يعيش 40 في المئة من سكان العالم قريباً من الشواطئ. ويعتمد أكثر من 5,3 بليون شخص في طعامهم على البحار، التي تتعرض لضغوط متزايدة من تلوث وصيد استنزافي وتدمير للموائل. ويقدر أن 21 مليون برميل نفط تتسرب الى المياه البحرية كل سنة. يوم البيئة العالمي، الذي يحتفل به في الخامس من حزيران يونيو من كل عام، اختير له هذه السنة شعار "البحار والمحيطات: مطلوبة حية أو ميتة؟"، وفي ما يأتي عرض لحال هذه ال70 في المئة من سطح الأرض، استناداً الى أحدث التقارير الدولية والاقليمية. مدينة برشلونة الاسبانية، حيث ينعقد حالياً المنتدى العالمي للثقافات الذي يستمر نحو خمسة أشهر، هي أيضاً مضيفة الاحتفالات الدولية بيوم البيئة العالمي لسنة 2004. لا تفوت زائري المدينة رؤية محطة الطاقة الشمسية العملاقة التي تتربع على مساحة 11 ألف متر مربع في قلب مركز المنتدى، وهي تولد 3,1 ميغاواط من الكهرباء النظيفة الخضراء تكفي احتياجات بلدة يقطنها ألف نسمة. ومن التطويرات الابتكارية الأخرى نظام لجمع القمامة يعمل بالهواء المضغوط، يأخذ النفايات المتولدة من فعاليات المنتدى ويوم البيئة العالمي من مسارب في أنحاء المدينة، عبر شبكة تحت الأرض تحملها الى مركز المعالجة واعادة التدوير. ووضعت برشلونة خططاً لمشاريع أخرى في مجال التجدد الحضري، بينها انشاء محطة مترو قطار نفقي جديدة وشبكتي ترام حافلات كهربائية، وتوسيع شبكات طرق الدراجات، وانشاء حديقة عامة محاذية لنهر بيسوس حيث تعمل سدود هوائية قابلة للنفخ على ابقاء مستوى النهر ثابتاً، وتمرير أسلاك الكهرباء عبر مسارب غير مرئية تخلّص المدينة من الأبراج الكهربائية العالية التي تشوه معالمها الجمالية. شعار يوم البيئة العالمي لهذا العام هو "البحار والمحيطات: مطلوبة حية أو ميتة؟". ويقول كلاوس توبفر، المدير التنفيذي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة: "الرسالة التي يحملها هذا الشعار بسيطة. فلدينا خيار أن نعمل الآن لانقاذ مواردنا البحرية او أن نرى التنوع الغني للحياة في بحارنا ومحيطاتنا يتراجع الى نقطة اللاعودة". فالناس، عموماً، ينظرون الى المحيطات والبحار على أنها قفار شاسعة قادرة على استيعاب التلوث وتوفير محاصيل لا حدود لها من الأسماك والموارد البحرية الحية. وهكذا تم استغلالها وكأنها مشاع مفتوح للجميع. استغلال جائر ومناطق ميتة أسرار البحار والمحيطات لم يكتشف منها الا القليل. فهي تغطي 70 في المئة من مساحة الأرض، وغالبيتها المطلقة يزيد عمقها على 5,1 كيلومتر. لكنها، ككل شيء في هذا العالم، مورد هش وله نهاية، وهي تتعرض لاستغلال جائر وضغوط مدمرة. فأكثر من 70 في المئة من مصائد الأسماك البحرية أصبحت مستنزفة أو تجاوزت حدها المستدام بسبب أساطيل الصيد التجاري المتنامية وممارسات الصيد المدمرة. والتلوث خطر آخر يهدد الحياة البحرية ويأتي بنسبة 80 في المئة من نشاطات على اليابسة. فثلاثة أرباع المدن الضخمة في العالم تقع بمحاذاة البحر، و40 في المئة من سكان العالم يعيشون حالياً ضمن مسافة 60 كيلومتراً من الشاطئ. الوفيات والأمراض التي تسببها المياه الساحلية الملوثة تكلف الاقتصاد العالمي 8,12 بليون دولار سنوياً. والأنهار التي تصب في البحر تحمل معها الطمي ومياه الصرف والنفايات الصناعية والمخلفات