الدخول الى منطقة شوقي أبي شقرا الشعرية ليس دخولاً هيّناً، أو مفتوحاً لمن يرغب الدخول، وفي الإمكان الاستدراك:"ومتى كان الدخول لحرم الشاعر ميسوراً للرعية؟"هذا على أن الصعوبة الآن، في منطقة شوقي أبي شقرا في ديوانه الجديد"تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة"الصادر له عن دار نلسن/ بالتعاون مع مجلة الحركة الشعرية، المكسيك... 2004، مركبة، فالشاعر قطَع من مدة طويلة مع الباب المفتوح، والقصيدة المائدة أو الكرم على درب. لا ليس لكل عابر شعرٍ هو، وليس هو الخبز لكل فم، وليس قبّانياً ولا للجمهرة، ولا للبلاغية العربية، ولا للإييقاعيين، ولعلك أن تكون لبنانياً من ريف بعيد، وصاحب غريزة لغوية لبنانية ريفيّة، وأن تكون مهيئاً تستقبل الكلمات والسياقات التعبيريّة، والمطبّات الأوّلية للكلام كما لو أنت مصغٍ لطفل يركّب الجمل على هواه ومزاجه لا كما أنت تعرف أو تتوقّع وبلعثمة المعاني والعبث بعقل اللغة، ولعلك أن تكون قارئاً أقلويّاً بفضول وانتباه، وبعدالة، وبلا مساطر وتركيبات سابقة في الذاكرة ومن الموروث... كل ذلك يساعد في الدخول الى هذه المنطقة المغناطيسية الخاصة من الشعر العربي، فإذا دخلت فأنت تسرح وتعرف وتستمتع بهذا الصنيع الشعري الخاص. ومن البداية ومن العنوان والعناوين، ومن"سنجاب يقع من البرج"1971، الى"ماء لحصان العائلة والى حديقة القديسة منمن"1974، الى"يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً"1979 الى"حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة"1983 فديوان لا تأخذ تاج فتى الهيكل"1992، ف"صلاة الاشتياق على سرير الوحدة"1995 ف"ثياب سهرة الواحة والعشبة"1998، ف"نوتي مزدهر القوام"2003، فالأخير"تتساقط الثمار..."... نسجّل ولادات جديدة، تِسعاً، لهذا الشاعر الآتي من صوب"أكياس الفقراء"1959 أولى مجموعاته وهو في الرابعة والعشرين من العمر، لحين"تتساقط الثمار..."وهو في نضوج السبعين، وبعدما دخل وخرج في تجريب ومطبخ التجربة في مجلة"شعر"و"النهار"ثم... الى الحرية، انتهى ليكون له بصمة شعرية، على امتداد نصف قرن من الكتابة، فكيف الدخول الى هذه البصمة، المنطقة، ومن أين؟ ولعلّ جملاً ما، تساعد على هذا الدخول، وان كانت لا تكفي. ف"يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً"، على سبيل المثال، تسلم صورة"والتدزنية"سحرية متحركة، لحقل سنابل يذرعه ساحر يتبعه شخص الصورة الشاعر أو سواه من دون تحديد يركض وراء الساحر ويكسر السنابل. أما"حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة"، فعنوان محيّر ولكنه جذّاب، إذ فيه"الحيرة"وهي الحال النفسيّة والعقلية للواقع فيها، تتجسّد في مشهد تشكيلي من طبيعة ميتة او صامتة"تفاحة على الطاولة"- فكيف"تتشيّأُ الحيرة"، وهي قلق محض، وكيف تتنزّل في أبسط مشهد محسوس ومألوف واعتيادي: تفاحة جالسة على الطاولة؟ ثمّ ما الذي يجلس على الطاولة؟ الحيرة أم التفاحة؟ وكيف وكيف... الخ؟ ما يشكّل دُواراً عذباً لسريالية صُوريّة مرحة ورعويّة ولبنانيّة اختص بها شوقي أبي شقرا وشكّلت جزءاً من حيّزِه الشعري. عنوان المجموعة الأخيرة، يوقع القارئ في دُوار مشابه، دُوارٍ خفيف ولطيف. ولا ينبغي لنا أن نكون قُساةً مع الشاعر وهو ليس كذلك، وأمام عنوانه، ولم ندخل بعد، نقف أمام صورةٍ ممكنة وممتنعة. لكن لا إمكانُها من ناحية المنطق ولا امتناعها، إذا جُمعَ طَرَفا العنوان الى بعضهما البعض..."تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة". حسناً: الجملة فعليّة صُوريّة مبدوءة بفعل"تتساقط"للمضارع المفيد استمرار فعل التساقي. الجملة حركيّة. ومعها أيضاً، كما مع"الحيرة"ينفر سؤال: كيف الثمار والطيور وليس الورقة؟ ما سبب امتناع الورقة على التساقط؟ ولماذا تخضع الثمار والطيور لمبدأ"نيوتن"في الجاذبية والهويّ إلى أسفل، ولا تخضع الورقة؟... وكما مع"الحيرة... الجالسة..."نجد أنفسنا من جديد، ملزمين بإزاحة"المنطق"أو"عقل الصورة"و"عقل المعنى"، في اتجاه ماذا؟ نسأل نجيب: في اتجاه"الحيرة"، الدُوار الخفيف، الدهشة... ثم ننتهي بالتسليم أو الاستسلام اللذيد للاّسؤال... إذ، وعلى امتداد العناوين والقصائد، ومن خلال حركة لا تهدأ من الإقصاء والاحتمالات، نجد أنفسنا أمام نصوص راكضة متوكئة على"الواو"، و"الواو"في سياقات النصوص ومطالع الأسطر، ليست حرف عطف، بل حرف استطراد، ويمتطيه الشاعر كتقنية كلاميّة ودولاب، ونركض معه، وفي استطاعتنا إقصاء ما نُقصي واثبات ما نثبت، كما في الاستطاعة الاستسلام للدُوار والدويخة، فننتهي وفي الكفّ قبضة من"دهشة"غامضة، وطفولية، وأحياناً ماكرة، وأحياناً تطرح أفكاراً، ولكن لا هي بقبضة أفكار، ولا بقبضة معانٍ، ولا أوزان، بل طقوس وما يشبه تعازيم السحر الريفي ومن عمق قرية لبنانية وجبليّة، وان كانت ليست بالعاميّة، ولكنها تغرف منها كلمات وجُمَلاً، وهذا يكفي. ولنلاحظ دور"الواو"في قصيدة"ماذا يفعل المساء": "... ونمسحُ جباهنا من الكيمياء/ ... والمرارة دائماً هي الحلوى/ والفاكهة أننا ألماسُ الحريّة/ وأننا سرعة الرؤية/ وأننا قصر السموأل.../ وحيث نحرّر المشاعر الزائلة/ ونربط جدائلنا بالمعادن.../ وتفرّج على ثياب التراث/ وخزائن الفراشات/ ومناشفها تتمازج على الشوك/ وندوخ من هيبة الشيطان/ ونغمس ذيلنا في الخلّ/... والأرملة تزيد حسرات المستنقع/... والمسألة أننا سمكة الشهوة/ وجلدنا رقيق الحاشية/ وكل طعنة حتى الحبّة من الكرز علامتنا/ وينفجر ثقب الشاعر من الضيق/ والصديق هو المرّيخ... ...". أرأيت؟ إنه على عجلة"الواو"يجري هذا النصّ جريانه الحرّ في استطراد يدور ويدور ويدور... ومثله سائر النصوص،"فالواو"البداية والدولاب. يبدأ قصيدة"الربابة ولا أوتار"به"ونختلفُ ونهجمُ على جدنا الحائط القديم/ نركله على خصيتيه وخيشومه..."..."