تخبرنا الإعلانات العملاقة على جدران أروقة المترو الباريسي عن افتتاح جديد وحلة "سينوغرافية" معدلة من عروض "متحف الفن المعاصر" مركز بومبيدو. ليس هذا بجديد فأقسامه "ما بعد الحداثية" في حال تحول دائم، مع المقتنيات الجديدة كل عام. ولكن من يعرف مدى سلطة هذا المتحف المركزي وتأثيره في التيارات النقدية، يدرك أن اعلان هذا التعديل يمثل انعطافاً فلسفياً، وبالتالي يقع في بؤرة الأحداث والمؤثرات التشكيلية الحداثية. هو ما يفسر تزاحم زواره ضمن صفوف انتظار مديدة كل مرة. لا شك في أن "مركز بومبيدو" يمثل بوابة عبور الى السياحة التشكيلية في عاصمة الفن العالمي، بل انه ومنذ تأسيسه عام 1972 يمثل التنافس المضمر والمعلن على السلطة التشكيلية بين باريس ونيويورك، باعتبار ان الثانية سرقت مركزية الأولى في الستينات وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية. يشبه "مركز بومبيدو" مركبة فضائية هابطة في حي يناقض حداثتها المستقبلية وهو حي "سوق هال" العريق. ينتسب مخطط المتحف بطابقيه الى خصائص "العمارة الوظيفية" التي تبدو أشبه بأحشاء عارية من الزخرف والديكور، خصوصاً أن الفواصل الجدارية غير ثابتة، تتكون وفق قياس وطبيعة التظاهرات والمعارض. فالمتحف نفسه كان مقتصراً على الطابق السفلي الثالث ثم تحدد مع خصوبة الاقتناء ليكمل "بانوراما" التيارات الأشد حداثة في الطابق العلوي الرابع. يصل بينهما مباشرة السلم الكهربائي المقبب والخارج من كتلة البناء. نمت بالتدريج المكتبة الفنية حتى تحولت الى أخصب مركز بحوث تشكيلية في العالم ملحقة بالمتحف نفسه. يختص الطابق السفلي بالمعاصرة أي بتيارات النصف الأول من القرن العشرين وحتى أعقاب الحرب العالمية الثانية، من الانطباعية والتكعيبية وحتى التجريد الغنائي والهندسي و"الأوبتيك" سيتحول في الطابق الأعلى الى النحت "المنمالي" مروراً بأنواع الدادائية والسوريالية والواقعية والتعبيرية واللاشكلية. يقتصر الطابق الأعلى على تجارب النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد من الستينات حيث ابتدأت المنازعة الفنية الحادة بين "مونوبولين": باريس ونيويورك. وهنا نصل الى ما نسميه بالفن الراهن وما بعد الحداثة. نقتصر زيارتنا المعاكسة للسياق التاريخي على بعض أجزاء الطابق العلوي، هو الذي يحتكر التعديل الفلسفي المذكور، أما الطابق الأسفل فيظل تقسيمه في حال سكونية ثابتة. لعل أبرز ما يثير الاهتمام في قسم "ما بعد الحداثة" هو سيطرة عروض "الفيديو" بأداءاتهم المتعددة. أسماء غير شائعة إلا من طريق دورة "دوكومنتار" كاسيل الأخيرة في ألمانيا. يظهر في هذا القسم ختام مساحة توليف الفنون واندماجها أو إحلالها للتعبير التشكيلي باعتبارها رديفة، مثل اندماج المسرح العبثي والإيمائي والدادائي وعروض "الهولوغرافي" التي تعتمد على بؤر اشعاعية متقاطعة من أشعة لايزر الملونة ثم نحت الضوء والصورة الوهمية. لكل ما هو أكثر جدة اعتبار تاريخ السينما خصوصاً الطليعية أو التجريبية جزءاً من تاريخ الفن التشكيلي الراهن، ثم أُضيف التصميم الصناعي مثل الموتوسيكلات الحديثة كاستمرار "استطيقي" متقدم لتيار "البوب" الأميركي. بلغت الفكرة أقصى تطرفها بإدماج التصاميم المعمارية في ساحة التصميم، على غرار الفرنسي جان بيير ريمون الذي يعرض: "كونتنر زيرو" منجز عام 1988 بهيئة حجرة من السيراميك المفروشة بالتربيعات ذات الخطوط السود على الأبيض. يتعايش الأميركي نيومان مع هذا الاتجاه فيعرض عمارة ضوئية "لممر حلمي" بأربعة ممرات منجز عام 1984. ابتدأ رفع الحدود بين أنواع الفنون من توحيد اللوحة مع المنحوتة في النزعة "المنمالية" الاختصارية، بحثاً عن جوهر الشكل الهندسي في الواقع الفيزيائي. بعض الأعمال يلامس الأرض بسطحين وبعضها يعتلي الجدار بطريقة ثلاثية الأبعاد، كما هي مجموعة رفوف الفنان دونالد جود الشهيرة منجزة عام 1973. من هذه النقطة أيضاً خرج "فن البيئة" الذي يتدخل في جغرافية الكوكب الأرضي أو يقتصر على مواده البكر الأولى، من هذه النزعات "الآربوفيرا" الايطالي و"اللاند آرت" الأميركي، يبرز في الثاني النحات "هايزر" الذي يعمل برافعات عملاقة في جسد صحراء نيفادا، يتدخل برفع وإعادة صخرة تزن أطنان عدة قبل تعديل، ومتابعة تأثير الأنواء الطبيعية عليها، خلال الفصول، ثم يعرض فيلم فيديو وثائقي عن سيرتها الطقسية. تتحول كاميرا الفيديو في هذه الحال الى وسيط شاهد يوفر السفر آلاف الكيلومترات في حين أنه يظهر لدى منى حاطوم كتعبير مستقل عن اللوحة وعن تاريخ السينما. لعل أبرز الأعمال المعروضة باسم "الانشاءات المجهزة" INSTALLATION هي: "البيانو" المنجز باكراً عام 1966 يستعيد فيه الفنان الألماني جوزيف بويز عبثية "الدادائية" الأولى التي أسس فيها مع بداية القرن مارسيل دو شامب مبدأ إعادة عرض المستهلكات اليومية. لا يكرر الثاني الأول لأنه موشح بما عرف في ما بعد بالبعد النقدي أو "المفاهيمي"، ومثاله الأساسي في المعرض جوزيف كوتش الذي عرض كرسيه الشهير الى جانب وثيقة صورته الفوتوغرافية، من هذا العمل وسواه أستعيض عن رسم الكرسي بالكرسي نفسه، كما هي الواقعية الجديدة لآرمان وسيزار، يعرض الأخير أواني الرسام موراندي بعد استخراجها من الواقع الاستهلاكي وضغطها بكينونة جسدها الواقعي، يعيد لصقها على السطح من جديد.