الاستهلاكية المتنوعة من مناطق بعيدة على اليابسة. وجاء في تقرير حديث لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة أن هناك نحو 150 "منطقة ميتة" في البحار والمحيطات تعاني من نفاد الأوكسيجين بسبب ارتفاع نسبة المغذيات في المياه، خصوصاً النيتروجين. فالأسمدة، مقرونة غالباً بمغذيات من مياه المجارير غير المعالجة، والغازات النيتروجينية الناتجة عن حركة السير والانبعاثات الصناعية التي تسقط على المياه الساحلية من الهواء، تستثير نمو الطحالب وكائنات بحرية دقيقة تدعى العوالق النباتية. والنمو السريع لهذه الطحالب والعوالق وتحللها يستنزفان الاوكسيجين في مياه البحر. أحياناً تكون التأثيرات معتدلة، لكنها أحياناً تكون كبيرة بحيث تهجر الأسماك "المياه الخانقة"، وتنفق الصدفيات والحلزونيات والقشريات وغيرها من المخلوقات البطيئة الحركة التي تعيش في القيعان. ويحذر الخبراء من أن هذه المناطق تعرض المخزونات السمكية لأخطار متسارعة، وكذلك مئات ملايين الاشخاص الذين يعتمدون على البحر كمصدر للغذاء وكسب الرزق. وبعض هذه المناطق الميتة صغير نسبياً، لا تتجاوز مساحته كيلومتراً مربعاً، في حين أن مناطق أخرى هي أكبر بكثير اذ تصل مساحتها الى 70 ألف كيلومتر مربع. من جهة أخرى، يهدد الاحترار العالمي برفع مستويات البحار ودرجات حرارتها، وبتدمير غالبية الشعاب المرجانية في العالم، وبتقويض الاقتصادات الهشة للدول الجزرية الصغيرة ومعيشة بلايين الأشخاص الذين يقيمون على السواحل ضمن نطاق عواصف وأعاصير تزداد قوة وتكراراً. في القمة العالمية حول التنمية المستدامة عام 2002، التزمت الحكومات أهدافاً محددة بجداول زمنية لانهاء ممارسات الصيد غير المستدام، وإعادة المخزونات السمكية المستنزفة الى سابق عهدها، وإرساء برنامج عالمي منتظم لتقويم وضع البيئة البحرية، واقامة شبكة عالمية للمناطق المحمية البحرية بحلول سنة 2012. حالياً، أقل من واحد في المئة من المناطق البحرية محمية، بالمقارنة مع 5,11 في المئة من المساحة البرية العالمية. وتظهر الدراسات أن حماية الموائل البحرية الحساسة، مثل الشعاب المرجانية ومسطحات العشب البحري وغابات القرم المنغروف، يمكن أن تزيد كثيراً حجم الأسماك وكمياتها. بحار العرب تمتد السواحل العربية من المحيط الأطلسي إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والخليج العربي والمحيط الهندي. وتمثل المناطق الساحلية مصادر أساسية للسياحة وإنتاج النفط وصيد الأسماك. وقد أدى ازدحام المدن الساحلية في بعض الدول العربية الى ردم المناطق الساحلية بمعدلات ضخمة تدمر الموائل البحرية والثروة السمكية وتهدد التنوع البيولوجي. البحار الثلاثة التي تطل عليها معظم الدول العربية، أي المتوسط والأحمر والخليج العربي، كلها بحار شبه مغلقة. ويستقبل المتوسط والخليج العربي الملوثات منذ عقود طويلة. أما البحر الأحمر فكان نقياً حتى عقدين مضيا حيث نشطت السياحة واستخراج النفط فتلوث بدرجة واضحة، علماً أنه يضم شعاباً مرجانية نادرة تجعله قبلة للسياح. وثمة اتفاقات دولية تنظم التعاون بين الدول المشاطئة لكل من البحار الثلاثة، لكن تنفيذها يسير ببطء شديد. أهم مصادر التلوث في المناطق الساحلية العربية المخلفات الصناعية، خصوصاً من الصناعات