ونضرب الولد من نصفه وعرضه/ حيث لوحة الألم والمسمار"... وهذا الشعر المستطرد على حرف"الواو"يضعنا من خلال الجَرَيان معه أمام احتمالات... وقراءة القصائد لا بد لها من اتكاءات، حتّى ولو انتهت كقراءة الى التشبّه بكتابة القصائد أو التماثل معها، أي الى إلغاء الأسباب والأسئلة، والاندراج في"الحال الشعري"وهو حال غامض ومكتمل وربما لا يُطرحُ عليه سؤال. لكن على سبيل التجربة، والاحتمالات، نلاحظ أن نصوص شوقي أبي شقرا لا تؤخذ من ناحية"عقل القصيدة"ولا تؤخذ من ناحية الإيقاع التفعيلي فهو طلّق التفعيلة أو كاد منذ ما بعد"أكياس الفقراء"، ولا تؤخذ من ناحية الغنائية العربيّة، ولا تؤخذ من جهة الغائيّة، ولا تؤخذ من ناحية البلاغة والبيان العربيين، فهو قادر على هلهلة الكلمات وتناول العاميّة حيث يقتضي... أو يرغب ولا يتهيّب، ومن بعد هذه الإقصاءات، نسأل: من أين الدخول الى قصيدته؟ للوهلة الأولى تفاجئنا نصوص تتمتع باللطف والعفوية اللابسيطة، والطرافة. نأخذ الجملتين آنفتي الذكر على سبيل المثال:"... ونضرب الولد من نصفِهِ وعرضِهِ/ حيث لوحة الألم والمسمار"... نجد جملة ما أقصيناهُ من احتمالات، يصنع نصّاً مضاداً... مضاداً لمجمل الشعريات العربية الحديثة السائدة بمختلف أساليبها وصيغها... ان لجهة"منطق النصّ الشعري"أو لجهة"بلاغيته ولغته"أو"غنائيته"أو"سرديّته"أو معانيه، أو أشكاله. الصورة هنا مرحة، مركّبة على طريقة والت ديزني، وذات طرافة مجانية أي ليست نفعيّة ولا غائية، وهذه المجانية جزء من حداثة شعرية ما، فرنسية أولاً، ومن ثم عربيّة فلبنانية... لكن أيضاً لا ننفي العبث، بل العبث بالعبث، وحتى لو اقتربنا افتراضاً من معنى، فهو يبقى في إطار الصورة العابثة، فما هي لوحة الألم والمسمار؟ سنقول انها، حيث وسط جسم الولد: بطنه وما تحت البطن... والمسمار هنا كناية عمّا تحت البطن... فالنصّ طلّق المعاني واللغة البلاغيّة والصور الشعريّة والذاكرة الشعريّة، ونحسب أنه اتجه في الكتابة في اتجاه"مصدره". ما هو مصدره؟ ما هي ساحته؟ طاحونة عبث وجميل. وشيطانه ريفي، ولبناني. ويشبه البنات اللواتي يصفهنّ في قصيدة"من يحبّنا أكثر"بأنهن"يطلّقن الكتابَ مرتمياتٍ على النهر"... فكتابته لهذه الناحية غير مسبوقة، حتى ولو تأسست كلاسيكيّاً على قطبين لبنانيين في بدعِ النثر العربي: أمين نخلة في"المفكرة الريفية"، ومارون عبود في طرافته وأشخاصه وعبارته الضاحكة المشتقّة من الجبل اللبناني والضيعة اللبنانية المسيحية بطقوسها وخرافاتها الأهلية، وعبارتها. لكن، هذا على ذاك، يضاف اليه شيء جديد في صنيع شوقي أبي شقرا، شبيه بالمحوّل في المزيج . فحين يصوّر أمين نخلة، على سبيل المثال، اليقطين المنبطح على الأرض من الحنق، يتجاوز أنسنةَ عناصر الريف وفاكهته ومياهه الى العبث السحري، الى خرافة الريف، واللامعقول الكامن في المعتقدات الشعبية، والزوايا المعتمة والغامضة من الأمكنة والأشخاص..."نمازح النهار الطويل الأذنين/ غير كسلان وغير حمار"..."ذاك يفيدنا للعثور على نقطة الخرافة/ ولمس العمود الذي وراءه قطّة أو جنّية تنفخ بالونات الصابون""تركع الثمرة وعنقها في الخشبة"..."قافلة من اثنتين: النملة والنكتة"..."الأوبرا منفتحة على أمسية البقرة وسكون الأتان"..."الدودة تسرق البطء من السلحفاة"..."نسدّ قمّة المزراب والخواطر المتفاقمة الحدوث لئلا يباغتنا الشتاء الوسخ"..."حبلى هي المردكوشة"..."الكبرياء كلبي يغفو على الطرّاحة"..."