كرّس الباحث الايطالي تيندارو غاتاني Tindaro Gatani، المقيم في زوريخ وصاحب فكرة إعادة نشر خريطة الإدريسي التي تعد أول خريطة للعالم، عقدين من الزمن لدراسة أعمال الادريسي بسبب هذه الخريطة. وهو أيضاً صقلي المولد والنشأة، والمعروف ان الأدريسي عاش وعمل في صقلية. وفكرته لاعادة نشر هذه الخريطة وتقديمها في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب سنة 2004 هي فكرة رائعة، لأنه يريد بهذا ان يشير الى فضل العرب على الحضارة الانسانية من خلال ما قدمه الادريسي من معارف جديدة في القرن الثاني عشر، كان من شأنها تطوير ما تعرفه أوروبا عن العالم في ذلك الوقت. القرون الوسطى المظلمة في أوروبا تمثلت في نوعية المعارف الجغرافية لدى الأوروبيين. فأوروبا في ذلك الوقت كانت صورتها عن العالم تحكمها مجموعة أساطير وهمية وتصورات دينية فرضتها الكنيسة على المجتمع. ونظراً الى ضياع تراث اليونان الجغرافي، فقد حُرمت أوروبا من معارف الأوائل. وظلت آراء آباء الكنيسة الرافضة لكروية الأرض مسيطرة على العقول في القرون الوسطى. ويعد الادريسي أعظم جغرافي ظهر في القرون الوسطى. عاش وعمل في صقلية. وبعد أن درس في قرطبة بدأ رحلته في اسبانيا والبرتغال، ثم زار افريقيا وآسيا الصغرى. وفي سنة 1138م بدأ العمل لحساب روجر الثاني، ملك صقلية. وفي مدينة باليرمو، أو بالرم، نشر الادريسي أول خريطة للعالم، مصحوبة برحلته التي سماها "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وصف فيها البلدان التي زارها. وقضى الادريسي أكثر من 15 عاماً من أجل انجاز هذه الخريطة. وصحح كثيراً من المعارف الجغرافية السائدة في عصره. وقدم معلومات قائمة على المعايشة والملاحظة، واضعاً بذلك أساس علم الجغرافيا الحديث. وترجمت رحلة الادريسي هذه كاملة الى اللغة الفرنسية فقط، بينما هناك ترجمات جزئية منها في شتى لغات العالم. ولعل سبب ذلك يعود الى ضخامة العمل، فكأن كل باحث غربي أراد القاء الضوء على ملاحظات الادريسي حول موضوع أو بلد أو مدينة معينة فحسب من دون معالجة الرحلة بكاملها نظراً الى طولها ودقة تفاصيلها. في كتابه الشهير "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" ج1، ص 280 يقول كراتشكوفسكي عن الادريسي: "أجداد الادريسي المباشرون، كانوا أمراء صغاراً في مالقة Malaga. وهم أيضاً لم يستطيعوا الاحتفاظ طويلاً بسلطانهم، فاضطروا الى الرجوع الى سبتة في القرن الحادي عشر، وهناك فيما يبدو ولد الادريسي العام 493 ه/ 1100م. ويلوح أن صلة الأسرة بالأندلس لم تنفصم. فالادريسي تلقى العلم في قرطبة التي يعرفها معرفة جيدة. فالوصف الشامل الذي أفرده لها في كتابه يحمل آثار المعرفة المباشرة بالمدينة. وفي عام 510 ه / 1116م، وهو لما يتجاوز السادسة عشرة من عمره - زار آسيا الصغرى. وهذا ما أمكن استنتاجه بالتحديد في شأن رحلاته. والظاهر انه لم ير بقية افريقيا وآسيا. وفي عام 1138 م عبر البحر في ظروف يشوبها الغموض الى جزيرة صقلية، حيث كان يوجد بلاط روجر الثاني في بالرمو. وظل الادريسي وثيق الصلة بروجر الى وفاة الأخير في شباط فبراير من عام 560 ه/ 1160م. ثم مرّت عليه وهو في صقلية لحظات قلقة في عهد خليفة روجر ولكنه رجع في أيام شيخوخته في ما يبدو الى مسقط رأسه سبتة، وتوفي فيها في عام 560 ه/ 1160م على أرجح الأقوال". صمم الادريسي خريطته على الطريقة العربية في ذلك الوقت، حيث بدأ بالجنوب في أعلى الخريطة، ثم انتقل الى الشمال في أسفلها، وهذا يعني ان خريطته ينبغي أن تقرأ بالمقلوب. تتكون مخطوطة الخريطة من 70 ورقة 33 × 21 سم تصل الى نحو 5 أمتار مربعة. وقام العالم الألماني كونراد ميلر بنشر نسخة ملونة منها سنة 1928، بعد أن بذل مجهوداً خارقاً من أجل تجميع أجزائها المختلفة، وترجمة الأسماء العربية الى الألمانية. إن مشروع اعادة نشر خريطة الادريسي مع نص ميلر، وعرضها في معرض فرانكفورت للكتاب أثناء استضافة العالم العربي كضيف شرف، هو اشارة قوية الى اسهامات العرب والمسلمين في تطوير المعارف الانسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى يرمز الى وحدة الثقافات وتعاونها وليس صراعها وتطاحنها، وما أحوجنا اليوم الى مثل هذه المشروعات التي تشدد على وحدة الحضارة الانسانية لمواجهة مروجي نظرية صراع الحضارات. وهناك اتصالات مع السياسي الصقلي كفارو، عمدة مدينة بالرمو، من أجل مشاركة المدينة في دعم هذا المشروع. كما أن السفارة الايطالية في برن تتابع باهتمام هذا المشروع وتنوي دعمه، خصوصاً ان صاحب المشروع غاتاني ينشر دراساته في مجلة "الغرفة التجارية السويسرية - الايطالية".