البتروكيماوية، وتصريف مياه المجاري غير المعالجة أوالمعالجة جزئياً في البحر، والتلوث الناتج من استخراج النفط ونقله، ومخلفات الصرف الزراعي المحمل بالمبيدات والأسمدة الكيماوية. الانتاج السمكي من بحار المنطقة قليل نسبياً، لذا تلجأ الدول العربية الى استيراد الأسماك أو الى الاستزراع السمكي. وهي لم تتحرك الا قليلاً لاقامة محميات طبيعية بحرية. ويقول الدكتور مصطفى كمال طلبه، رئيس المركز الدولي للبيئة والتنمية والمدير التنفيذي السابق لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة، إن ثمة أموراً جوهرية يجدر بالدول العربية تحقيقها على المدى القصير في ما يتعلق بحماية المناطق الساحلية والبحرية. ولعل أولها تكوين فرق عمل من مختلف التخصصات لدرس "المناطق الاقتصادية الخالصة" الخاصة بكل دولة وتحديد أفضل الوسائل للافادة منها ووضع مشاريع تفصيلية لذلك. ويترافق ذلك مع وضع خرائط دقيقة لأماكن إقامة محميات طبيعية بحرية تضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي، والتركيز على برامج حماية الشعاب المرجانية لضمان بقاء ثرواتها السمكية والافادة منها في جذب السياح. ويدعو طلبه الدول العربية المطلة على البحر الأحمر والخليج العربي الى وضع ضوابط محددة لإيقاف الملوثات التي تقذف فيهما كخطوة أولى نحو تحسين حالهما، ولا سيما مياه الصرف الصحي غير المعالجة والملوثات النفطية. وقد لحظ تقرير "مستقبل العمل البيئي في الوطن العربي"، الذي أعده الدكتور طلبه بالتعاون مع الباحث الراحل الدكتور أسامة الخولي والدكتور كمال تابت، أنه "بالنسبة للبحر الأحمر على الخصوص، لن يتأتى توقف التدهور وتحسين الوضع من دون إعادة النظر في وسائل التأثير على الدول غير الأعضاء في اتفاقية جدة في شمال البحر وجنوبه. وهذا أمر غاية في الحساسية ولكن لا بد من مواجهته". ولفت التقرير الى أن الأمانة الفنية لكل من اتفاقية جدة الخاصة بالبحر الأحمر واتفاقية الكويت الخاصة بالخليج العربي لا تلقيان الدعم الكافي من الدول الأعضاء، "فما زال تشكيلهما نحيلاً وقدراتهما على الاستعانة بالخبراء ومعامل البحوث غير كافية. وليس المطلوب هنا مجرد الدعم السياسي والارادة السياسية، ولكن لا بد أن تؤمن الدول بأهمية المناطق الساحلية لها حالياً ومستقبلاً فتستثمر في هذه الأمانات ما يجعلها قادرة على أداء الرسالة". ولعل ما يجعل الأمر شديد الأهمية قضية تغير المناخ، وأحد أهم آثارها ارتفاع سطح البحر نتيجة ازدياد درجة حرارته أو ذوبان الجليد في المناطق القطبية. ومن أوائل المتضررين المدن الساحلية التي ترصّع السواحل العربية بطول يصل إلى قرابة 18 ألف كيلومتر. كما يتسبب ارتفاع حرارة مياه البحر في ابيضاض ودمار الشعاب المرجانية التي تشكل عاملاً أساسياً في جذب السياح وموئلاً أساسياً للثروات السمكية. وهذا يستوجب مشاركة عربية فاعلة في التجمعات الدولية التي تدرس الجوانب العلمية والاقتصادية والاجتماعية لتغير المناخ. ولا يمكن الاضطلاع بهذا الدور الفاعل إلا بانشاء شبكة من المؤسسات العلمية القادرة في العالم العربي، تتدارس هذه المسائل وتضع نتائج دراساتها وتوصياتها أمام متخذي القرار ليكونوا على بينة من البدائل المتاحة. ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد حزيران /يونيو 2004