طغت الحركة الدادائية على اسم مؤسسها الشاعر الفرنسي، الروماني الاصل مواليد 1896 تريستان تزازا، وبات الكثيرون يذكرونها من غير ان يذكروا الشاعر الذي اطلق هذه الحركة في 8 شباط فبراير 1916 في مقهى"تيراس"في زوريخ وكان في العشرين من عمره. الا ان ما بقي اليوم من هذه الحركة هو اقل مما بقي من شعر تزارا ومن نثره مع انهما دخلا كليهما المتحف الشعري والادبي، على رغم الاثر الذي تركته الدادائية في بعض حركات السبعينات من القرن الفائت، ومنها ما يسمى بپ"الهابيننغ"و"المسرح الحي"في الولاياتالمتحدة الاميركية. وقد يكون من الظلم تناسي العلاقة بين الدادائية والسوريالية التي تبدو كأنها انبعثت منها على رغم الخلاف الذي نشب في فترة ما بين تزارا واندريه بروتون. على ان العلاقة بين هذين الشاعرين ظلت مضطربة ومتقلبة، سلباً وايجاباً، حتى وان وافق بروتون على اعتبار تزارا شاعراً سوريالياً. ويمكن القول ان تزارا هو الذي شق الطريق امام السوريالية خصوصاً بعدما استقر في باريس بدءاً من العام 1919، وكان بروتون وبول اليوار ولوي اراغون شعراء مجلة"أدب" في انتظاره وكأنه"رامبو الجديد"وشاركوا في التظاهرات الدادائية التي احياها خلال عامين. يصعب الفصل اذاً بين تزارا والدادائية، ليس لانه مؤسسها فحسب بل لأنه ظل وفياً لافكارها التي هي افكاره ولمبادئها التي هي مبادئه. وقد ظل هو الدادائي الاول والاخير ولا سيما عندما اصبح وحيداً وقد قال ذات مرة:"انني وحيد مثل شعلة وحيدة". لكن الدادائية التي هيمنت عليها فيما بعد السوريالية كحركة جماعية و"شبه حزبية"لم تأفل للفور افكارها والمبادئ التي نادت بها، وظلت بياناتها السبعة في متناول القراء حتى الخمسينات. حينذاك كان حدث بعض التحول في مسيرة تزارا، وبات"هدام"العام 1916"سيد الأمل"في العام 1951. لكنه لم يخن يوماً ماضية"التدميري"ولا بياناته، بل ان التحول انطلق من صميم المواقف الدادائية. كلمة"دادا"لا علاقة لها بمعناها الاصلي وقد تبناها تزارا بالصدفة في ذلك اللقاء الاول عام 1916 عندما فتح القاموس ووقع عليها. انها كلمة مخترعة اذاً وقد اكتسبت معناها الجديد عبر البيانات التي صدرت لاحقاً ومن خلال النظرية التي اطلقها تزارا. باتت الدادائية تعني الحركة التدميرية أو الحركة الضد - منطقية والضد - فنية. ولعل اختيار كلمة"دادا"من خلال اللعب"الصدفوي"يؤكد مبدأ هدم اللغة واستعادة العفوية مقابل العقلانية التي افرزت القتل والموت والخراب. هكذا غدت الدادائية حركة ضد"البربرية"الجديدة، بربرية الحرب العالمية الثانية، وراحت تنادي بالانقطاع الجذري عن القيم القديمة والاشكال الفنية السابقة. وقد دعت هذه الحركة الى البحث المثير عن"اللامعنى"المطلق أو المعنى غير القابل للاستيعاب، ودعت ايضاً الى كراهية الفن المستعاد والى"الاستقراء"والابداع اللفظي الصرف. وراحت الحركة هذه تقابل بين"الاشارة"المشهدية الزائلة والعمل الفني، بين الصدفة وفعل الابداع، بين النزعة العَرَضية والمجد الشخصي. اما