ولاية الموصل حكاية أخرى في تاريخ الأزمات الداخلية والإقليمية المتداخلة في العراق. يمتد عمرها إلى ما قبل قيام الدولة العراقية، وهو ما يعزز القناعة بإن الدولة العراقية قامت وسط أزمات عدة كما هي حال إعادة تشكيلها اليوم. فبعدما استكمل البريطانيون احتلال بغداد، في آذار مارس عام 1917، واصلوا زحفهم شمالاً فكانت المدن تسقط في أيديهم تباعاً وبسهولة. وعلى رغم انهيار الجيوش التركية إلا انهم أوقفوا هجومهم لفترة ليست وجيزة عند منطقة الفتحة قرب الشرقاط على مشارف الموصل. ولم تكن لذلك التوقف أسباب تتعلق بالوقفة التعبوية أو بإعادة التنظيم أو تجديد الزخم الهجومي الذي لم يكن في حاجة إلى المزيد من الإدامة أمام الانهيار الشامل للجيش التركي في العراق. ففي جزيرة"مردوز"في بحر إيجهة كانت ثمة مفاوضات تدور لاستسلام الجيش التركي. وفي أكثر من مكان كانت الإجتماعات السرية التي تتم بين دول"الوفاق الأوروبي"خلال الحرب العالمية الأولى، تسرع في توزيع غنائم المنهزمين الأتراك، كلما تأكدت لقادتهم بشائر النصر. لكن البريطانيين دخلوا الموصل في نهاية الأمر على رغم هدنة بحر إيجه، وعلى رغم إنها كانت في الأساس تتبع فرنسا أي ضمن المنطقة أ كما نصت عليه معاهدة سايكس بيكو، وليس ضمن المنطقة ب أو المنطقة الحمراء كما اصطلح على مناطق الغنائم البريطانية - الفرنسية في المعاهدة. غير ان الأمر لم يقف عند حدود الأبجدية الحروفية والتقسيمات اللونية لحل المشكلة فقد أرسلت عصبة الأممالمتحدة فريقاً خاصاً زار المناطق الواقعة بين الخطوط الحمراء والزرقاء ومكث طويلاً قبل أن يرفع تقريره الخاص بوجوب ضم الموصل الى العراق على أن يبقى الإنتداب البريطاني لخمسة وعشرين عاماً من تاريخ بدء الإحتلال. ومن اللافت هنا ان العديد من مواطني الضفتين الزرقاء والحمراء آنذاك نقلوا للأجيال اللاحقة مأثورات شفاهية لا تخلو من دلالة عن طبيعة عمل فرق عصبة الأمم في ترسيم الحدود بين الجانبين، والتي كانت تعتمد في ما تعتمده: تقصي ثقافة الطبخ لدى التجمعات البشرية على الجانبين، فكانت تلحق المناطق التي يعتمد سكانها في شكل رئيس على القمح المجروش البرغل في المنطقة أ أي سورية، فيما تلحق المناطق التي تعتمد في غذائها على الرز في المنطقة ب أي العراق. لكن هذا التقسيم"الغذائي"لم يتطابق تماماً مع خرائط النفط لدى البريطانيين، الذين أرادوا ولاية الموصل المعروفة بميل نمط غذائها الأساسي إلى القمح مهما غلا ثمنها حتى وإن دفعوا بالمزيد من مدن الرز نحو المنطقة الزرقاء سورية لينتهي الجدل الاقتصادي الاجتماعي بتنازل فرنسا نهائياً عن الموصل لصالح بريطانيا، وذلك في مؤتمر سان ريمو عام 1920. أما تركيا فرأت أن مجرد احتلال القوات البريطانية للموصل بعد هدنة مدروز، يتيح لها المطالبة بالولاية التي ينبغي أن تلحق بتركيا الجديدة وريثة الحكم العثماني. من هنا تبرز جذور المعضلات السياسية لهذه الولاية التي لا يمكن اختزالها اليوم في الموصل المدينة، بل بالولاية التي تضم أيضاً مناطق إقليم كردستان ذات الغالبية الكردية التي لا تخلو من مشكلات هي الأخرى. ومنذ قيام الدولة العراقية مثلت الموصل ذات الغالبية العربية الساحقة رافداً أساسياً لقيادة لقوات المسلحة العراقية وأركانها منذ تأسيسها، ويتسم الضباط الموصليون بمسلكية طيبة وانضباط عال وتاريخ مهني جيد، على غير ما جرت