بعد النجاح الكبير الذي حققه المخرج الأميركي الهندي الأصل م. نايت شايامالان في أفلامه السابقة "الحاسة السادسة" 1999، و"غير قابل للكسر" 2000، و"إشارات" 2002، يطل علينا بتحفته السينمائية الجديدة التي سماها بعد اختيارات عصية "القرية" لأكثر من سبب. فالعنوان الأصلي الذي وضعه للقصة السينمائية هو "الغابات"، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه التسمية التي توحي بتلك الكائنات الغريبة، والوحوش الضارية، بينما تستثني سكان القرية الذين يتعرضون إلى خوف مستمر، وقلق متواصل لا يستقر عند حد معين. كما أراد من خلال هذه التسمية أن يشيح بوجهه عن مصادر الإلهام التي هيأت له فرصة كتابة هذا النص السينمائي المتميز الذي يذكّرنا بأجواء "مرتفعات وذرينغ" لإميلي برونتي، وعوالم "كنغ كونغ" لماريان سي كوبر. ويبدو أن مؤلف النص ومخرجه شايامالان أراد أن يكتب نصاً عائماً لا يتأطر بسقف زمني محدد، غير أن شاهدة القبر التي نراها في مفتتح الفيلم في أثناء مراسم دفن "أوغست نيكلسون" تكشف اللعبة الزمنية، فنعرف أن الأحداث تدور عام 1897 في قرية نائية، معزولة تُدعى كوفنغتن "Covington". وقد اختار لها، بما ينسجم مع طبيعة الحدث، أناساً ينتمون إلى "طائفة آميش" وهي طائفة دينية بروتستانتية متشددة تعيش في شكل رئيس في منطقتي بنسلفانيا وأوهايو الأميركيتين. وفي هذه القرية تحديداً يعيش السكّان حياة قدرية تتجلى فيها الأساطير، وتنتعش فيها الخرافات المُستمدة من أعماق الميثولوجيا الأميركية. وقصة الفيلم مبنية بناءً درامياً محبوكاً يقترب كثيراً من النفس الكلاسيكي، وتنطوي على خوف ورعب كبيرين خلافاً لما يتصور الكثير من النقاد من أنها قصة تفتقر الى نية الرعب المتعارف عليها فنياً. فالفيلم يمزج بين الرعب الطبيعي والاصطناعي. غياب المفاجأة ليس ضرورياً أن تكون هناك مفاجأة أو عقدة تنتظر الحل لكي تكون القصة السينمائية ناجحة. فالبنية الأفقية قد تنطوي على كثير من التشويق والإثارة أيضاً إذا تعامل معها المخرج بعين فنية قادرة على إزالة الحواجز بين الأحداث الواقعية، والأحداث المتخيلة التي تمثّلتها السينما أو أعادت صوغها وفق منظور فني ينطوي على محمولات ودلالات رمزية. في فيلم "القرية" ثمة اتفاق "قلق" بين سكان القرية والكائنات الغريبة التي تعيش في وسط الغابات المحيطة، والتي يطلقون عليها تسمية: "أولئك الذين لا نسمّيهم". فليس من حق سكان القرية أن يلجوا حدود الغابة، وليس من حق الكائنات الغريبة أن تقتحم القرية إلا إذا نُقض هذا الاتفاق من أحد الطرفين. وقد اتخذ سكان القرية من اللون الأصفر رمزاً لهم، وهم يعتبرونه مبعث أمن وطمأنينة، وهم يتطيرون من اللون الأحمر ويعدونه مصدر شؤم وخوف وتهديد، لذلك ما إن يرى أحدهم وردة حمراء، يقطفها ويدفنها. أما الكائنات الضارية فإنها تستخدم اللون الأحمر للوعيد والتهديد إذا تجرأ فرد من أفراد القرية على خرق الاتفاق وولوج الغابة لأي سبب من الأسباب. بعض النقاد لم ينتبهوا إلى التطور الهائل الذي حدث لثلاث شخصيات يرتكز عليها الفيلم تماماً، وهي بمثابة المثلث المتشابه الأضلاع، وهذه الشخصيات هي: "لوشيّس هانت" التي جسدّها الفنان جواكوين فونيكس و"إيفي ووكر" التي أدتها الفنانة برايس دالاس هاوارد، ومعتوه القرية "نواه بيرسي" التي برع فيها الفنان أدريان برودي. وهؤلاء الثلاثة يمثلون الجيل الجديد الذي