عرف عن العراقيين إهتمامهم بمفردتين تشكلان حجر الزاوية في المسلكية العراقية عموماً، هما السياسة والقراءة، وإذا كانت صفة القراءة قد عبرت عن نفسها بمقولة"... والعراق يقرأ"متجسدة بذلك الكم الهائل من الصحف والإصدارات التي عرفها تاريخ العراق المعاصر، فإن مؤشرالإهتمام بالسياسة تمكن ملاحظته في تلك الأعداد الكبيرة من الأحزاب والحركات والتجمعات السياسية التي بدأت بالتشكل والظهور منذ عام 1914 وما زالت تتكاثر في شكل لافت. هذه الظاهرة التي قيل في وصفها من باب الطرافة:"إذا اجتمع عراقيان، سينتج عن إجتماعهما ثلاثة أحزاب"، ليست مقطوعة الجذور عن الإشكاليات المجتمعية والجغرافية التي أفرزت بدورها تاريخاً إشكالياً جعل من العراقيين شعباً طالما وجد نفسه في قلب الإعصار أو في مواجهته، وقد يكون ذلك من الاسباب التي يمكن إيرادها في معرض تفسير تلك الظاهرة. لكن ما هي المصادر الأهم التي شكلت اللبنات الاولى للبناء السياسي في العراق؟ وكيف انعكس ذلك على الوضع العراقي بكل أشكاله؟ ثم أية ادوار ستلعبها تلك الأحزاب والحركات في تحديد مستقبل العراق الجديد؟ وكيف يمكن رسم خريطة تقريبية لمواقع نفوذها ومساحة تأثيرها، إستقراء لما قد تحققه من نتائج في الإنتخابات المقبلة؟ بداية تجدر الإشارة الى ان ظهور الأحزاب في العراق تأخر بعض الشيء، قياساً ببلاد الشام ومصر وغيرها من بلدان المنطقة. ويعود ذلك في جزء منه الى عزلة العراق النسبية وقلة إحتكاكه بأوروبا، التي تأثرت بإرهاصاتها الفكرية والسياسية، النخب العربية من بلدان حوض المتوسط. فحتى نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن العراق قد عرف التنظيم الحزبي الحديث، ولكن مع بواكير القرن العشرين، ظهرت في العراق جمعيات - أو نواة لأحزاب - كانت بدورها فروعاً او إمتدادات لأحزاب وجمعيات في بلدان اخرى، مثل جمعيتي"العلم"و"الإصلاح"التي إندمجت لاحقاً في حزب العهد عام 1916. أسس هذه الجمعيات ضباط عراقيون من الجيش العثماني كنوري السعيد وجميل المدفعي وطه الهاشمي، أو سياسيون ومثقفون كمولود مخلص وداوود الجلبي وياسين الهاشمي وغيرهم. ولم تبدأ تلك الجمعيات بطرح برامج سياسية إستقلالية، الا بعد الحرب العالمية الأولى. أما قبل ذلك، فاقتصرت على مطا لب إصلاحية كالمساواة والاعتراف باللغة العربية وما شابه. مع إنتهاء الثورة العراقية الكبرى عام 1920، وهي اول ثورة سياسية في العراق الحديث، تشكل الكيان الوطني في دولة لها مقومات وهوية وحدود ثابتة، ومن ثم توالى إصدار القوانين والتشريعات التي اكتسبت مفاعيلها بعد سنوات قليلة. ففي سنة 1922 صدر قانون للأحزاب شرّعت او أسست اثره الكثير منها، كحزبي"الوطني"و"الأمة"برئاسة كل من جعفر أبو التمن وياسين الهاشمي على التوالي، وحزب"النهضة"برئاسة أمين الجرجفجي، و"الحرية"برئاسة محمود النقيب وغيرها. وعلى رغم صعود التيار القومي معبراًً عنه بالثورة العربية الكبرى، الإ أن فكرة "الحزب القائد"والوصول الى السلطة من طريق الإنقلاب لم تكن قد ظهرت بعد، لذا غلب الطابع الليبرالي البرلماني على نشاطات هذه الاحزاب، بخاصة مع إقرار الدستور الأول وبدء الحياة البرلمانية بين عامي 1924 و1925. وظلّ التداول السلمي للسلطة قائماً حتى عام 1936 حينما دشن اللواء بكر صدقي أول