القصيدة التي تبنتها فهي متقطعة الكلمات،"متفجرة"البنية، متنافرة الاصوات وصادمة الصور غايتها تشويه الذائقة وتدمير النظام اللغوي الذي هو صورة عن النظام العام. ويقول تزارا في احد بياناته:"سنهيء المشهد الكبير للكارثة، سنهيء الحريق والتفسخ". واذ رفع شعار"الفوضى المعممة"لم ينثن عن الاعلان أن"دادا لا تعني شيئاً". ويقول ايضاً:"اننا نريد اعادة النظر في اساس المفاهيم التي فرضها الذين سبقونا والتحقق من صحتها". هكذا سعت الدادائية الى"رفع الانقاض"والى"التنظيف"و"التخلي عن الطموحات الفنية والشواغل الشكلية". وبدت لغة البيانات شبيهة بلغة القصائد والنصوص، فهي مشبعة بالحدة الشديدة والجمل المفككة والكلمات المتناثرة التي تلغي فعل التواصل اللغوي. وهذا اللاتواصل انما هو قائم على الصدمات اللغوية والتنافرات والتفجرات والارتجاجات كما يعبر تزارا الذي يقول ايضاً:"الفكرة تتكون في الفم". الا ان"تنظير"تريستان تزارا للقصيدة الدادائية الذي اورده في احد البيانات، قد يكون مدعاة للسخرية لدى قراءته الاولى والحرفية. فهو يقول:"كي تكتب قصيدة دادائية/ خذ صحيفة/ خذ مقصاً/ اختر من هذه الصحيفة مقالة في طول القصيدة التي تنوي كتابتها. /اقتطع المقالة/ ثم اقتطع باعتناء كل كلمة من الكلمات التي تصنع هذه المقالة وضعها في كيس/. حرّك الكيس بهدوء/ أخرج من ثم كل قصاصة، واحدة تلوى الاخرى/ ثم انسخ بنزاهة/ وفق الترتيب الذي تركت به الكيس/. القصيدة ستشبهك/. وها أنت كاتب اصيل للغاية وذو رهافة ساحرة، وان لم تفهمها العامة". طبعاً لا يمكن اعتبار هذه"المعايير"التي وضعها تزارا للقصيدة الدادائية جدية، فهو نفسه لم يعتمدها في قصائده تماماً حتى وان بدا بعضها وكأنه مجموعة كلمات متناثرة تناثراً فوضوياً وصدفوياً. لكنّ ما يهدف اليه هذا التعريف هو ترسيخ الفعل العبثي الكامن وراء الكتابة الشعرية، بل فعل الحرية الذي يتجاوز النظام اللغوي والشعري. فالكلمات هنا ليست الا"اصواتاً صافية"كما يقول تزارا، منفصلة عن أي مرجع واقعي، ومحتفية ب"الفعل"التعبيري للغة. ولعل قصائد تزارا الدادائية تشبه الى حد ما هذا الطابع العبثي الذي اتسم به هذا"التعريف"، فهي قائمة على الحذف والتقطيع والخلل المقصود واللاتنقيط واللعثمة والثأثأة. كأنها قصائد تهدف الى تقويض النفس الغنائي وابراز الدهشة وان قامت في احيان كثيرة على المجانية. ويفسر تزارا نظريته قائلاً في العام 1916:"حاولت ان ادمر الانواع الادبية. ادخلت في القصائد عناصر معتبرة غير جديرة بالشعر، مثل جمل من صحيفة، مثل اصداء واصوات. هذه العناصر كان عليها ان تشكل ما يوازي ابحاث بيكاسو وماتيس ودوران الذين كانوا يستخدمون في لوحاتهم مواد مختلفة. وقد جسّد تزارا هذه النظرية في ديوانه"خمس وعشرون قصيدة"1918 وبدا شعره في هذا الديوان في حال من الاضطراب الدائم الذي يسببه"مشكال"الكلمات وتواطؤ الصور الغريبة. "الفجور اللغوي الخارق" قد لا تكون"نظرية"تزارا مقنعة خصوصاً بعدما تخلى عنها جزئياً في قصائده