عليه الأمور فترة حكم صدام في تعيين ضباط لقيادة القوات المسلحة ينحدرون من تكريت من دون ان يكون لهم مثل هذا التاريخ. واليوم تعد عشيرة شمر واحدة من أكبر القبائل العربية في تلك المناطق، وهي تطمح إلى دفع احد أبنائها لمنصب رئيس الجمهوريةك. فإضافة إلى غازي الياور، دخل شيخ آخر من العائلة نفسها دائرة التنافس على المنصب الأول، وهو يحمل الكنية العربية، وليس اللقب التركي لهذه العائلة. ففواز الجربا الذي انضم إلى قائمة الأئتلاف العراقي الموحد يبدو المرشح السني في القائمة لمنصب رئيس الجمهورية، على إن الهيئة الرئاسية المتوقعة سيجري انتخابها بنظام القائمة الواحدة أيضاً، وليس بترشيح شخصية واحدة عن كل قائمة، ومن هنا لا يمكن الركون تماماً إلى قوة أي قائمة أو نفوذها في تحديد الملامح الدقيقة للتشكيلة الرئاسية المقبلة. لكن المخاوف من انحسار الإقبال على التصويت في المحافظة تبقى قائمة بوصفها من بين أكثر الأماكن خطورة في الوقت الحالي. من هنا فإن أي أقبال محتمل على التصويت لن يتركز على الأرجح في مركز المحافظة الثانية من حيث تعداد السكان في العراق، بل سيتناثر في الأطراف، حيث الأقضية والنواحي ذات التجمعات البشرية التي تمثل طيفاً واحداً متماسكاً. وبما إن الإنتخابات العراقية كما هو واضح، في ملمحها الأساس، تقوم على أساس تمثيل الكتل الإجتماعية، وليس على أسس التنافس الحزبي، فإن هذا الأمر يستدعي إلقاء نظرة تقريبية على تلك الجماعات العرقية والطائفية التي لا تتمتع بتمثيل سياسي ضمن أحزاب وتنظيمات سياسية واضحة المعالم مما جعلها تشتبك وتتداخل مع كتل اجتماعية أخرى قوية لها تنظيماتها التاريخية. ولعل"الشبك"الذين يتفرقون في أطراف قرى الموصل المتداخلة مع اقليم كردستان يمثلون النقطة الغامضة في فرز تلك الجماعات او إلحاقها عرقياً وقومياً وفئوياً، بهؤلاء القوم أو أولئك. فهم كما تشير تسميتهم جماعة"مشتبكة الأصول"وملتبسته لدى الباحثين المختصين. ولنا أن نتصور الحال عندما يتعلق مثل هذا الأمر بالأحزاب السياسية التي تتطلع إلى استدراج الجميع نحو شباكها؟. فهذه الجماعة التي تعتنق في غالبيتها المذهب الجعفري الإثني عشري، يقدر عددها بمئة ألف نسمة، على أن أعدادها"المستترة"لا تبدو ممكنة الإحصاء نتيجة القمع الذي تعرضت لها خلال مراحل الصراع الصفوي - العثماني والعنف المتواصل الذي مارسته السلطات المتعاقبة على حكم العراق. ولا يكاد"الشبك"ينتظمون في أي توصيف عرقي او قومي او طائفي، أو حتى عشائري، وفي العودة لتسميتهم النمطية سنجد إنها التوصيف الأمثل المتاح لهذه الجماعة الغامضة ليس في أصلها الأنثروبولوجي فحسب، وإنما في مقدار الظلم الذي واجهته كذلك. فثمة من يلحقهم بالإيرانيين وثمة من ينسبهم إلى السلاجقة وبقايا القبائل التركمانية التي سيطرت على العراق في النصف الأول من القرن الخامس عشر، وثمة من يربط وجودهم في المنطقة بفترة حكم الصفويين الذين احتلوا العراق بعد ذلك. لكن ثمة من يعيدهم أيضاً إلى أصول عربية صريحة تنتهي إلى قبائل طي، بيد أن لسانهم الذي ينطق بلغة تتداخل فيها كل هذه الثقافات، يضفي مزيداً من الغموض والتشابك على القضية برمتها. ويبدو العسف الذي تعرضوا له متناسباً مع هذا الغموض، فحملات الأنفال التي طالت العديد من القرى الكردية عام 1988، شملت أغلب الشبك، وبالقياس إلى تعداد نفوسهم فإن ما