الإنقلابات العسكرية، وتلاه بعد ذلك ببضع سنوات رشيد عالي الكيلاني، ثم ليبدأ ظهور أحزاب طرحت مفاهيم اخرى لتسلم السلطة من طريق القوة. وقد أتيح لها ذلك واقعاً عام 1958، وفيها طويت صفحة العمل البرلماني في العراق وفتحت حقبة جديدة دامية توالت فصولها زمناً طويلاً. عهد جديد... أحزاب قديمة قيام النظام الجمهوري في العراق أفرز مجموعة من الوقائع كرست باعتبارها مصادر محورية للحياة الحزبية في العراق الجديد. فبعد انحسار نفوذ الأحزاب والتيارات الليبرالية ذات التوجه الوطني الخاص، انحصرت المنافسة عملياً بين التيارات القومية والإسلامية واليسارية التي نظرت الى العراق كجزء من كل، أي أنه اما جزء من أمة قومية - عربية أو كردية - أو جزء من أمة أوسع كما عند الإسلاميين أو من حركة"البروليتاريا العالمية"كما لدى الماركسيين. وعليه لم تؤخذ في الإعتبار طبيعة التشكل المجتمعي للعراق وخصوصياته، التي كانت تتطلب التركيز على تحديد الأولويات في العمل لبلورة الهوية الوطنية، وبالتالي إنجاز مشروع الدولة القطرية بمفهومها السياسي والمسلكي، قبل الإنتقال الى مشاريع أكثر شمولية، وهو ما يحصد العراقيون نتائجه اليوم، اذ تفككت أواصر الوحدة المفترضة للمجتمع العراقي وتقدمت على حسابها خطابات الطائفية او الإثنية كنتيجة منطقية لمسار الأحداث التي تعاونت على إخراجها السلطات المتعاقبة والأحزاب، كل بدوره، اذ كرست بحركتها وبرامجها عوامل الإنقسام أكثر من تحفيز مكونات الوحدة، وبشهادة الماضي القريب الذي يكرر نفسه بتراجيديا دامية ما زلنا نتقلب ضمن مفاعيلها. 170 تنظيماً سياسياً ... وجمهور مسيس يفتقر الى فكر سياسي ! في قراءة إجمالية لخريطة أهم الأحزاب والتيارات السياسية العراقية التي ما زال لها حضورها وتأثيرها الفاعلين في تحديد إتجاهات الحدث العراقي ورسم ملامحه المقبلة، يمكن تصنيف هذه القوى وتبويبها بحسب منطلقاتها الأيديولوجية التي تتحكم بنوعية ومضمون خطابها وتوجهاتها السياسية ماضياً وحاضراً، إنطلاقاً مما يأتي: الأحزاب والقوى الدينية تشير التسمية الى مجموع التيارات التي ارتكزت في بناء تحركها السياسي إنطلاقاً من مفاهيم ومسميات دينية. ولما كانت الأكثرية الساحقة من المجتمع العراقي تدين بالإسلام، سنتناول تلك القوى السياسية المنظمة التي تركت بصماتها الواضحة في العراق وما زالت. أما الأحزاب التي مثلت ديانات اخرى في العراق، كاليهودية والمسيحية واليزيدية وغيرها، فانها خلطت ما بين القومي والديني كما سنبين لاحقاً. وبالعودة الى العنوان أعلاه، لم يتشكل في الواقع حزب أو حركة إسلامية استطاعت تمثيل الإسلام السياسي بجناحيه، السني والشيعي، على رغم ان كل تلك الحركات لم تحصر من الناحية النظرية المسألة في جانبها المذهبي، لكن الواضح فيها أن التسمية الإسلامية بقيت عنواناً عريضاً لم يمنعها من اقتصار نشاطها على مناخ طائفي محدد وجدت فيه قاعدتها الأقرب. ومن هنا سنأخذ هذا الواقع في الإعتبار في تنويعات الحركة الإسلامية في العراق، اذ اقتسم ساحتها"السنية"تنظيمان رئيسان تفرعت عنهما لاحقاً مجموعات عدة، وهما: أ- جماعة الأخوان المسلمين: تأسست في بغداد عام 1946، ومنحت رخصة الإنشاء تحت اسم"جمعية الأخوة الإسلامية"بعد رفض الترخيص لها باسمها الأصلي. يعود تأسيسها