على رغم تفاؤل كثير من السياسيين إلا أن المشهد العام في مصر يبدو غامضاً ومثيراً للقلق، ومشرّعاً أمام احتمالات كثيرة بعضها يقترب من الفوضى أو إعادة إنتاج نظام مبارك بعد تعديله، أما احتمال التحول الديموقراطي والسير نحو العدالة الاجتماعية فقد بدا ضعيفاً وغريباً في وسط نخبة منقسمة ومتصارعة وثقافة مجتمعية تقاوم الديموقراطية وقيم التعددية والتسامح، واستمرار موجات الثورة من خلال طاقة ثورية لجماهير غير منظمة. باختصار نحن أمام واحدة من أغرب المراحل الانتقالية نحو الديموقراطية وأكثرها تعثراً، وما يضاعف من غرابتها أنها جاءت بعد ثورة سلمية عظيمة. ومظاهر التعثر كثيرة فلا حوار حقيقياً بين النخبة، ولا اتفاق حول خريطة طريق، إنما هناك انقسام وصراع بين النخبة يتخذ طابعاً دورياً محيراً، وانفراد من المجلس العسكري باتخاذ القرار، ومع ذلك هو لا يرغب ولا يستطيع - نتيجة عوامل داخلية وخارجية - أن يستمر في الحكم، أو أن يواصل الانفراد باتخاذ القرار، فالقوى التي فجرت الثورة – ائتلافات شباب الثورة والأحزاب القديمة والجديدة والإخوان والسلفيون – قادرة حتى الآن وعلى رغم انقساماتها الفكرية والسياسية على حشد المليونيات والضغط على المجلس العسكري الذي يستجيب بقدر محدود ومحسوب، وبما لا يضعه في صدام مع قوى الثورة المضادة التي بدأت تستعيد مقداراً كبيراً من قدرتها عل الفعل السياسي والإعلامي، والأهم الحضور القوي في الدوائر الانتخابية خصوصاً في الريف. المجلس العسكري إذاً، ليس مطلق الصلاحيات أو يستطيع فعل أي شيء كما يصوره خطاب شباب الثورة، فهو محاصر بين: أولاً مطالب الثوار واندفاعاتهم المشروعة، وثانياً: ضغوط قوى الثورة المضادة، وسيطرتهم على مفاصل الدولة والنشاط الاقتصادي، وثالثاً: التحفظ التقليدي لرجال الجيش بحكم التكوين ونقص الخبرة السياسية وتقدم أعمار أعضاء المجلس العسكري، ورابعاً: استحقاقات إدارة الدولة في ظل انفلات أمني وانفلات في المطالب الفئوية، وقد نجم ذلك عن بؤس الأوضاع المعيشية لغالبية المصريين، وانهيار منظومة الدولة الأمنية الاستبدادية، وكسر المصريين ثقافة الخوف، واكتسابهم ثقافة الاحتجاج والرفض. وهي أمور ليست جديدة تماماً فقد بلغ عدد الاحتجاجات والاعتصامات الفئوية نحو 530 خلال 2010. الضغوط والاعتبارات السابقة تجعل المجلس العسكري في تقديري غير قادر على حسم خياراته تماماً، خصوصاً أنه لم يمتلك رؤية واضحة لإدارة الدولة في المرحلة الانتقالية أو أهدافها، كما أن هذه المهام كما هو معروف فرضت عليه من دون استعداد مسبق، من هنا نجح في حماية الثورة من دون أن يدرك الاستحقاقات المترتبة على فعل الثورة، وبالتالي لم يميز بين الحفاظ على الدولة والحفاظ على النظام، حيث ساوى بينهما في المعنى والوظيفة، ومن ثم حاول الحفاظ على استمرار النظام مع تحقيق مقدار من الإصلاح والتجديد يطاول رؤوس النظام ورموزه من دون تغيير حقيقي يطاول بنية النظام ومؤسساته وأفكاره بل غالبية نخبته. في هذا الإطار اعتقد المجلس أن نقل السلطة إلى مجلس منتخب وحكومة مدنية عملية سهلة تستغرق ستة أشهر - لم يلتزم بهذه المهلة - كما التقط المجلس العسكري حقيقة السيولة الشديدة والتنوع الفكري والسياسي في تكوين قوى الثورة والضعف التنظيمي الذي تعاني منه ائتلافات الثورة والأحزاب القديمة والجديدة، وبالتالي راهن على الإخوان والجماعات السلفية باعتبارهم كيانات منظمة ومحافظة فكرياً وسياسياً