تعرضوا له خلال تلك الحملات يمكن وصفه بنوع من سياسة الإبادة لجماعة بشرية. كما إن إصدار صدام لقراره الشهير بتغيير القومية إلى العربية في السجلات المدنية سلط بشكل أساسي على"الشبك"في محاولة لحسم النقاش الأنثروبولوجي حول هذه الجماعة معللاً قراره"بوجود حالات موروثة من العهد العثماني". ومثلما هو حال هؤلاء الشبك، فإن"اليزيدية"هم الجماعة الأخرى التي تسكن المناطق الشمالية وتتركز بشل أساس في قضاء سنجار وقرية شيخان، والتي لا تتمتع بأي واجهة تمثيلية بل نراها اليوم منخرطة كأفراد في قوائم أساسية تحاول إظهار الملامح التعددية للأقليات في تشكيلها. ومثلما هي الحال مع الشبك ايضاً تعرض اليزيديون للكثير من التشنيع العقائدي والتاريخي بدءاً من وصفهم بعبدة الشيطان، وصولاً إلى تهمة معاداتهم للشيعة. ووقوع مثل هذه الأقليات وسواها بين نفوذ قوميتين كبيرتين العرب والكرد أدى إلى ذوبان هذه الهويات الضيقة تحت شعارات الوطن الواحد والقومية مما أدى هجرة الآلاف من أبناء الأقليات إلى الخارج، وتوديع فكرة الوطن بمفهومه الجغرافي نهائياً، ولعل هذا واحد من أسباب عدة تفسر انحسار الإقبال على الاقتراع بين العراقيين المقيمين في بلدان أخرى على رغم أن ظروف معظمهم نموذجية تماماً للمشاركة في ممارسة ديمقراطية اعتادوها من حولهم، بل أن كثيرين منهم مارسوها فعلاً في أوطانهم الجديدة!. وإذا كانت الموصل واحدة من الساحات الدموية في البلاد، والمنطلق لموجات العنف الثوري خلال مراحل الصراع السياسي في العراق، فإنها لن تكون اليوم على الأرجح مكاناً نموذجياً للعملية"الديمقراطية"التي تسمح للأقليات في التعبير عن نفسها، وينطبق الحال ذاته على الأكثرية العربية فيها، إذ لن تجد نفسها معزولة عن امتداداتها وفروعها القومية والطائفية في أماكن أخرى في رفضها الانخراط في هذه العملية. وليس من باب التنبؤ القول أن ثمة عاصفة ما قد ترافق الانتخابات ستطيح بالأوراق الانتخابية وأشياء أخرى. عندها يكون للديمقراطية ثمنها برأي البعض، أو تكون عرساً من نوع آخر لدى البعض الآخر. في السليمانية واربيل... الربيع الكردي يتسع لمزيد من الأصوات يطلق الأكراد على أربيل اسم"هه ولير"بمعنى الولاية أو الحاضرة باللهجة الكورمانجية الشمالة، أو البهدنانية كما يصفها أكراد أربيل، فيما يتمسك الكلدان والآشوريون بتسميتها القديمة المشتقة من"أربائيلو"أي الآلهة الأربعة، وبين التاريخ المطمور تحت الأرض والواقع البشري المقيم فوقها، تتجسد أربيل مدينة الغالبية الكردية في مقابل أقلية مسيحية كلدانية تتركز أساساً في عينكاوا التي تقع على بعد خمسة كيلومترات شمال غرب أربيل، وهو نوع من الغيتو السكاني للمسيحيين في طرف المدينة. لكن السليمانية لا تعيش مشكلة تاريخية أو سكانية مماثلة فهي مدينة حديثة نسبياً، عمرانياً وبشرياً، إذ يعود إنشاؤها كحاضرة مدنية إلى أوائل القرن الثامن عشر عندما أصبحت مركزاً للإمارة البابانية على يد الأمير الباباني إبراهيم باشا الذي استعار لها اسم والي بغداد آنذاك سليمان باشا من دون أن يتوقع إن هذا الرابط الإسمي ببغداد سينجم عنه تاريخ آخر من العلاقة بين العاصمة والإمارة. والسليمانية تختلف عن أربيل ليس بسبب المسافة التاريخية بين إنشاء المدينتين بل في كون النزوع القومي الكردي يتركز في السليمانية بصيغة أكثر صراحة منه في أربيل، وهي بذلك