الى الشيخ محمد محمود الصواف الذي تعرف أثناء دراسته في الأزهر الى الشيخ حسن البنا مؤسس"جماعة الاخوان المسلمين"في مصر، واتفق الرجلان على إنشاء فرع للحركة في العراق. وعلى رغم ولادتها في بغداد، الا انها نشطت بادئ الأمر في مدينة الموصل تحت قيادة الشيخ عبدالله النعمة، ومن هناك أخذت بتركيز ونشر قواعدها في بغداد وبعض المدن الأخرى كالبصرة وكركوك وسامراء وبعقوبة وتكريت والفلوجة والرمادي وغيرها، وتفرع عنها في ما بعد"الحزب الإسلامي العراقي"الذي يترأسه حالياً الدكتور محسن عبدالحميد. منح هذا الحزب رخصة العمل العلني عام 1960 ، ثم منع بعد عام واحد من تأسيسه تحت ضغط التيارات اليسارية والقومية التي كانت آنذاك في ذروة صعودها ومن ثم تناحرها. ومرّ الحزب الإسلامي بمراحل توسع وإنحسار وعمل سري حيناً وعلني حيناً آخر، لكنه بقي حزباً مهماً في الساحة العراقية له وجوده الملحوظ في المناطق ذات الغالبية السنية العربية، وأهم ما يميزه رفضه للعنف السياسي وايمانه بقيم الحرية والانفتاح وأن"الحكم ليس غاية في ذاته وإنما وسيلة لإقامة العدل وتحقيق مصالح العباد"كما ورد في بيانه. ب - حزب التحرير الإسلامي: تأسس هذا الحزب في القدس عام 1952 على يد الداعية الشيخ محمد النبهاني ووصلت أفكاره الى العراق من طريق عدد من الشباب الفلسطيني والأردني منتصف الخمسينات. رفض طلب الإجازة الذي تقدم به أيام عبد الكريم قاسم على رغم نشاطاته المعارضة للعهد الملكي وحلف بغداد وإعتقال الكثير من اعضائه وقتها. وقد حاول في بدايته نبذ الطائفية، وضم الكثير من الشيعة الى صفوفه، من اهم طروحاته السياسية طلب النصرة، وتغليب الديني على الوطني، والاعتماد على التثقيف الداخلي لفرز النخب القيادية. ومن القوى الحالية التي تحمل بعض ملامح هذا الحزب"هيئة علماء المسلمين"برئاسة الشيخ حارث الضاري التي أنشئت بعد الإحتلال الأميركي للعراق، وهي اليوم تحتل موقعاً بارزاً في المشهد العراقي بخاصة في ركنه العربي السني، وإن لم تطرح نفسها كحزب أو إمتداد لحزب سياسي. أما الوسط الشيعي فتتقاسمه في شكل رئيس ثلاثة تشكيلات سياسية هي على التوالي: أ - حزب الدعوة الإسلامية: تأسس في مدينة النجف عام 1957 على يد مجموعة من علماء الدين الشيعة على رأسهم السيد محمد باقر الصدر، وأعلن عن طبيعة حركته ب"نحن حركة في المجتمع وتنظيم في العمل، وفي كل الحالات نحن دعاة الإسلام، وعملنا دعوة الى الإسلام". لكن الحزب حدد أهدافاً سياسية ورسم طرقاً للوصول اليها تمثلت بتحقيق أربع مراحل تبدأ بمرحلة التهيئة والتحضير قبل الانتقال الى مرحلة الصدام المباشر ومن ثم استلام السلطة وتثبيت دعائمها للإنتقال من خلالها الى مرحلة القيادة والتطبيق. طرح الحزب برنامجاً تغييرياً شاملاً ووضع خططاً طموحة تقف وراءها قيادات شابة من أكثر من قطر عربي، وقد لعبت تلك القيادات في ما بعد أدواراً مهمة في بلدانها، كالمرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد عباس الموسوي الأمين العام ل"حزب الله"الذي إغتالته إسرائيل عام 1994 . بدأ حزب الدعوة نشاطه العلني اثر تسلم حزب البعث مقاليد السلطة في العراق عام 1968، واعدم مرجعه الروحي السيد محمد باقر الصدر عام 1980 بعد فتواه بحرمة الانتساب الى البعث. ويعتبر حزب