اللاحقة، لكنها نظرية عدمية تمثل ما يسميه الناقد الفرنسي مارسيل ريمون في كتابه الشهير"من بودلير الى السوريالية"ب"الفجور اللغوي الخارق". فالشعر هنا هو شعر"استعرائي"واستعراضي، يفعل ما يقول ويظهر ما يفعل، مجاهراً بتدمير نفسه ومعلناً تبدده الخاص. إنه الشعر الذي كتب ليلقى، مؤلفاً بذاته اشارة او ايماءة. يقول تزارا في بياناته:"الحرية: دادا دادا دادا، ضوضاء ألوان متشنّجة، تشابك المتتضادات وكل المتناقضات، الهزات والاشياء التي بلا منطق: الحياة". واللافت في امر تزارا انه كان متحمساً للقضايا اللغوية وملماً بأسرار اللغة، وكان يتمنى ان يرتقي باللغة الى اقصى درجات فاعليتها، بعيداً عن الجمال الشكلي الذي يخنق الشعر. رفض تزارا الانضمام الى ثورة الحداثة معتبراً ان الدادائية ليست حركة حديثة، فهو كان مشغوفاً بالفنون البدائية والموسيقى الزنجية. وفي نظره ان الشعر كان شكلاً حياً في كل المظاهر حتى اللاشعرية، ولم تكن الكتابة الا ناقلاً ظرفياً. اما الحداثة فهي"مفهوم بائد"كما يقول، بل هي الحالة الاكثر تقدماً لعالم في حال من الانحلال التام. ولم يتوان تزارا عن البحث عن"الخيال العفوي الاكثر خصوبة"، كما يقول الناقد رينه لاكوت وعن"الحياة الملموسة للصور المرئية التي تتخيلها احاسيسنا بماديتها الفجة"بحسب تعبير تزارا نفسه. فالشعر"عمل يمتنع عن ان يسجن في انظمة موصدة"كما يقول تزارا ايضاً. في بدايته الدادائية، كان تزارا يسعى الى صدم الجمهور والى اثارة الغضب والحنق في وسطه من خلال"الاحتفالات"التي كان يقيمها مع بعض رفاقه في زوريخ وفي باريس لاحقاً. وكانت النصوص عبارة عن مشاهد قصيرة واسكتشات وقصائد تقرأ صراخاً. ولعل عمله الاول مثّل تلك"الصدمة"ازاء القراء، وهو نوع من المونولوغ الذي تتبادله ثماني شخصيات وعنوانه:"المغامرة السماوية الاولى للسيد انتيبرين"1916 ثم اتبعه بجزء ثان. وهذا المسرح الدادائي ساهم في تأسيس"مسرح العبث"ولا سيما من خلال مسرحية"محرمة الغيوم"التي كتبها تزارا في العام 1924. ولم يخل مسرحه من الطابع التجريبي مثله مثل قصائد كثيرة له. بين ثورتين في العام 1931 يقترب تزارا من الحزب الشيوعي ساعياً الى التوفيق بين الثورة الشعرية والثورة السياسية على غرار ما فعل السورياليون. ويمضي في توطيد علاقته بالحزب مبتعداً عن السورياليين الذين سيعلن الانقطاع النهائي عنهم في العام 1935. الا ان المفاجئ في الامر ان تزارا، على خلاف بعض السورياليين اصر على رفض فكرة الشعر"الظرفي"او المناسباتي في معنى ما الذي يخدم مشروعاً سياسياً ونضالياً. وان كانت الثورة الاجتماعية في نظره شرطاً اول يسبق اي فعل تحريري للانسان، وكذلك ضرورة للشعر المنادي بالحرية، فان الثورة كما يقول"لا تحتاج الى الشعر". لكنه في العام 1956 سيترك الحزب الشيوعي ابان اجتياح هنغاريا من دون ان يتخلى عن نضاله ضد الفاشية والفن البرجوازي. يمكن التمييز بين مرحلتين في نتاج تريستان تزارا هما مرحلة العشرينات التي كتب خلالها نتاجه الدادائي