يمكن التفاهم معها لاحتواء مخاطر المليونيات والفوضى الأمنية وتحقيق الاستقرار، والأهم خوض الانتخابات، فجماعات الإسلام السياسي تمتلك خبرة انتخابية وحضوراً في الشارع يتجاوز الحضور الموقت والهادر لشباب الثورة الذي يصعب ضمان تحقيقه في الدوائر الانتخابية، التي تخضع لحسابات معقدة من المصالح والتحالفات والعلاقات الأسرية والجهوية. هذه الحسابات تتجاوز قدرة ائتلافات شباب الثورة وإمكاناتهم المادية وخطابهم المثالي. جماعة الإخوان والسلفيين رحبت بالتفاهم غير المعلن مع المجلس العسكري فقد اكتسبت للمرة الأولى في تاريخها اعترافاً رسمياً وحضوراً إعلامياً لافتاً، وقدرت أن إجراء انتخابات سريعة وخلال ستة أشهر سيمكنها من تحقيق فوز كبير في أول برلمان بعد الثورة سيقوم بمهمة وضع دستور جديد، وقد أثار هذا السيناريو قلق الأحزاب والقوى المدنية – وربما المجلس العسكري أيضاً - ثم برز أخيراً خلاف عميق حول قانون انتخاب مجلسي الشعب والشورى، هل يعتمد القوائم النسبية فقط أم القوائم مع النظام الفردي. والمفارقة أن معظم الأحزاب القديمة والجديدة وجماعة الإخوان والسلفيين طالبوا بنظام القوائم، بينما أصر المجلس العسكري على أن يكون ثلث المقاعد بالنظام الفردي والثلثان بالقوائم مع مراعاة أن لا تقل نسبة العمال والفلاحين عن خمسين في المئة من مقاعد البرلمان، وألا تنافس الأحزاب المستقلين في الدوائر الفردية، وألا يحق للنائب المستقل الانضمام إلى كتلة حزبية. كما أصر المجلس على عدم تفعيل قانون الغدر، وحرمان رموز وقيادات الحزب الوطني ونوابه من العمل السياسي لعدد من السنوات، على رغم أنه إجراء معروف وجرى تطبيقه في كثير من تجارب التحول الديموقراطي في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية. ويبرر المجلس موقفه بصعوبات في تطبيق قانون الغدر وبمزايا الدوائر الفردية وعدم دستورية إجبار المستقلين على خوض الانتخابات في قوائم، فضلاً عن تحقيق العدالة بين الأحزاب والمستقلين. لكن، أعتقد أن السبب الحقيقي هو تخوف المجلس من حصول الإخوان والسلفيين على أغلبية أو نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان، في حال حرمان قيادات الحزب الوطني ونوابه السابقين من خوض الانتخابات لأن هؤلاء، بما لديهم من علاقات أسرية ونفوذ جهوي وقدرات مالية وخبرات انتخابية، قادرون على حفظ الاستقرار وعلاقات القوى – غير العادلة أصلاً – في الريف والفوز في أية انتخابات نزيهة أو غير نزيهة. ويلاحظ أن المجلس يرفض الرقابة الدولية في الانتخابات المقبلة، ويرفض أيضاً منح المصريين في الخارج حق التصويت. أعتقد أن حسابات المجلس العسكري تقوم علي ضرورة موازنة الثقل الانتخابي للإخوان والسلفيين من خلال قوة نواب ورموز نظام مبارك وخبرتهم – وكثير منهم رجال أعمال – لأن القوى المدنية، سواء من الأحزاب القديمة والجديدة وائتلافات الثورة، لن يكون في وسعها موازنة الثقل الانتخابي للإخوان والسلفيين، ووفق كل التقديرات فإن اعتماد نظام القوائم النسبية فقط أو حرمان نواب نظام مبارك ورموزه من خوض الانتخابات سيحسن وضع القوى المدنية لكن لن يضمن لها الغالبية بل يضاعف من مكاسب الإخوان والسلفيين. لأن الأحزاب الجديدة وائتلافات الثورة اكتسبت مهارات الحشد من أجل الاحتجاج والثورة، والظهور الإعلامي، لكنها تعجز بحكم ضيق الوقت وضعف الإمكانات والخبرات عن اكتساب مهارات وآليات تحريك الكتلة الصامتة