لا تشبه صورتها السكانية الأولى في التنوع العرقي أرمني وتركي وكلداني ومسيحي وحتى يهودية وتكاد اليوم تكون كردية خالصة. لكنها من جانب آخر مدينة تشهد تفاعلات مضمرة لصراع ليس مكشوفاً تماماً بين التيار الإسلامي المتشدد والتيار القومي ممثلاً بالحكومة المركزية التي تتبع الإتحاد الوطني ذا النزعة الماركسية. وعلى رغم أن الحزب الديمقراطي الكردستاني كان ذا عقيدة ماركسية لينينية، أيضاً، عند تأسيسه قبل أكثر من نصف قرن، إلا إن الجذور الدينية والعشائرية للعائلة البارزانية كانت الأكثر بروزاً في الواقع من طبيعة التثقيف الحزبي، وكان الولاء العشائري والمكانة الدينية ولا يزال هو الأوضح في"البارتي"، مما حافظ على توازن بين التوجه القومي والموروث الديني، في بنية المجتمع الكردي في أربيل. وإذا كانت حلبجة الإطار الأوضح لمأساة السليمانية بل لعلها الإطار الأفصح لمأساة الإكراد عموماً، فإن قرى به دينان التابعة لأربيل والتي تقطنها العشائر البارزانية تعد الصورة الداخلية عن مدى القمع الذي لحق الأكراد بفعل سياسات العهد السابق. ويكفي أن نشير هنا إلى أن غالبية سكان هذه المنطقة اضطروا خلال سنوات الثمانينات إلى التخلي عن ارتداء زيهم التقليدي، المعبر عنه بالكوفية المنقطة بالأحمر بطريقة ربطها الخاصة على الرأس حتى في قراهم، لأن ذلك كان يشير إلى هوية مريبة يجري اعتقال أصحابها على أنهم متمردون على السلطة. على أن الكوفية الحمراء، أبعد من كونها مجرد رمز إجتماعي يخص البارزانيين. فمنذ العهد العثماني أدار الكرد حروباً وانتفاضات وثورات عادة ما تشتعل بنيران يؤججها أصحاب"اليشاميغ الحمر"عندما ابتدأت بماركة بارزانية عشائرية دينية في انتفاضة الشيخ عبد السلام البارزاني مروراً بالثورة البارزانية الثانية بقيادة الملا مصطفى البارزاني ، والد الزعيم الحالي مسعود البارزاني، والتي ظلت مستعرة على رغم رحيل مشعلها حتى سقوط النظام الحالي، لتتحول نارها من اللهب العشائري الأول إلى مشروع قومي يتجلى ربيعه بوضوح في المرحلة الراهنة. إنها مشكلة أخرى إضافية تفاعلت قبل أن تولد الدولة العراقية إذن. ومن اللافت، في تاريخ هذه المشكلة التي ستشكل تراثاً تقليدياً للصراع الداخلي، أن من بين أوائل قياديي القوات المسلحة العراقية الذين قمعوا ثورة الأكراد الفريق بكر صدقي الكردي الأبوين، والذي يوصف بأنه أكثر الضباط قسوة في إخماد الإضطرابات، وهو من قاد، في المقابل، تمرداً عسكرياً في أول انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة عندما أسقط حكومة ياسين الهاشمي بعد أن زحف بقواته إلى بغداد من حدودها الشمالية الشرقية عام 1936. لكن الكرد يخوضون اليوم معركة من نوع آخر، بعد سلسلة معاركهم الطويلة تلك، وهم يعلمون تماماً إنهم الرقم الصعب في معادلة بناء المؤسسة الدستورية للدولة العراقية في تكوينها الجديد. فقد كانت مخاطر الإختلاف بين الحزبين اللذين يمتلكان أكبر ميليشيا مسلحة ستتصاعد إذا ما دخلا الانتخابات في قائمتين منفصلتين ومما يؤكد هذه المخاوف تاريخ من الدم بين الأشقاء، جسدتها المعارك التي أعقبت الإنتخابات التشريعية للبرلمان الكردي بعد انتهاء سيطرة النظام الحاكم على المناطق الكردية عام 1991. على أن القائمة الكردية الموحدة، لم يجر إقرارها من قبل الحزبين الكرديين، من أجل انتخابات المجلس الوطني الكردستاني