الدعوة اليوم من القوى الرئيسة في الساحة العراقية الشيعية على رغم انقسامه الى أكثر من تيار. ومن ممثليه في السلطة الموقتة النائب الأول لرئيس الجمهورية الدكتور إبراهيم الجعفري. ب - المجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق: في السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 1982 وخلال مؤتمر صحافي عقده السيد محمد باقر الحكيم في طهران، أعلن تأسيس هيكيلية سياسية تحت اسم"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق"ضمت عدداً من الشخصيات والقوى الإسلامية. والحكيم من القيادات المؤسسة لحزب الدعوة، لكن تبنيه لمبدأ ولاية الفقيه دفعه لبناء تنظيم مستقل، ووضح ذلك في البند الأول من بيان التأسيس الذي جاء فيه"مواصلة الجهاد واقامة الحكم الإسلامي العادل الذي يضمن لكل عراقي حقوقه وكرامته بقيادة الولي الفقيه". والمعروف أن مبدأ الولاية هذا هو الركن الأساس للثورة الإيرانية. ويترأس رئيس المجلس السيد عبدالعزيز الحكيم قائمة"الإئتلاف العراقي الموحد"التي تحظى بدعم مرجعية السيد علي السيستاني، وهو ما يؤشر الى مقدار النفوذ الذي يتمتع به هذا التنظيم في الساحة الشيعية العراقية. ج - التيار الصدري: يعتبر هذا التيار الأحدث بينها والأكثر إثارة للجدل. فمرجعه الروحي الإمام محمد صادق الصدر الصدر الثاني، لم يكن معروفاً على نطاق واسع خارج الحوزة العلمية قياساً بغيره من المرجعيات الدينية، لكن اسمه بدأ بالصعود سريعاً منذ عام 1997 عندما أطلق حركة اجتماعية سلمية استقطبت أعداداً غفيرة من العراقيين. وغض نظام صدام حسين النظر عن تحركاته في البداية لامتصاص نقمة الشيعة، لكنه اغتيل بعد ذلك بعامين. وبعد الإحتلال الأميركي شكل نجله الأصغر السيد مقتدى الصدر"جيش المهدي"الذي انضوى في صفوفه الآلاف من الشباب الشيعة. وقد اعاد التيار الصدري تنظيم صفوفه وخاض مواجهتين مسلحتين مع القوات الأميركية. وينتشر أنصاره ومؤيدوه في المحافظات الجنوبية والوسطى من العراق وضاحيتي بغداد، الصدر والشعلة، ويعتبر من القوى التي يحسب حسابها في المعادلة السياسية. وعلى رغم انه يعلن انه لن يشارك في الانتخابات، يتوقع أن يصوّت معظم أنصاره لمصلحة"قائمة الائتلاف"التي تضم 27 مرشحاً من مؤيدي هذا التيار. ج - الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق: أعلن عن تأسيسه في مدينة قم في إيران عام 1990، وضم مجموعة من القوى والشخصيات السياسية التركمانية الشيعية. كان بعض قياداته ضمن حزب الدعوة، وعرف عن نفسه بأنه"جاء للدفاع عن مصالح التركمان وحقوقهم المشروعة والتمسك بالقضايا التي تمثل ثوابت للشعب التركماني ومنها قضية كركوك". ويمزج في طروحاته بين الفكر الإسلامي والأيديولوجية القومية. تقدم بالترشح للانتخابات ككيان مستقل، لكن ممثليه انضموا الى لائحة الأحزاب الشيعية. الأحزاب والتيارات القومية ينضوي تحت هذا العنوان عدد لا يحصى من القوى والتيارات العربية والكردية والتركمانية والكلدو آشورية. ففي الجانب العربي تمثلت الحركة القومية بهيكليتين رئيستين هما: حزب البعث والقوميون العرب بفروعهما المختلفة. أ - حزب البعث العربي الإشتراكي: نشأ هذا الحزب في سورية من إندماج حزبي البعث العربي والأشتراكي العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقلت