حققت شركات البناء والعقار في الوطن العربي عموماً أرباحاً غير مسبوقة خلال 2004، ويتوقع أن تستمر الطفرة طوال السنة الجارية، وربما استمرت هذه الدورة حتى نهاية 2007 على أقل تقدير. ومن الأدلة على هذه الطفرة أن مبيعات العقار سجلت في الأردن خلال 2004 نحو 1. 8 بليون دولار، وارتفعت أسعار الأرض في مدينة عمان وضواحيها بنحو 40 في المئة عما كانت عليه خلال 2003. كما حققت شركة "إعمار"، كبرى الشركات البانية للمكاتب والشقق والأبراج في دبي، خلال 2004 أرباحاً فاقت 6.1 بليون درهم إماراتي أو ما يقارب 500 مليون دولار، بزيادة 27 في المئة عن العام 2003. وقس على ذلك الحال في دول عربية أخرى مثل لبنان وسورية والبحرين وقطر والمملكة العربية السعودية. فلماذا هذه الطفرة؟ وهل هناك ظروف مشتركة ساهمت في دفع حركة البناء وتنشيط الطلب على العقار في هذه الدول أم أن لكل دولة ظروفها الخاصة بها؟ الواقع أن الطلب على العقار في الظروف الاعتيادية يتخذ منحنىً يقترب من درجات السلّم، فهو تارة يصعد بحدة إلى أعلى ثم يستقر عند مستوى معين لعدد من السنوات، وهذا ما حصل في الأردن حيث اتسم الطلب على العقار هناك خلال السنوات التي سبقت 2003 بالهدوء والزيادات السنوية الطفيفة. ولكن، ومنذ احتلال العراق، تسارع الطلب في شكل واضح. وعلى رغم ارتفاع أسعار الأراضي وكلفة البناء، لم يتراجع الطلب بل استمر في الصعود في شكل مبهر. أما بالنسبة الى دولة الإمارات العربية ودول الخليج الأخرى فاتسم الطلب على العقار، مشفوعاً بالترويج النشط والتسهيلات المتنوعة التي تقدمها إمارات دبي والشارقة وعجمان، بالصعود الجامح، وخصوصاً بعد السماح للأجانب بتملك الشقق ومنحهم إقامة مفتوحة طالما أنهم يمتلكون هذه العقارات. ورأينا كذلك أن الطلب جاء من جنسيات مختلفة هندية وباكستانية وإيرانية وسعودية وعراقية ومن المقيمين العاملين داخل الدولة. أما في الأردن، فإن غالبية الطلب أتت من الأردنيين أنفسهم وجزء لا يتجاوز 20 في المئة أتى من الخارج، وبخاصة من العراق والى حد ما دول الخليج ومن الفلسطينيين. لكن هذه القيمة الإضافية هي التي أشعلت السوق العقارية وخلقت مناخها التحفيزي. أما في لبنان فعاد الطلب على شكل استثمارات عقارية ممن ضاربوا على الأرض أيام الحرب الداخلية أو باعوها لتسييل الأرباح الكامنة فيها. وكذلك فإن لبنان، بعد عودة الاستقرار إليه ونجاح حركة العمارة فيه، صار سوقاً وتزايد الطلب مع عودة أموال عربية كانت تستثمر على شكل ودائع بالعملات الأجنبية، وباتت بعد أحداث 11 من أيلول سبتمبر تبحث عن فرص استثمار سهلة، فوجدت في العقار والأرض والأسهم فرصة سانحة للربح وقابلية مريحة للسيولة بمخاطر قليلة محسوبة. وقد أدى اتساع سوق العقار إلى زيادة تقسيم العمل والتخصص، إذ إنشئت في الأردن خمس شركات مساهمة عقارية جديدة، وتوسعت المصارف التجارية في مجال فتح الائتمان الإسكاني وذلك لأن سيولتها مرتفعة، والفائدة على العملات الأجنبية، وبخاصة الدولار، متدنية. وازدادت أنواع الاستثمار العقاري عدداً، ووجدت أنماطاً عقارية جديدة، مثل الأبراج والمجمعات التسويقية والفنادق السكنية ومباني الترفيه، عدا عن البناء العادي التقليدي مثل السكن الخاص والشقق والمكاتب والمحلات والمساكن المشتركة الإسكان التعاوني. وبدأت تظهر مؤسسات السمسرة الحديثة المستخدمة للوسائل التقنية الحديثة مثل المبيعات الإلكترونية من طريق برامج المحاكاة. وهكذا حصل تسليع واضح للإسكان، وصارت وسائل بيعه وشرائه أكثر سهولة ويسراً. وعلى رغم بلايين الدولارات التي تُنفق في الاستثمار العقاري في الوطن العربي وفي دول الخليج خصوصاً، فإن وسائل التمويل العقاري لا تزال تعتمد على الأساليب المباشرة الأولوية، ولا تزال العلاقة بين صاحب العقار والمؤسسات التمويلية علاقة مباشرة ليست فيها وساطة مالية تذكر. ومن هنا يبرز السؤال: لماذا لا تبدأ المؤسسات المالية في الوطن العربي في خلق سوق ثانوية للعقار، إذ باتت هذه الأسواق في الدول النامية تتعامل بآلاف البلايين من الدولارات. وفي ظرف ارتفاع السيولة العربية المتاحة في الوقت الراهن بات من الضروري ايجاد وسائل استثمارية جديدة خارج نطاق الأسهم وأدوات الدين العام كالأذونات والسندات؟ وقد بدأ الأردن منذ فترة تجربة خلق السوق العقارية بإنشاء شركة مشتركة لهذه الغاية، وهي شركة الرهن العقاري. لكن هذه المؤسسة صارت وسيلة لتقديم القروض لشركات البناء التي تستثمر في العقار وتبيعه كسلع. ولذلك صارت هذه المحاولة أقرب إلى الصيغة التحويلية المباشرة والتقليدية، وإن كانت خطوة متجددة على طريق تمنّع الواسطة المالية. إن المطلوب عربياً هو خلق أوراق مالية عقارية تتم المتاجرة بها في أسواق رأس المال وأسواق النقد ويمكن نقل ملكيتها قبل انقضاء أجلها واستحقاق إعادتها إلى المصدر الأول. ويقتضي هذا الترتيب تضافر الجهود المصرفية معاً في كل دولة بالتعاون مع الجهات النقدية والمالية المختصة، مثل البنوك المركزية والسلطات النقدية ومجالس المال والائتمان حيثما وجدت، كالأردن ومصر، على سبيل المثال. وإذا أخذت أسعار الفوائد بالارتفاع، فإن مصادر التمويل العقاري ستبدأ بالجفاف، وستبرز على الساحة فرص استثمارية للمدخرين وأصحاب الفوائض المالية تكون أجدى لهم واكثر سيولة من العقار. ولكن إذا توافر التمويل عبر السوق الثانوية العقارية، فإن التمويل سيبقى متاحاً وسيحافظ على العمق الزمني المتوقع لدورة العقار الحالية. إن من غير المعقول أن يتطور التنوع على جانب الطلب في قطاع العقار، لجهة تنوع المنتج العقاري والمؤسسات العقارية، فيما يبقى التمويل جامداً ومتحفظاً عن الدخول في وسائل جديدة خبرها العالم، ولا يحتاج تقديمها في الوطن العربي إلى إعادة اختراع الدولاب. * خبير اقتصادي، البصيرة للاستشارات