التي تبدو النسب فيها شبه محسومة في إطار التقسيم التقليدي لمناطق النفوذ الأساسية الموزعة جغرافياً وحزبياً لمصلحة كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارازني في أربيل ودهوك، والإتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني في السليمانية، وإنما من أجل أن تكون للأكراد قوة تمثيلية قوية في البرلمان العراقي الجديد تحقق مطلبهم في تحديد الآلية التنفيذية للفيدرالية في الدستور المقبل بعدما تم تقريرها تشريعياً في قانون إدارة الدولة الإنتقالي. من هنا يمكن القول إن المحاصصة الحزبية محسومة تماماً في انتخابات البرلمان الكردي، فيما يجري التطلع إلى حصة مشتركة في مناطق أخرى وساحة سياسية جديدة، فكما يبدو أن القائمة الكردستانية تمتد بنظرها نحو ما هو أبعد من العملية الانتخابية الحالية، وتحديداً إلى التوافقات والتحالفات اللاحقة داخل الجمعية الوطنية، ومن الواضح حتى الآن أن الانتخابات الحالية مجرد استحقاق أولي في العملية السياسية، تكملها خطوات عملية لاحقة تقوم على ضرورات المصالحة الوطنية، والتوافق السياسي الطائفي القومي. وهنا يشكل الأكراد نقطة التوازن الأساسية في تحديد مستقبل الدولة في العراق وشكلها، فهم ميزان يمنع من إعادة تشكيل دولة قومية من جهة، ويمنع إمكانية قيام"دولة إسلامية"بأي من أشكالها الفقهية والدستورية والحزبية من جهة أخرى. فقد نجحوا حتى الآن في تأكيد مبدأ دستوري يعادل في أهميته مبدأ الفيدرالية من خلال المادة السابعة من قانون إدارة الدولة بفقرتها الثانية التي تنص على أن"الشعب العربي في العراق هو جزء من الأمة العربية"مانعين الدولة من التطلع إلى هوية عربية محضة، كما درجت عليه الدساتير السابقة. ولن يعتمد الميزان الكردي في ضبط الكفة، على حق الفيتو الذي ضمنه لهم الدستور فحسب، وانما يتعزز من قوة تأثيرهم في الجمعية الوطنية عبر تحالف متوقع، يتطلع إليه رئيس الوزراء الحالي أياد علاوي، وسيحتاجه كل من عدنان الباجه جي وغازي الياور بالتأكيد، في منع غالبية نسبية ممكنة قد يحققها الائتلاف العراقي الموحد المدعوم من المرجعية. انهم إذن ضمانة إضافية لتشكيل رئاسة علمانية غير معممة أو ربما حتى ملتحية. وهم ميزان بين العرب السنة والعرب الشيعة، في كونهم يتباينون قومياً مع الطرفين، ويتماثلون طائفياً، لا مذهبياً، مع الطرف الأول، حيث يتبع الأكراد المذهب الشافعي، بينما تتبع الغالبية في مدن ما عرف بالمثلث السني المذهب الحنفي. لكن هذا التماثل ليس كاملاً تماماً، فهناك"الفَيْلية"الجماعة التي تنوس بين بعد قومي كردي قلق وملتبس، وبعد طائفي شيعي تحتويه أحزاب شتى علمانية ودينية. لكن هؤلاء لا يتمركزون في أربيل والسليمانية ودهوك، وإن تواجدوا فيها بعد حملات التهجير والتسفير، بل يمتدون إلى مناطق انتخابية سيكون فيها للأكراد عرض خاص، ربما حمل مفاجأة انتخابية، وتمتد هذه المناطق من الموصل إلى كركوك وبعقوبة وصولاً إلى العاصمة بغداد. وعلى رغم أن للفيلية قائمة مستقلة يمثّلها الإتحاد الاسلامي للكرد الفيلية، إلا إنهم ينتظمون في قوائم أخرى، تبدو هي الأقوى، وتجسدها، إضافة إلى القائمة الكردية، قائمة الائتلاف العراقي الموحد التي تضم عشرة مرشحين فيلية. ومع أن ليست للفيلية حصة ثابتة ومحددة من المقاعد، إلا أن تأثير أصواتهم يدفع القوائم الرئيسية إلى استقطاب مرشحين