أفكاره الى العراق أوائل الخمسينات بواسطة بعض الطلبة السوريين. كان من رواده الأوائل فؤاد الركابي وشفيق الكمالي وحمادي شهاب وغيرهم، وقيض لهذا الحزب أن يلعب الفصول الاكثر تأثيراً في تاريخ العراق المعاصر والتي ما زالت تتوالى حتى الساعة. وعلى رغم ان هيكله الرئيسي بات خارج العمل العلني منذ إطاحة نظام صدام حسين. الا أنه ما زال ناشطاً في الساحة العراقية بأكثر من شكل ووجه. وفي العراق عدد من الحركات والأحزاب، منها الحزب العربي الإشتراكي والوحدويون الإشتراكيون وحركة القوميين العرب وسواها، وقد توحدت في تنظيم واحد أيام حكم عبد السلام عارف، أطلق عليه"الإتحاد الإشتراكي العربي"، انشق عنه في ما بعد عدد من قياداته ليكونوا تنظيماً آخر سمي"الحركة الإشتراكية العربية"، ومنهم الدكتور خير الدين حسيب الذي يترأس اليوم"مركز دراسات الوحدة العربية"في بيروت. أما تنظيم"الحركة الإشتراكية العربية"في العراق، الذي تقدم للتسجيل في الانتخابات ككيان سياسي مستقل، فيتابع أموره زميله في المركز عبد الاله النصراوي. الحركة القومية الكردية وفي الجانب الكردي هناك حزبان رئيسان يستقطبان الكتلة الأكبر حجماً والأقوى تأثيراً في صفوف الأكراد، وتمتد جذور الحركة السياسية الكردية الى ما قبل الثورة الأولى التي أعلنها الشيخ محمود الحفيد ضد الانكليز عام 1919، ثم سلسلة الثورات المتعاقبة التي قادتها الأسرة البارزانية في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم من اجل انتزاع حقوق قومية ثابتة للأكراد بما فيها دولة كردية مستقلة. أما عن فكرة قيام حزب مركزي يجمع كلمة الأكراد ويوحد قوتهم فبدا التحضير لها منذ بدايات العام 1946، وفي آب اغسطس من العام نفسه عقد في بغداد المؤتمر التأسيسي الأول في حضور ممثلين عن حزبي رزكاري وشورش اللذين حلا نفسيهما للإندماج في كيان حزبي جديد أطلق عليه اسم"الحزب الديموقراطي الكردستاني". انتخب الملا مصطفى البرزاني رئيساً له، وما زالت اسرة البرزاني تتوارث رئاسة الحزب حتى اليوم. سيطر الحزب على الحياة السياسية الكردية الى حين إنهيار الثورة بعد إتفاقية الجزائر عام 1975 وتخلي الشاه عن دعم الأكراد، وانهارت معها تنظيمات الحزب، ليظهر على أثرها تنظيم آخر، منافس، بقيادة زعيم كردي نافذ هو جلال الطالباني. كان الطالباني رفض استسلام الحركة الكردية ووقف تحركها المسلح، وبعد اجتماعات ومشاورات بين جماعات كردية مختلفة أعلن في دمشق في 1975/05/22عن ولادة"الاتحاد الوطني الكردستاني"الذي سطع نجمه منذ ذلك الحين ليتقاسم النفوذ والسيطرة على المناطق الكردية جغرافياً وسياسياً مع مسعود البرزاني النجل الأصغر للملا مصطفى الذي حل محل أخيه أدريس في قيادة"الحزب الديموقراطي الكردستاني"الذي أعيد أحياؤه وتوسيعه. الحركة القومية التركمانية أعلن عن تأسيسها عام 1996 لتوحيد صفوف التركمان والحفاظ على هويتهم القومية وخصائصهم الثقافية واللغوية كما جاء في ديباجتهم، وهي تنشط في الوسط التركماني السني بوجه عام، لكنها تنسق مواقفها مع الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق. الأحزاب الكلدو آشورية: يمثل الكلدو آشوريون كتلة سكانية تقدر بما يزيد على اثنين في المئة من سكان العراق. وقد لعب