حساب هواجس الحداثة والشعر التي حركت قاسم وتحرك شمعون، صار النشر الالكتروني، بين ليلة وضحاها،"يظهَّر"باعتباره تقديراً واعترافاً بالموهبة، على اعتبار أنه يقوم على اختيار انتقائي من هذه المطبوعة أو تلك، بمشيئة صاحب الموقع الذي يعيد نشر"المختارات"على صفحات"مملكته". ويدعم هذا الاعتبار"تقليد"نشر مواد تحت عنوان"خاص". فهذا الأسلوب أيضاً"انتقائي". وإذا كان الأسلوب الأول،"الاختيار"، يوحي بأن الموقع يواكب الحركة الثقافية كلها من دون استثناء أحد أو نص أو مقال أو مقابلة أو فاعلية زاعماً أنه ينشر كل ما يُنشر، فإن أسلوب"خاص"يُشاء له أن يوحي بأن من يتم نشر نصوصه ومقالاته ومقابلاته وأخباره..الخ هو الموجود والمنتج. فخبث الموقع والنشر الالكتروني يكمن في الإيحاء إلى أنهما امتداد للحركة الثقافية وليسا سلطة نشر أو مافيا ثقافية من مهماتها الترويج للبعض واستبعاد آخرين وحجبهم. إذاً، يتغير مفهوم النشر وبعض آلياته، لاسيما عند الشعراء الذين يُقال إنهم"يكتبون لأنفسهم وعن أنفسهم"، وباتوا كما يعرف كل عاقل أنهم يعانون من تقلص عدد احتمالات نشر مجاميعهم واختفاء القارئ، أو ما يسميه الشاعر عباس بيضون"موت القارئ". صحيح أن عدداً لا بأس به من الشعراء ما زال مهجوساً ومهووساً بالنشر الورقي للمجموعات الشعرية ولكل ما يكتبونه ويبدعونه، إلا أن الشبكة هدأت من روع هذه العملية ملاحظة: التراجع المضطرد لعدد الدواوين التي تُنشر ورقياً. ويُرجح أن الشعراء، تحت تأثير المخدر الإلكتروني، صاروا يقبلون بأن ينتظروا وقتاً قبل النشر الورقي، وبات بعضهم لا يتحرق على النشر هذا في حال نُشر ما ألفه في أحد المواقع. فالنشر الإلكتروني، على ما فيه من انتقاء وتحكّم بالعلاقات الخاصة والمصالح، يوصل الرسالة إلى من يراد أن تصل إليهم. ولا تبدو فكرة النشر الورقي"القديم"حتى الساعة مستبعدة كلياً أو جزئياً. ما زالت هي النشر والصدور، في اعتبارات الشعراء. أما تقويم المادة المؤلفة والمنشورة على حبال الشبكة الالكترونية وفي مواقعها، فآخر هم. هذا ما دفع موقع"كيكا"إلى استدراك ذلك والاعتراض عليه بلغة واضحة قاطعة في عبارة تمرر في شريط:"أهلاً بكم في كيكا...لجنة الاختيار والنشر في كيكا تقرر لا تسامح مع النصوص الضعيفة بعد اليوم رغم رسائل التهديد والشتائم". إذاً، يعترف موقع"كيكا"بفرض الشعراء أو المتطفلين على الكتابة شروطهم على الاختيار والنشر الإلكترونيين. وها هو ينتفض لوضع حد للمهزلة. يكتب رداً على أسئلة وجهتها إليه:"كنت متساهلاً مع النصوص الضعيفة بنسبة 50 في المئة. وكنت أقول لعلهم يتطورون من خلال النشر، لكن عدداً قليلاً جداً استفاد من عملية النشر المستمر. لذلك الآن هناك تسامح ولكن بنسبة 20 في المئة. مع بداية العام المقبل لن أنشر إلا النصوص الرائعة". وما يُنشر الكترونياً، سواء أكان الحصريَ تحت عنوان"خاص"، أم المنتقى للنشر مرة ثانية أو ثالثة مقطوعاً مقرصناً من هذه المطبوعة اليومية أو تلك الأسبوعية، فغالباً ما لا يُفهم السبب الذي دفع إلى اختياره ونشره من دون سواه. لا عصب جامعاً بين تلك"المختارات"، لاسيما إذا قورن ما يُختار ويُنشر بما يستبعد أو لا يُختار ولا يُنشر من تلك الصحف أو المجلات نفسها. كأن بناء موقع على الشبكة امتيازاً ومهمة مستحيلة ترقى إلى الخلق والإبداع. يؤكد عكس ذلك وجود مواقع"متواضعة"سلوكياً ومنفتحة على الكتابة التجريبية وهواجسها الشخصية والإبداعية الفنية. وهي أقرب إلى البحث عن متنفس وهواء ومساحات حرة، منها إلى"أوهام"البروز والنفوذ. ومن تلك المواقع على سبيل المثال"أوكسجين"الذي تديره مجموعة من الكتاب والشعراء السوريين المقيمين في دبي، المشرف والمحرر زياد عبدالله، حازم سليمان، أسامة إسماعيل، أسامة شعبان، فادي سليمان وسوسن سلامة. ويشعر زائر الكثير من المواقع"الثقافية"بالدور الذي تقوم به كما لو أنها صفحات مسودة، أو تبادل مخطوطات بين"الأصدقاء". فمع تلك المواقع ونشرها الإلكتروني بنوعيه الاختياري والخاص يتضاءل الفارق بين مفهوم الموقع ومفهوم البريد الالكتروني، بين مفهوم المسودة ومفهوم المخطوط، بين مفهوم تحرير النشر من سلطة الناشر والمفهوم المافيوي الإيحائي للنشر الإلكتروني، بين مفهوم الشاعر ومفهوم رجل العلاقات العامة أو الخاصة، بين مفهوم الرقابة ومفهوم المصلحة، بين مفهوم المدرسة أو الاتجاه الأدبي ومفهوم المافيا. علماً أن تلك المواقع"الثقافية"تترفع عن وصف نفسها بپ"الكشكول"، أو عن اعتبار نشاطها ارتجالياً كما هي حال مواقع"الهاكرز"، أو عن الإقرار بأنها انتقائية وغائية وتبادل خدماتية. هكذا، تتشتت هويات معظم تلك المواقع ووظائفها وصدقيتها تحت وطأة المزاج الشخصي والمسعى إلى النفوذ والبروز.