عن هذه الفئة الاجتماعية الباحثة عن دور لها في الحياة السياسية. كل هذه الإسباب الداخلية البحتة قد تجعل من قضية إنفصال الأكراد نوعاً من اللاواقعية السياسية على الأقل في المستقبل المنظور. ومع تراثها الديموقراطي الذي تتقدم فيه بالممارسة على سائر أنحاء البلاد، كانت الأحزاب الكردية حتى إلى مرحلة قريبة ممن يؤيد - وإن بفتور - تأجيل الانتخابات، ليس لدواعٍ أمنية في كردستان التي تتمتع بربيع متواصل منذ أربعة عشر عاماً، وانما بسبب تزامن موعد الثلاثين من كانون الثاني يناير، مع موسم الثلوج والطقس المناخي السيء في هذا التوقيت، كما سيق في دواعي التأجيل. غير أن المناخ السياسي الذي جرت فيه المداولات، لا الطقس الجوي، هو أهم الأسباب التي دفعتهم نحو خيار التأجيل، ليست كركوك بوضعها الملتبس، ولا الموصل بمخاوفها الأمنية، بعيدتين منها، ولا خيارات التحالف مع القوائم الأخرى معزولة عنها. وإذا كانت النسب التمثيلية محسومة بالتوافق ليس بين الحزبين الكرديين الرئيسين فحسب، بل حتى في الحركات والتنظيمات التي تمثل الأقليات الأخرى، والتجمعات البشرية العرقية التي تعيش في كردستان العراق، من خلال القائمة الكردية الموحدة، فإن طبيعة هذه النسب التمثيلية هي التي تبدوة مثار خلاف، بل ومنافسة، في الانتخابات المحلية للبرلمان الكردي. ويشكل المسيحيون الذين يعيشون في مناطق أربيل ودهوك والحدود الإدارية للموصل بؤرة إختلاف بين الأحزاب الكردية من جهة، والتنظيمات المسيحية من كلدان وأشوريين وسريان من جهة مقابلة، إذ يتوزع مسيحيو العراق على تنظيمات سياسية عدة، بعضها ذو طابع قومي وبعضها ذو طابع ثقافي تاريخي، وبعضها ذو صيغة طائفية ومرجعية كنسية متباينة، وبحسب هذا الثالوث التوصيفي لمسيحيي العراق نشأت تنظيمات، تمثل الجماعات المسيحية العراقية من كلدان وآشوريين وسريان. ففيما ينخرط جانب من المسيحيين الآشوريين في تنظيمات قومية تمثلها حركتان أساسيتان هما الحركة الآشورية الديمقراطية والحزب الوطني الآشوري، ينتظم الآخرون في تجمعات ذات طابع ديني وثقافي منها حزب بيت نهرين الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكلداني والجمعية الثقافية الكلدانية. لكن هذه الأحزاب تبدو محدودة التأثير ومحددة الفاعلية من خلال النسب الطائفية التي حددت لها وهي خمسة مقاعد في البرلمان الكردي، وما قد يصل إلى عشرة مقاعد في البرلمان العراقي، ولا تبدو الحصص التمثيلية لهذه التنظيمات ذات نصيب مضمون في انتخابات مجالس المحافظات، بخاصة مع وجود شخصيات مسيحية بارزة ضمن مختلف القوائم الرئيسية المتنافسة. ويتيح التضاؤل الواضح في عدد القوائم المتنافسة في المناطق الكردية 13 قائمة في أربيل وسبعة في دهوك و11 في السليمانية والتي لا تشكل بمجموعها المعدل الوسطي لعدد القوائم المتنافسة في أي محافظة عراقية، يتيح للمتتبع إستنتاج إن كردستان منطقة شبه مغلقة انتخابياً في التنافس على المقاعد المحلية للبرلمان، ومحسومة النتائج سلفاً، لكنها من جانب آخر مفتوحة على احتمالات شتى في ما يتعلق بتأثيرها على المستقبل السياسي للبلاد بشكل عام، وهو ما يؤكد ان الحركة الكردية اليوم بلغت مستوى من القوة السياسية، لم تبلغها في تاريخها، الأمر الذي يمكن معه أن نفهم مخاوف البعض داخلياً وإقليمياً، مما يمكن وصفه بالحقبة الكردية الذهبية. كاتب وباحث عراقي.