من حقنا أن نشجب غياب الرواية البوليسية في الأدب العربي، فهذه الرواية التي نشأت في حاضنة كبرى هي الرواية الأوروبية، لم تستطع حتى اليوم ايلاج هذا النوع ضمن سلسلتها الثقافية، على رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً، وربما أكثر من ذلك، في رأي النقاد والمؤرخين، على ولادة أول نص عربي ارتضى أن يتباهى باسم الرواية. ومن الصعب أن نضع الوزر على عاتق الروائيين، بالقول انهم فشلوا مثلاً في ترويض تقنيات كتابة الرواية البوليسية، والسيطرة على أدواتها التعبيرية فالثابت انهم حققوا نجاحات لافتة في استقصاء مسالك التقنيات الروائية بعامة، واكتناه أشكال الكتابة، وارتياد دروب تحاول أن تضيف، أو تقوض البنى الفنية حتى في الغرب ذاته. ومن العسير ردّ الموضوع الى العجز عن اجتراح شخصية روائية، أو شخصيات، تمتلك فضائل البطل البوليسي الحصيف، الذي يستطيع أن يتفرس في القرائن والأدلة، ويشم رائحة الألغاز، ويعرف مفاتيح البراهين، ويستأثر، اضافة الى ذلك، بالإثارة والتشويق. فقد قدمت الرواية العربية شخصيات ثرية، لا التباس في انتمائها الى طيف واسع من الطبائع والأمزجة والاشكاليات. وقد لا نقبل أيضاً العذر بأن الرواية البوليسية ليست هي النوع الوحيد الغائب عن الرواية العربية، أي أنه ليس العرض الوحيد في المرض الابداعي الراهن، فثمة أنواع أخرى لا تزال غائبة، أو مغيبة، تغوي بالاشارة اليها في سياق لوم الثقافة العربية، مثل السيرة الذاتية ولن نغتر بالمؤلفات التي تلبست هذه الاسم وأدب الاعتراف وغيرهما. في البحث عن بطل الرواية البوليسية، سنكتشف ان الروائي ملزم باختياره من بين المنتسبين أو الملحقين بإحدى الجهات المولجة بقايا الأمن. فإما أن يكون قاضياً، أو ضابطاً أو رقيباً، أو شرطياً عادياً، أو محققاً، مع ملاحظة ان نموذج التحري الحر المعروف في المجتمع الغربي، والرواية البوليسية الغربية، لا وجود له في العالم العربي. ومن المفيد التذكير، بأن معظم الدول العربية اختارت أن تطلق أسماء عربية على مفردة"البوليس"الغربية. وربما كانت تسمية"الشرطة"أو المباحث الجنائية أقرب المرادفات لها. لكن الوجدان العربي يعمد أجهزة أخرى، مثل المخابرات، بالمفردة الغربية ذاتها، بعد أن يثقلها بحمولة مذهلة من المعاني السلبية. وتنهض الرواية البوليسية على أساس اليقين المستتر أو المعلن، بأن بطل الرواية حارس أمن، يحمي المجتمع من أخطار المجرمين اذا لم يكن بوسعه منع الجريمة كما في سلسلة جيمس بوند السينمائية ولديه من الذكاء والفطنة وقوة البصيرة، ما يمكنه دائماً من اكتشاف المجرم، وتقديمه الى العدالة. وأن الجهاز أو الجهة التي ينتمي اليها، ويتحرك باسمها، تعمل على ارساء القانون والدفاع عن المواطن، وتطبيق نظام ما من عدالة متفق عليها، ضمن العقد الاجتماعي السائد في البلد ذاته، أو في الثقافة نفسها. وهذا يعني ان الرواية البوليسية لا تنطوي على الاثارة والتشويق وقوة الحبكة وخفاء الحكاية، وغير ذلك وحسب، بل تستقر على عقد سردي بين القارئ والنص، أو على علاقة دلالية حاضرة قبل القراءة أو المشاهدة، تتضمن عناصر التلقي الآنفة اللازمة لهذا النوع الأدبي. ما الذي تحقق من هذه اللوازم لانتاج هذا النوع الأدبي؟ تتبعت فدوى مالطي دوجلاس آثار المحقق البوليسي وقصص الجريمة في الأدب العربي الكلاسيكي، فعثرت على شخصية مثل الخليفة المعتضد بالله أو الوزير عضد الدولة كبطلين بوليسيين في نصوص قصيرة. ومع ملاحظة أن النصوص تستجيب للبنية الحكائية التي تتأسس عليها القصة البوليسية، فإن من الواضح أن اختيار الخليفة أو الوزير تغذيه أغراض سياسية تهدف الى امتداد النظام الذي يضمن الأمن والاستقرار من خلال رأسه بالذات. غير ان الموروث العربي شهد نتاجاً ابداعياً ضخماً موازياً، لبى شروط الرواية البوليسية الفنية، ولكن بصورة مقلوبة، فالبطل في حكايات الشطار والعيارين لص هذه المرة. والمعروف ان بطولات علي الزيبق ودليلة وغيرهما، كانت تظهر في أشكال تضليل الشرطة والعسس، أي في تضليل"ممثلي العدالة". لكن الخيال الشعبي العربي كان ذكياً وماكراً الى حد أنه جعل الزيبق يتولى مقدمية بغداد والشام أي رئاسة الشرطة وهو ما يؤكد رغبة هذا الخيال في تحقيق العدل وسيادة القانون. وكان من المأمول أن يتطور هذا الأدب، ويغتني، لكن هذا لم يحدث، وقد ساهم النظام السياسي العربي من جهة، والأدب العربي الرسمي من جهة ثانية، في كبحه وقمعه وازدرائه. فظل شفوياً. ولم تحتفظ الذاكرة الشعبية في مخزونها الا بالنماذج العليا من ابداعاتها. وأقصى ما استطاعت أن تفعله هو تدوين تلك النماذج لدى حكواتية المقاهي في الجانب الآخر، لم تتغير أشكال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، منذ عهد معاوية الى اليوم كثيراً، وظل النظام السياسي العربي جمهورياً كان أم ملكياً، يرث باقتدار الشكل الوحيد البارز لتلك العلاقة، وهو الاستبداد. ومن الطبيعي أن ينصب اهتمامه في جميع الدول العربية بعد الاستقلال، على تطوير الأجهزة الأمنية، وزيادة فعاليتها وتقويتها، وتدريبها أفضل تدريب. وقد قدر أن مفردة الأمن فيها معنية بالنظام السياسي الحاكم، لا بالشعب. وسرعان ما تحولت الى أجهزة قمع، كان دأبها منذ تأسيسها، كم الأفواه، وكبت الحريات، وملاحقة المعارضين، وتجسدت بلاغتها في مفردة موازية خادعة هي ضمان الاستقرار. وقد انعكس سلوكها هذا في الأدب الروائي والقصصي والشعري العربي، وبات الشرطي رمزاً للبطش والقمع والتواطؤ مع السلطة السياسية والدينية والعشائرية. الفهد لحيدر حيدر، قصص زكريا تامر، شعر محمد الماغوط أما في الحياة اليومية، فكان البوليس عدواً للشعب، واقعياً ورمزياً. وبات تبديل الرمز، واختلاق بطل بوليسي، في أي طموح روائي، تزويراً شائناً فالمحقق، أو الشرطي، أو التحري، ليس مولجاً بالكشف عن الجريمة وحدها وانما يسمو بتحقيقاته الى صف الدفاع عن العدالة، لكن الأنظمة العربية نفت عدالتها، وروضتها وفق مدوناتها، وصار انتهاك القانون، واعطابه أو تعطيله فقهاً، تتبعه الشرطة، والأجهزة البوليسية الأخرى في ظل سياسات أنظمة الطوارئ، والأحكام العرفية. ناهيك عما يعقب ذلك من تآكل وانهيارات في البنية الأخلاقية لرجل البوليس. وما يتبعه بالضرورة من اخفاق الثقة المفترضة بين القارئ وهو المواطن والبطل المحقق وهو رجل البوليس ومشكلة أخلاقية وفكرية وسياسية. قد تورط الروائي في مشروع امتداح السلطة. وهو ما أنفت منه الرواية، منذ نشأتها في العالم، وفي الأدب العربي. واذا كان صالح مرسي نجح في ترميم أجزاء من هذا الميراث، فسر نجاحه يكمن في أنه سلط بؤرة السرد على الوظيفة الوطنية للمخابرات المصرية، وابتدع بطلاً قومياً من أبناء الشعب المصري، تصادى مع الوجدان الشعبي المعادي لإسرائيل، غير ان رواية مرسي عجزت عن استكمال مطالب الرواية البوليسية: التحقيق، والجريمة، والتحري البطل. وظلت محمولة على موضوعها. ان غياب الرواية البوليسية من الأدب العربي هو استجابة للشروط الغائبة، وربما كان امتناعاً عفوياً أو مقصوداً من طرف الروائيين العرب بالنظر الى فداحة الخسائر في الانزلاق نحو كتابة مخاتلة - في الوضع الراهن من علاقة البوليس بالشعب في المجتمعات العربية - قد تدنس اسم الرواية التي بنت مجدها على مناهضة القمع المجسد في ممثليه.