ألوان الخريف تنتشر امامك على دروب جبال اسكتلندا الغربية. مروج نبات الخَلَنج Heather تمتزج بغابات البلوط المنحدرة من المرتفعات باتجاه البحيرات الباردة في الأودية. أشجار يتغيّر لون أوراقها من الأصفر الى الأحمر البرتقالي مع انعكاس أشعة الشمس ساعة الغروب على منظر فريد تلفه رياح خريفية باردة... هذا هو المشهد الذي تراه من هضبة "كونيك" في بداية الطريق الوعرة التي تربط شمال غلاسكو، كبرى مدن اسكتلندا، بمدينة فورت وليامز الصغيرة في اقصى شمال الجزر البريطانية حيث تنعدم السياحة، حسب المفهوم التجاري. إذ ان الشمس بالكاد تظهر هنا، وإن ظهرت فان الطقس يبقى بارداً جداً، حتى في عز ايام الحر في الجنوب. وسبب البرد المستمر انتشار مسطحات الماء الشهيرة المعروفة باسم لوخ loch حسب اللغة الاسكتلندية في معظم الاودية، تربطها اقنية مائية فوق الارض وتحتها فتبدو كتل الارض حولك وكأنها جزر صغيرة تكسوها الجبال، وليس مناطق جبلية تخترقها البحيرات. الطبيعة هنا قاسية في فصل الشتاء. فالمطر المنهمر، رذاذاً او بغزارة، يسود الموقف. ونادراً ما تشهد المنطقة طقساً جافاً مشمساً يستمر لأكثر من يوم كامل. فتضاريس اسكتلندا تتسع جنوباً وتتقلص كلما تحركت شمالاً وترتفع جبالها الى آلاف الامتار. اما الرياح فمصدرها المحيط الاطلسي من الغرب، وبحر الشمال من الشرق، ناهيك عن رياح القطب الشمالي المتجهة جنوباً: مزيج ٌ فتاك من الهواء البارد والبحيرات والجبال الشاهقة وكتل الضباب العائم والضوء الخافت يميّز هذه المنطقة من اسكتلندا. تضاريس الأرض الوعرة بطبيعتها القاسية جذبت السكان لقرون خلت، وها هي اليوم تجذبهم اليها كالمغناطيس لممارسة رياضة المشي التي تحولت الى ولع وشغف بالطبيعة بحد ذاتها! والمشي هنا ليس لمئات الأمتار للتنزه، إنما لمسافة مئة واثنين وخمسين كيلومتراً في اودية وسهول وعلى ضفاف بحيرات تأخذ الزائر الى عالم سحري. وتستغرق رحلة المشي هذه ما بين ستة او سبعة ايام من السير الجاد لمدة تتراوح بين تسع ساعات واثنتي عشرة ساعة يومياً. الأمر يبدو صعباً للغاية او مستحيلاً بالنسبة الى كثيرين لأنه يتطلب لياقة بدنية وقدرة على تحمل الصعاب الجسدية التي تصل احياناً الى حد العذاب وهذا دفع بعض الوافدين الجدد للسير على هضاب اسكتلندا الغربية الى التذمر والقول بسخرية إن الرحلة هي تدريب مكثف لكوماندوس محتملين! لكن الحقيقة تناقض ذلك إذ ان جمال المنطقة الفريد يُنسيك اي تعب او ارهاق ويدفعك الى المثابرة. فالمناظر حولك تتغير وتتحول الى لوحات دراماتيكية تنقلك الى عالم آخر اشبه بمشاهد طبيعية خلابة من عالم ثلاثي الأبعاد غير حقيقي، وانت تقف في وسطه. فالعزلة تامة هنا، وبالكاد تصادف اي قروي او راعٍ على الدروب. لا ترى سوى مجموعات من السائرين المهتمين بهذه الرياضة والمهتمين باكتشاف مناطق نائية لم تمسها يد العمران. تراهم ينتشرون بالمئات على الطرقات التي شقتها الأقدام على مر العصور، تحلق فوقهم طيور مهاجرة تتجه جنوباً. الانطلاق من ضاحية ميلغاي في شمال غلاسكو حيث الأرض المنبسطة تتحول الى مرتفعات خضراء تدريجياً ثم هضاب تحيط بك من الجهات الأربع. قرية واحدة او اثنتان بعد عشر ساعات مشي حيث تمضي الليل في بيت إحدى العائلات التي حوّلت بعض غرف منازلها لاستضافة محبي المشي مقابل مبلغ مقبول، تحصل بموجبه على وجبة افطار ايضاً. اليوم الثاني ينقلك نزولاً الى مناطق تقع تحت مستوى سطح البحيرات وتنتشر فيها المزارع . هنا تتغير انواع النباتات والازهار وتفاجئك حيوانات الآيل التي ترعى في