عدد من رجالاتهم دوراً بارزاً في تأسيس وقيادة بعض الأحزاب العراقية المعروفة، مثل يوسف سلمان"فهد"مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وهو مسيحي كلداني، وطارق عزيز القيادي المعروف في حزب البعث ووزير خارجية العراق لأكثر من عقد. كذلك نشأت احزاب كلدو آشورية قومية إنطلاقاً من اعتبار أن الكلدان والآشوريين ينتمون الى قوميتين لهما خصائص ثقافية ولغوية وتاريخية عريقة، وبالتالي ينبغي الاعتراف بهما أسوة بالمكونات القومية الأخرى في العراق. ومن أحزابهم الناشطة اليوم الحركة الديموقراطية الآشورية بقيادة يونادم يوسف كنه، والحزب الديموقراطي المسيحي بقيادة ميناس إبراهيم حنا، والحزب الوطني الآشوري ويمثله سمرود بيتويوخنا وسواها، وقد تقدمت هذه الأحزاب للمشاركة في الانتخابات المقبلة بالتحالف مع قوى عراقية من مختلف التيارات. الحركات الماركسية على رغم تعدد الحركات والتيارات ذات التوجه الماركسي في العراق، الا ان تاريخها يمكن إدماجه بتاريخ الحزب الشيوعي العراقي الذي يعتبر التنظيم الأم بالنسبة الى هذه الحركات، تعود جذور الماركسية في العراق الى العام 1920 عندما خصص اجتماع"الكومنترن"، القيادة العالمية للحركة الشيوعية آنذاك، فقرات من ندائه لكادحي العراق. لكن الإعلان عن ولادة الحزب الشيوعي العراقي كان في1934/3/31 وقد كانت له مشاركة مهمة في معظم الأحداث المفصلية التي شهدها العراق عرف ذروة صعوده وانتشاره في فترة الخمسينات وبداية الستينات من القرن المنصرم. وكان له خمسة وزراء في أول حكومة جمهورية، منهم أول إمرأة في تاريخ العراق تتسلم منصباً وزارياً، ثم تعرض بعدها الى انشقاقات ونكسات أدت الى إنحسار كبير في حضوره السياسي والشعبي، تقدم للانتخابات بلائحة إئتلافية مع بعض القوى الوطنية والديموقراطية من خارج الأطر الثلاث المذكورة آنفاً. أما التيارات الليبرالية، فيمثلها عدد كبير من الأحزاب والحركات في مقدمها تجمع الديموقراطيين المستقلين برئاسة الدكتور عدنان الباجه جي والحزب الوطني الديموقراطي برئاسة نصير الجادرجي، وهما شخصيتان معروفتان بتاريخهما السياسي. كذلك الحركة الملكية الدستورية بقيادة الشريف علي بن الحسين، وحركة الوفاق الوطني بقيادة رئيس الوزراء الموقت أياد علاوي وغيرها، لكن الملاحظ ان هذه القوى والتيارات هي أقرب الى ان تكون نخبوية منها الى حركات لها حضور شعبي مؤثر، وقد يعود هذا الى حال الاستقطاب الحادة التي يشهدها المجتمع العراقي على اسس طائفية أو إثنية واضحة تجعل من محاولات تجاوز هذا الواقع عملية أكثر صعوبة في وجه الدعوات التي تحاول طرح رؤيتها السياسية في اتجاه مغاير. في العراق اليوم أكثر من 170 تنظيماً سياسياً، بعضها تاريخي عريق وبعضها ولد في المنافي أو بعد سقوط النظام السابق. هذا الغنى والتنوع الذي عرفه العراق منذ ما يقرب من تسعة عقود خلق معادلة غريبة من نوعها تتمثل في جمهور مسيس يفتقر الى فكر سياسي. وبعد التجارب المريرة التي شهدها العراق ولا يزال، تطرح مجموعة من التساؤلات حول قدرة هذه القوى والأحزاب على بناء عراق جديد من دون إعادة تقويم جذرية لكل المناهج الفكرية والسياسية التي اعتمدتها في علاقاتها الداخلية التي لم تترسخ فيها تقاليد حقيقية للممارسة الديموقراطية. كاتب عراقي.