لم يستطع مسرح "قصر الثقافة"الضخم في عمان أن يستوعب الجماهير الغفيرة التي وفدت إليه مساء أول من أمس، لحضور أمسية الشاعر الفلسطيني محمود درويش في افتتاح مهرجان الشعر ضمن "مهرجان جرش" الثالث والعشرين. على أن هذا الجمهور ظل متربصاً بدرويش لينطق اسم فلسطين أو القدس أو العراق، حتى يهب مصفقاً، لسبب أو من دون سبب، محاولاً من غير أن يدري، جر الأمسية الشعرية نحو أفق المناظرة السياسية. لكن تلك "الكاريزما" التي يتمتع بها درويش، منحت الأمسية بعدها الشعري المطلوب، وقد ابتعد عن شعره الجماهيري الذي يحفظه جمهوره عن ظهر قلب، ليلقي كثيراً من قصائده الأخيرة. غير منزلق نحو عالمه الشعري القديم، ومبدياً رغبة في تقديم حديثه، حتى غير المنشور منه، عبر قصيدة جديدة يرثي فيها صديقه الراحل، المفكر إدوارد سعيد، بعنوان "طباق": "نيويورك نوفمبر الشارع الخامس الشمس صحن من المعدن المتطاير فوضى لغات زحام على مهرجان القيامة هاوية كهربائية تعلو السماء قصائد ويتمان تمثال حرية لا مبال بزواره جامعات، مسارح، قداس جاز، متاحف للغد لا وقت للوقت قلت لنفسي الغريبة: هل هذه بابل أم سدوم؟ هناك التقيت بإدوارد قبل ثلاثين عاماً وكان الزمان أقل جموحاً من الآن" ربما لم تحظ القصيدة هذه بانتباه الجمهور، على رغم أهميتها وجماليتها. ليس هناك خلل في القصيدة أو الأمسية ككل. الجمهور جاء إلى المسرح وكأنه معبأ يكاد ينفجر. بدا الجمهور وكأنه يحضر نشرة للأخبار، تتحدث كعادتها عن الوضع المنهار في فلسطينوالعراق، قام من بعدها مباشرة، ومن دون فاصل إعلاني، ليسمع محمود درويش وكأنه يعلق على الوضع شعراً. لهذا ربما تفاعل الجمهور أكثر مع القصائد التي تضمنت اسم فلسطين، أو حانت منها لحظة نحو واقعنا المرير. ترى الجمهور يصفق طويلاً عندما يبدأ درويش أمسيته بقصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، أو "أتذكر السياب". ويطول التصفيق أكثر عندما يقرأ مقاطع من "حالة حصار" ويدمجها بمقطع "حاصر حصارك لا مفر" من "مديح الظل العالي". أمسية شعرية غنية، تليق بدرويش وعالمه الشعري المتماسك. ولا غرابة أن ينسى الحاضرون للحظات عازف العود الأردني صخر حتر وحواره الهادئ مع عوده بين ثنايا فقرات الأمسية، وينطلقون نحو درويش حاملين دواوينه، ويريدون توقيعاً أو صورة. ينسى الحاضرون ساعتها ما شاهدوه في نشرة الأخبار، وما سمعوه قبل قليل عن "سيدة الأرض"، وينطلقون نحو خشبة المسرح، حيث يجلس درويش خلف الطاولة ينتظر عودته إلى المنبر ليلقي قصائد أخيرة. وعندما يقف ويجد الجمهور في حال من الهرج والمرج، يسأل عن الفوضى ودواعيها، فيتدخل الشاعر جريس سماوي، مدير عام المهرجان، ويطالب بالهدوء، فيعود درويش إلى قصائده، وتعود إلى الحاضرين ذاكرتهم، ويروحون يصفقون عند مقطع جديد يناجي فيه درويش فلسطينه. وفي متتالية لا نهاية لها، يبقى شعر درويش وحيداً متجدداً متوهجاً يملأ فضاء الصالة شعراً حقاً، فيما بعض الحاضرين ينتظرون النهاية بفارغ الصبر، لأن بين أيديهم دواوين لدرويش، ينتظرون توقيعاً من شاعرهم الذي يتابعونه باستمرار.