"اسمي سمير نقاش. كنت يهودياً عراقياً في العراق وأنا الآن يهودي عراقي في إسرائيل"، هذه الجملة التي قالها سمير نقاش الكاتب اليهودي الإسرائيلي في أول مقابلة أجراها معه مواطنه الكاتب والشاعر العراقي الراحل شريف الربيعي في العام 1990، تحولت في ما بعد إلى ما يشبه اللازمة يكررها في كل مقابلة تجرى معه وتنشر في صحيفة عربية، وقد أجري مثلها كثير من المقابلات في ما بعد. هذه الجملة / الفكرة هي مفتاح شخصية سمير نقاش الذي رحل عن عالمنا أول من أمس في إسرائيل الذي كان يرى أن وجوده فيها هو وجود موقت فاحتفظ باسمه العربي الأصلي ولم يغيره مثلما فعل كثير من اليهود العراقيين الذين هاجروا إلى إسرائيل وظل يكتب باللغة العربية ولم يتحول إلى الكتابة بالعبرية كما فعل كثير من اليهود العراقيين الذين غادروا إلى إسرائيل في وقت ما بين نهاية أربعينات وبداية خمسينات القرن الفائت، وظل مصراً على استخدام اللهجة العراقية التي كان اليهود يستخدمونها في العراق الذي غادره عام 1951 ولم ينسها أبداً فبقيت حاضرة في كل أعماله من دون استثناء حتى في تلك التي تجرى أحداثها في إسرائيل أو في أي من البلدان التي حاول المغادرة أليها هرباً من إسرائيل التي جاءها طفلاً في الثالثة عشرة ومات فيها أخيراً. وصل سمير نقاش إلى إسرائيل عام 1951، وخلال وجود عائلته في "المعبراه"، وهو الاسم الذي كان يطلق على معسكرات اللجوء التي كان يوضع فيها اليهود الشرقيون القادمون إلى إسرائيل مات والده الذي كان يعيش في العراق حياة مريحة حتى مغادرته تحت ضغط "قانون إسقاط الجنسية" الذي أصدرته حكومة توفيق السويدي في العام 1950 وسمحت بموجبه "لليهود الراغبين في ترك العراق" بالتخلي عن جنسياتهم العراقية في دائرة خاصة في مديرية الجنسية والسفر أنشئت لتنفيذ الطلبات التي يتقدم بها اليهود للتخلي عن الجنسية العراقية ومغادرة العراق إلى إسرائيل. وكانت هذه اللحظة المصيرية موضوع واحدة من أفضل روايات سمير نقاش هي تلك التي حملت عنوان "نزولة وخيط الشيطان". "إني يهودي لكني لست بخائن... كيف أخون أرضاً ممتزجاً بثراها رفات آبائي وأجدادي؟!"، بهذه الكلمات التي تشكل جزءاً من مونولوغ داخلي ليعقوب بن عمام الشخصية اليهودية العراقية في الرواية المذكورة بدأ يعقوب بن عمام مونولوغه فجاءت كلماته صدى لمشاعر الكاتب الذي لم يستطع الاندماج في المجتمع الإسرائيلي فحاول الهرب من إسرائيل عبر الحدود اللبنانية، وهناك قبض عليه وسجن وأعيد إلى إسرائيل. وقد كانت هذه "المغامرة" موضوع رواية "الرجس". كما حاول المغادرة إلى إيران حيث قضى أكثر من عام، ولكنه عاد بعد ذلك إلى إسرائيل بضغط من والدته التي بقيت هناك. وغادر إلى الهند ولكنه عاد بعد نحو عام، وحتى بعد كل تلك المحاولات الفاشلة فإن سمير نقاش لم يستطع التأقلم مع المجتمع الجديد والاستقرار فيه فبقي حتى نهاية حياته يعيش متنقلاً بين إسرائيل وبين بريطانيا التي استقبلت على مدى الأعوام الخمسين الماضية أجيالاً من العراقيين بدأت باليهود الذين لم يطيقوا البقاء في الدولة العبرية فغادروها وانتهت بغيرهم من المغادرين هرباً من طغيان نظام صدام حسين، وهناك في بريطانيا كان يعيش حياته عراقياً منفياً مع غيره من المنفيين. هذه الحياة المضطربة التي عاشها نقاش كانت مواضيع أعماله الروائية والقصصية والمسرحية الكثيرة. فحتى في رواياته التي كتبها عن حياته التي تنقل فيها أخيراً بين إسرائيل وأوروبا مثل رواية "عورة الملائكة" التي صدرت عن دار الجمل عام 1991 بقيت بغداد حاضرة من خلال ذاكرة بطل الرواية الذي كان تلميذاً متفوقاً في العراق. كما بقيت تجربته في إيران وكذلك في الهند حاضرة في أعماله الأدبية الأخرى. ولكن منجز سير نقاش الأدبي الأبرز كان رواياته وقصصه التي كتبها عن العراق في مرحلة ما قبل العام 1951 فأحداث قصص نقاش ورواياته تدور في العراق في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وشخصيات رواياته يهودية ومسلمة ومسيحية تعكس تنوع المجتمع العراقي في تلك الفترة من تاريخه. وفي قصصه ورواياته التي يصر على كتابتها بعربية كلاسيكية سليمة، كثيراً ما استخدم العامية العراقية للتعبير عن البيئة الشعبية في بغداد في ذلك الزمن، أما الشخصيات اليهودية في رواياته فإنها تستخدم اللهجة التي كان يتحدث بها يهود العراق قبل مغادرتهم إلى إسرائيل في الصورة التي أشرنا إليها سابقاً، وهي لهجة تختلف عن تلك التي يستخدمها المسلمون والمسيحيون هناك. وقد زالت هذه اللهجة من الوجود أو كادت مع انتهاء الوجود اليهودي في العراق، لذا فإن المؤلف يضطر إلى شرح الحوارات التي تدور بهذه اللهجة في أعماله، وذلك في هوامش تستهلك قسماً كبيراً من الكتاب. ولأن معظم ما في روايات سمير نقاش وقصصه يحيل إلى العراق، فإنه يحرص على أن يضيف إلى عناوين كتبه عبارات "قصص عراقية" أو "رواية عراقية". في صورة أو أخرى فإن عناصر الدراما في شخصية سمير نقاش تكاد تفوق عناصر الدراما في أعماله الروائية، فقد كانت حياته أشبه بسيرة اليهودي التائه الذي عاش دهوراً وهو يهرب من قدره ولكن القدر كان له على الدوام بالمرصاد: عاش سمير نقاش حياته في بلد لم يحبه يوماً ولم يندمج فيه. وفي آخر أيام حياته كان يقضي وقتاً أكبر في لندن. ولكنه مات في إسرائيل التي كان يرى أن وجوده فيها موقت. وربما كانت هذه النقائض في حياته هي التي طبعت أعماله بذلك الطابع المأسوي بل والكئيب الذي تتسم به أعماله من دون استثناء. وعلى رغم أن سمير نقاش مات عن 66 عاماً فإن من الممكن القول إنه مات عن ثلاثة عشر عاماً، فهو كان يرى أن حياته الحقيقية تقتصر على تلك الأعوام التي قضاها في العراق وأن ما تلا ذلك هو مجرد ظلال لتلك الأعوام.