لا يؤمن بأفكار الجيل القديم المتمثل ب"أعيان القرية" الذين يخشون نقض هذا الاتفاق وما سينجم عنه من كوارث قد تؤرّق حياتهم، وتهدّد وجودهم. قراءة سياسية وعلى رغم إمكان تأويل هذا الفيلم سياسياً، أو قراءته من وجهة نظر أسطورية، يبدو من الأفضل متابعته من وجهة نظر سردية تظهر عناصر النجاح الفني بامتياز. تبدأ عقدة الفيلم، أو ذروته منذ اللحظة التي يتم فيها خرق الاتفاق من جانب سكان القرية، وليس من الوحوش الضارية. الخرق الأول كان وراءه المعتوه "نواه بيرسي" عندما جلب حبّات العلّيق الحمر، ثم أخفاها في باطن يده بعد أن حذّره لوشيّس من مغبة إغضاب "أولئك الذين لا نسمّيهم". والمرة الثانية حينما أقدم لوشيّس نفسه على ولوج الغابة للتأكد من رد فعل الكائنات الغريبة. في المرة الأولى نشاهد خروفاً سُلخ وهو حي حتى فارق الحياة مُلقىً عند مشارف القرية. وفي المرة الثانية نشاهد طلاءً أحمر لُطخت به بعض أبواب المنازل الريفية وجدرانها. وفي مرات أخرى نسمع أصواتاً غريبة تنطلق من حافات الغابة، وتفسد على سكان القرية أفراحهم. وحينما يموت الطفل الصغير بسبب انعدام الدواء، يقرر لوشيّس أن ينتهك الاتفاق ويذهب لجلب الدواء من المدينة الكائنة خلف الغابات، بل انه يقوم بخطوة جريئة، ويخبرهم من خلال رسالة خطية أنه هو الشخص الذي خرق الاتفاق وولج الغابة لمعرفة ردود أفعال الكائنات الغريبة. هنا تنشأ علاقة حب وطيدة بينه، وهو الشاب الطموح، العنيد، الغارق في تأملاته، وبين إيفي ووكر، الشابة العمياء التي ترى من خلال بصيرتها، وذهنها المتوقد، غير أن طرفاً ثالثاً يشترك في هذا الحب، وهو المجنون نواه بيرسي الذي يكتشف من خلال حدسه أنه ناءٍ وبعيد عن قلب إيفي الذي تعلّق بلوشيّس، وأخلص له، لذلك يقْدم على طعن غريمه لوشيّس، الأمر الذي يُجبر حبيبته العمياء على أن تغامر بعبور الغابة المسكونة بالكائنات الغريبة كي تجلب دواءً للوشيّس علّه يشفى من غلغلة الطعنات الغائرة في بطنه. وحينما تنجح في الحصول على الدواء من المدينة تعود مسرعة لكنها تكتشف أن حبيبها فارق الحياة. الكثير من النقاد لم يروا عنصر المفاجأة متجسداً في هذه القصة السينمائية، وقالوا إن شايامالان لا يزال متأثراً بهتشكوك، ولم يتخلص بعد من سطوة سبيلبيرغ، وأن الفيلم يشكّل تراجعاً حقيقياً عن أفلامه الثلاثة السابقة: "الحاسة السادسة"، و"غير قابل للكسر"، و"إشارات". بناء أفقي المشكلة في هذا الفيلم أنه يعتمد على البناء الأفقي في تطور الأحداث، وهذا يعني أنه يفتقر إلى البنية التصاعدية التي يمكنها أن تصل في نهاية الأمر إلى الذروة أو المفاجأة أو الصدمة أو حل اللغز، وهو "المخرج" الذي عوّدهم سابقاً على مثل هذه المفاجآت، بل أنه أصبح الكاتب الأعلى أجراً في هوليوود كلها بسبب هذه النهايات الصادمة والمرعبة. بعض النقاد والمحللين أكد أن الفيلم فيه رعب، ولكنه لا يصل إلى مرحلة بث الهلع في نفوس المشاهدين. وبعضهم الآخر لم يقتنع بظهور الكائنات الغريبة التي تقترب في مظهرها الخارجي من الهيئة البشرية الموشاة ببعض الأنياب والجدائل والملامح المخيفة. وعلى رغم النجاح المذهل الذي حققه الفيلم، إلا أن بعض محبي شايامالان اعتبروا أن مشاهدته كانت بمثابة هدرٍ للوقت، وتبديد للنقود، وذهب بعضهم الى أبعد من ذلك حينما طالب بتعويضات مادية عن ثمن التذاكر التي اشتراها "تحت تأثير الدعاية التضليلية" للفيلم.