المروج... اما اليوم الثالث فهو أطول ايام الرحلة اذ عليك السير لمدة اثنتي عشرة ساعة بسرعة معتدلة فوق هضاب تلفها الرياح، مروراً بسهول خصبة يخترقها خط مهجور لسكة الحديد. نهاية الطريق التي شقتها الاقدام على مدى قرون من الزمن تصل بك الى فندق معزول وحيد يسمى "كينغز هاوس" Kingshouse حيث كان امراء العائلة الملكة يمضون الليل اثناء رحلات الصيد. ومنه يتراءى لك جبل "بن لوموند" الشاهق بقمته التي تكللها بقايا ثلوج الشتاء الماضي وتلفها سحب منخفضة. الارض تزداد وعورة في اليوم الرابع: إذ عليك ان تتسلق ما هو معروف ب"درج الشيطان" او الهضبة التي ترتفع الى علو خمسمئة وخمسين متراً بزاوية حادة وطرق متعرجة شديدة الانحدار تكسوها نباتات شوكية وحجارة تتدحرج عليك بين الفينة الاخرى كلما تخطاك أحدهم . السير صعوداً يجعل اي متسلق يلهث بشدة مع وصوله الى المئة متر الأولى... فكيف تصل الى قمة الهضبة؟ مجموعات تجلس هنا وهناك تحتسي القهوة او الشاي وتشجع "مجندي المشي" ممن ينوون الوصول الى القمة... كثيرون يتراجعون ويعودون ادراجهم الى طريق صغير، ينتظرون الحافلة التي تمر ثلاث مرات يومياً لتنقلهم الى نقطة الاستراحة المقبلة. شعور بالانجاز ينتابك مع تصببك بالعرق عند الوصول الى القمة حيث عليك ان تفكر بالهبوط. لكن النزلة مريحة على رغم رذاذ المطر. وتهبط الى مسافة مئتي وخمسين متراً فقط بين حقول التفاح حيث تصل الى بلدة تيندرام... وتتعايش انقاض منازل وأديرة ومزارع مع النياتات البرية التي تكسو بقايا الجدران، وتشير الى ان الجنس البشري تحمل قساوة العوامل وتأقلم معها في السابق على هذه الهضاب الوعرة... كما ان قطعان البقر الوحشي الاسكتلندي تفاجئك بين الفينة والاخرى وهي تسرح غير عابئة بالفضوليين حولها. الايام الاخيرة من الرحلة تأخذك الى غابات ارز وشربين وخزانات مياه طبيعية وضفاف سد شيد لتوليد الكهرباء وقرى متوسطة الحجم انتعشت مع اكتشاف الالومنيوم فيها على مراحل خلال القرن الماضي. لكن المناجم اقفلت قبل سنوات وتقف كجرح في بطون الجبال والأودية... المفاجأة الاخيرة قبل عودتك الى المدينة هي ظهور جبل "بن نافيس" Ben Nevis اعلى جبل في الجزر البريطانية، الى الشرق من مدينة فورت وليامز. طريق واحدة تؤدي اليه: الشجعان يتسلقونه، والأقل شجاعة يلتفون حوله الى اقرب مطعم او مقهى في الضاحية الجنوبية من المدينة حيث تنتشر يافطات تهنئ الناجحين بعبور سلسلة جبال غرب اسكتلندا. وهنا تشتري قمصاناً وقبعات وأكواباً للقهوة عليها شعارات المنطقة لتذكرك بعد سنوات برحلة العذاب التي ميزتها طبيعة خلابة تتحدى الكلمات. المشي في هذه الجبال يتعدى حيز الرياضة الى الولع بالطبيعة والشغف في البقاء في الهواء الطلق لأكبر عدد ممكن من ساعات النهار مهما كانت حال الطقس. المهم في الأمر ان تجري الرحلة بين نيسان ابريل وايلول سبتمبر حين يطول النهار ويتقلص عدد ساعات الليل وتخف غزارة المطر الشتوي والثلوج... والأهم هو عدم تعرض محب هذه الرياضة الى لسعات البعوض الأخضر المحلي المسمى"ميدجيز" الذي ينشط فوق المستنقعات وضفاف البحيرات والأنهر طيلة فصل الربيع ويترك على جلد الضحية لسعات قاسية تتطلب أحيانا عناية طبية. سبعة أيام يعتبرها كثيرون من أيام العمر وبعضهم الآخر يقول إنها اقسى من البقاء في معتقلات عسكرية... الأمر الراسخ هو أن ذكرى هذه المغامرة الفريدة يبقى في ذهنك، ذكرى تحيكُ صوراً تلامس عالماً خيالياً وتدفعك مجدداً الى العودة الى غرب اسكتلندا لاكتشافها بعمق أكبر، مهما قست عوامل الطبيعة.