الصرف ومرحلة الثلاثينات - الاربعينات التي كانت غزيرة جداً وفيها كتب اهم مؤلفاته شعراً ونثراً. ولا يمكن اغفال دواوين مثل"ان اتكلم وحدي"1948 و"اطوار"1949 و"الوجه الداخلي 1953 وسواها. وتبرز في هذه الدواوين ملامح جديدة وتغييرات في الايقاع والصور واللغة. انه"الشعر، نشاطاً فكرياً ممتزجاً بقوة التمرد الدائم ل"الانسان الكامن والمحاصر بالقلق". غير ان ذروة شعرية تزارا تجلت في ديوانه"الانسان التقريبي"وهو عبارة عن تسعة عشر نشيداً كتبها بين العامين 1925 و1931. يواصل تزارا في هذه الديوان اللعب على الرواسم او"الكليشيهات"نفسها وعلى التقنية نفسها معتمداً الموسيقى شكلاً من اشكال التواصل. وفي النشيد الخامس عشر يستوحي عمل"الاعراس"للموسيقي سترافنسكي. بذل تزارا جهداً كبيراً في كتابه هذه"الاناشيد"الجميلة. وعندما صدر الديوان بدا للحين من اهم المؤلفات السوريالية وذروة شعرية في تلك المرحلة. اما عناصره فهي بسيطة جداً. بضع موضوعات اوتيمات، كلمات موجودة وكلمات مخترعة، وقد نظمها الشاعر ببراعة كي تتولد منها صور متعددة. هكذا تجد الكلمات والصور نقاءها الاصلي في عالم سديمي بناه الشاعر على مثال العالم الذي يعيش فيه. ولعل هذا الديوان الحافل بالاشارات والذي وضع فيه تزارا حياته ومعرفته وغضبه و"انسانويته"يجسد ارادته في تطهير العالم وفي اعادته الى مرحلة"طفولته". يقول الناقد الفرنسي جان كاسو عن هذا الديوان:"قصيدة بدائية خارقة، انها احدى الشهادات الاشد حزماً والاكثر اكتمالاً، على الشعر المعاصر…". ولئن كانت الدادائية هي حركة الرفض الاكثر راديكالية في القرن العشرين فهي لم تستطع ان تواجه السوريالية التي انبثقت منها وطغت عليها لاحقاً. وانعكس الصراع بين تزارا واندريه بروتون سلباً على واقع الحركة الدادائية خصوصاً بعدما سعى بروتون الى"تنظيم"السوريالية كحركة ابداعية وثورية والى بنائها على اسس ثابتة. لكن بروتون لم يخف اعجابه بالدادائية حتى في غمرة خلافه الشديد مع تزارا، فهو يقول:"ليست الدادائية تأسيساً لمدرسة جديدة، انها تطليق لكل مدرسة". اما تزارا الذي قال مرة:"انني ضد الانظمة، والاكثر قبولاً بين الانظمة هو الا يكون لك مبدئياً اي نظام"، فلم ينثن بدءاً من العام 1935 عن التخلي عن نزعته الفردية الصارمة، داعياً الى شعر"انسانوي"جديد يجعل الشاعر في قلب الحركات النضالية. وقال في هذا القبيل:"اذا لم يكن ينبغي للشعر ان يخدم الانسان، واذا لم يكن عليه ان يساعده على التحرر من الاكراهات الداخلية والاجتماعية والخارجية فهو لا يبقى اكثر من اداة متعة ومن مجرد تسلية". وان كانت تصعب قراءة تريستان تزارا اليوم ولا سيما في قصائده الدادائية الصرف، فان ترجمته اشد صعوبة نظراً الى الارتباط الشديد بين اللغة وطابعها المفكك وتعقدها على المستوى النحوي. ولعل هذا ما ساهم في عزلة هذا الشاعر بعد رحيله في العام 1963، فيما عرفت الدادائية شهرة عالمية وما برحت مشوبة ببعض الغموض الناجم عن مناخها الغريب والطليعي.