وإقناعها بالتصويت لمرشحيها. السيناريو الأقرب هو أن الانتخابات المقبلة ستعيد فلول الحزب الوطني، وفق التعبير الشهير، إلى واجهة الأحداث وتضمن لهم غالبية مقاعد برلمان الثورة! بينما يحصل الإخوان والسلفيون على ربع أو ثلث المقاعد، ما يجنب مصر تعقيدات سيناريو حصول الإخوان والسلفيين على غالبية برلمان الثورة المكلف وضع الدستور الجديد، ويفتح في الوقت نفسه إمكانية دمج الإسلاميين في الحياة السياسية. وتجدر الإشارة إلى حيوية وفاعلية تحركات نواب نظام مبارك ورموزه في الأشهر الأخيرة التي تراجعت فيها حدة المليونيات وانقسمت فيها قوى الثورة، فقد شكلوا من خمسة إلى ثمانية أحزاب جديدة وفق بعض التقديرات، وبالطبع طرحت هذه الأحزاب برامج وشعارات مؤيدة للثورة، وهناك جهود للدمج بين هذه الأحزاب أو للتنسيق بينها لخوض الانتخابات، أي أن الحزب الوطني توزعت عناصره وقواه على أحزاب عدة. كذلك الحال بالنسبة إلى بعض الرموز الإعلامية التي ارتبطت بالنظام السابق وأبعدوا من تلفزيون الدولة فتوزعوا على عدد من القنوات الخاصة الجديدة. حيوية وفاعلية تحركات الفلول يوازيهما تشتت وانقسامات في صفوف الأحزاب القديمة والجديدة، علاوة على ائتلافات شباب الثورة. لكن رفض معظم الأحزاب والإخوان والسلفيين – 43 حزباً - قانون الانتخاب، وتهديدهم بعدم المشاركة قد يؤخر إجراء الانتخابات نفسها، أضف إلى وجود دعوات قوية لتنظيم مليونية استرداد الثورة يوم الجمعة المقبل، ويعكس اسم المليونية عدم رضا قطاعات واسعة من شباب الثورة عن مسار الأحداث، وقد أثبتت المليونيات وكذلك الاحتجاجات والإضرابات الفئوية قدرتها على تغيير مسار الأحداث والحصول على مكاسب لمصلحة الثورة. والمفارقة أن أغلب المليونيات والإضرابات تنظم بعيداً من الأحزاب وجماعة الإخوان، وتمثل قوة ضغط هائلة على المجلس العسكري والحكومة والأحزاب، ما يدفع الأحزاب إلى اللحاق بهذه التحركات أو تأييدها وتبني بعض مطالبها، وبالتالي زيادة الضغوط على المجلس الذي يضطر إلى تلبية بعض المطالب. الخلاصة، إن استمرار التحركات الثورية في الشارع والاعتصامات والإضرابات يخلق توتراً وقلقاً يؤثر بالسلب في الخطوات الإجرائية في المرحلة الانتقالية، ويؤكد تعثرها وغرابتها حيث تتعايش موجات الثورة مع عملية بناء أحزاب جديدة وإجراء انتخابات، مع سيطرة المجلس العسكري على الحكم وغياب حوار مؤسسي مع الأحزاب وفاعليات المجتمع المدني، وعدم وجود جدول زمني وخريطة طريق واضحة لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة. أي أننا إزاء مرحلة انتقالية لا يوجد حوار أو اتفاق بين أطرافها على الجوانب الإجرائية أو التوقيتات الخاصة بها. وفي ظل هذه الأوضاع برز ما يمكن وصفه بدورية الانقسام والاستقطاب بين النخبة السياسية حول قضايا مهمة، بدأت بطبيعة الدولة وعلاقتها بالإسلام، ثم أولوية إصدار دستور جديد أم إجراء انتخابات، ثم البحث في إمكانية إعلان دستوري. وعندما فشلت النخبة في حسم هذه القضايا جرى التوافق غير المعلن على تأجيلها، أي حدث نوع من القفز عليها لئلا يحدث مزيد من الصدام، والانقسام. ويمثل الخلاف على قانون الانتخاب أحدث مظاهر الاستقطاب والصراع فهل سيتم حله بالحوار أم بضغط تحركات الشارع وشباب الثورة في ما يعرف بالمليونيات – سلاح الثورة المصرية – أم سيتم تأجيله كالعادة. أعتقد أن لا مجال للتأجيل، ولا بديل عن إصلاح مسار المرحلة الانتقالية. * كاتب مصري