الزرافة الناطحة الندى وسنديانة الهيام بالزمن"..."نزيح دجاجة الألوان/ وقرقة الموسم والأرض/ وسنولد إذن صيصاناً بحلّة سوداء في العيد"..."نغلق النافذة مخافة الحشرة""ونعفو عن النملة وصاحبها"..."ونعثر في نصوصه أيضاً على"خنفساء النعاس"و"منقوشة الضحك"و"جدي الأنين"و"حطب الكذبة"و"دجاجة الخفر"و"أرنب المستحيل"و"مكنسة الخطأ"و"خرافة اللبن"و"حليب اللامبالاة"و"صوف السعادة"و"عمامة القنطرة"و"جلالة السنديانة"و"سعادة العصافير"، و"كلب الشقاء"، و"عنزة الشباب"و"نقبل بالحائط عريساً"... وهكذا... فهل هذا يكفي؟ لا أعتقد. فهذه الجمل المستلّة من نصوص الشاعر، والمستندة الى اضافة المحسوس الرعوي غالباً الى المعنوي، ينقصها التأليف لكي تستقيم دلالتها في النصوص من جهة، ولكي نضع اصبعنا على الجوهر الشعري من جهة ثانية. فمن ناحية"التأليف"، فإن كتابة شوقي أبي شقرا تظهر على صورة كتابة ما قبل بلاغية، بل وحتى ما قبل لغوية، وبالضرورة ما قبل غنائية. هي كتابة طفلية، تتساحب فيها الكلمات وتتناسل من أطراف أصابعها تناسلاً مرحاً وأوليّاً... ولا يُسأل عن مقاصد الذاكرة اللغوية ولا المعاني التاريخيّة. ولا تلتزم تمام الالتزام بمواصفات"قصيدة النثر" كما لخصتها لنا سوزان برنار في كتابها المعروف، من لمح، واختزال برقي فهي ذات استطرادات كثيرة، ووحدة عضويّة فهي متروكة لآليات نقّالة ومتباعدة، وإن كانت لا تحطّ على معنى بذار، إلا أن عبثها ينطوي على خطورة اللعب الطفلي الحرّ والمدمّر في آن، الناسف للموروث واللغة... والآباء... دخولاً من كوارة السحر، وارتماء في حضن الريف، وتسلّحاً بألفاظ من محكية الجبل اللبناني. أمّا لجهة الجوهر الشعري، فهو شعر يعزل نفسه عن التراث العربي ويعتصم بإرث محليّ... لنقل بعناصر ريفيّة من أرث محلي، وسحري. إنه يلوذ بالبداءة، ويلبس جلداً رغوياً كجلد الهيبيين. وصاحب توق للعتق في البراري والبيوت الأولية، والغابات، بثمراتها وحشراتها وأن يكونها بجلودها وحشرجاتها ووسوسة الكائنات الأصغر والأصغر وبنباتاتها وحيواناتها وأصواتها"أجمح نحو الدروب/ نحو نحر البؤس/ ويغار القصّاب/ ونحو محو العتبة/ ويزجرني المعماري لتنبطح الشقاوةُ على أنفها/ وينفلش سطل الحليب على الجميع/ وان ارتبط ببقرة المودّة/ وأسعد بالصحراء بالآل/ وأن انتفخ وأكون الدبّ المفترس"..."أجري الى أبي البحر.../ أنزع ثيابي أنا الملفوفة ورقة تسدّ تجامع ورقة"فهذا التقمّص لنباتات وأجساد البراري وحشرات وكائنات الغابة، وهذا الملاذ لسحر الريف قبل أن تضيئه الكهرباء، وهذا الاستنطاق للعنقود والبقرة والخنفساء والحمار والنملة... كله ينعقد على ما يشبه هذيان المخيلة واللغة البدائية... وهي إذ تتحاشى الفصحة، ورموز الإرث التاريخي واللغوي العربي، فإنما، حين تلجأ لبعضها كالأندلس وحنين المشرقي والصوفي والصومعة، والقاعدة والثورة... وما الى ذلك فإنما لأن الشاعر، وكما يقول"يهوى القفز على اللحاف وحبل البهلوان"أولاً، وانما لأنه أيضاً، وكما يقول"يعبث بالعبث"، وانما أخيراً وبقوله بالذات من نصّ"الغصن سكران منذ العشيّة":"... وأظنني الحلم وأحلم".