من علم الإناسة، أو البحث في أصل الجنس البشري وتطوراته وأعراقه وعاداته ومعتقداته، انبثقت امرأتان تعمقتا في حضارتين عالميتين بارزتين لهما الأثر الكبير في تطور الأميركتين: أليس كانيغهام فلتشر، أو "جلالتها" كما يلقبها بعضهم، عاشت مع القبائل الهندية الأصيلة الأميركية في نهاية القرن التاسع عشر وأسهمت في وضع القوانين التي نظمت وجود القبائل وحماية إرثها، وإنغا كلندينين الأسترالية التي فتنت بشعوب أميركا اللاتينية ولا سيما منها المايا والأزتيك، محاضرة وكاتبة التحقيقات عن تفاصيل تلك الشعوب وإرثها. من كوبا إلى الهنود في هافانا- كوبا، ولدت أليس فلتشر العام 1838. والدها محام ناجح من نيويورك توجه إلى هناك بحثاً عن مناخ يلائم مرضه المزمن ووالدتها شيوعية من بوسطن، اقتنعت بأن زوجها دائماً على حق... حتى بعدما توفي في هافانا فيما ابنته الصغيرة لم تبلغ العشرين شهراً من عمرها. فحملتها وعادت إلى بروكلين لتنال ابنتها "أفضل ثقافة ممكنة". هناك، تزوجت مرة ثانية وتركت أليس وحيدة في "أفضل المدارس" كما كانت تحب أن تقول، بينما هذه الأخيرة تكتمّت كثيراًَ في ما بعد على تفاصيل طفولتها ومراهقتها، مفضلة تكرار ما تقوله الوالدة. ولما أنهت أليس تعليمها، إلتحقت بسلك التعليم في المدارس الخاصة، وأسست ما كان يعرف بنادي القراءة، مركزة إهتمامها على البحث في حقوق المرأة ووسائل تحريرها كما في تاريخ البشرية والحياة الإنسانية، مؤكدة أن علم الآثار أهمل هذه الناحية في كل اكتشافاته. سافرت إلى أوروبا واطلعت على تاريخها في المتاحف والمعارض مهملة حياتها الخاصة. ولم تكد تبلغ الثانية والثلاثين من عمرها حتى صرفت النظر كلياً عن الزواج وتأسيس عائلة... ربما لأن ذكرى عدم اهتمام والدتها بها كانت متأصلة بعمق في نفسها. فانكبّت على العمل الإجتماعي مؤسسة "جمعية تقدم النساء" وباتت عضواً فاعلاً في معهد الآثار الأميركي من دون أن تغفل عشقها لعمل الإنسانية. وبقيت تعمّق قراءاتها في هذا الميدان، إلى أن التقت صدفة مدير المتحف في هارفارد فريديريك وارد بوتنام الذي دهش لعمق ثقافتها ودعاها الى الإنضمام إلى أبحاثه في علم السلالات البشرية. كانت أليس حينها في الأربعين ولم تتردد لحظة في العودة إلى مقاعد الدراسة... حتى بشكل غير رسمي، بل بدأت سلسلة من الأبحاث والتحقيقات على الأرض قادتها إلى القبائل الأميركية - الهندية في نبراسكا حيث فتنت بتقاليدها وطريقة عيشها وثقافتها، إلى حد أنها تبنّت ولداً منها أطلقت عليه اسم فرنسيس لا فليش، ساعدها في ما بعد في أبحاثها. وانطلقت أليس في مهمة صعبة جداً في نهاية القرن التاسع عشر الذي كان يشهد "إبادة" أميركية شبه جماعية لهذه القبائل لاحتلال أراضيها. فكانت من المقتنعين بأن أفضل وسيلة لحمايتها من القتل وتبدد إرثها الثقافي تكمن في "تأقلمها" مع حياة البيض وعاداتهم الإجتماعية العصرية. وبقيت تناضل من دون كلل لحماية هذه القبائل إلى أن أسهمت في وضع قانون "دووز" الذي ضمن حق المواطنية للهنود الأميركيين وقسّم أراضيهم في ما بينهم. وقد عيّنها مجلس الشيوخ الأميركي للإشراف على توزيع أراضي ثلاث قبائل كبيرة في أوماها، كما انتدبتها وزارة الداخلية كأول امرأة مندوبة للهنود ، فسعت أولاً لحماية آثارهم وأماكنهم المقدسة، ومن ثم إلى دمجهم في الثقافة الأميركية "البيضاء" عبر استحداث مدارس عدة في مناطقهم. واستمرت أليس في عملها للحفاظ على إرث الهنود من دون أي مقابل، الى أن عيّنت أول امرأة مسؤولة عن قسم من متحف هارفارد، ومن ثم حازت على مقعد ثابت في مجلس إدارة الجامعة. وخصصت مساعدات عدة للجمعية الوطنية النسائية الهندية، كما نظمت معارض عن الحضارة الهندية. ولم تكد تبلغ الخمسين من عمرها حتى كانت نفذت دراسة واسعة جداً عن الهنود تضمنت إحصاءات دقيقة عن مناطق وجودهم وعدد مدارسهم والقوانين الخاصة بهم. وأرفقت الدراسة بأخرى ميدانية أمضت في خلالها سنة كاملة متنقلة بين قبيلة وأخرى. وباتت أول امرأة رئيسة لجمعية الفولكلور الأميركي كمكافأة لأعمالها ونشاطاتها. ثم أسهمت في تأسيس أول جمعية أميركية لعلم الإنسان. وبقيت تعمل وتناضل من أجل هنود أميركا حتى آخر رمق من حياتها التي انتهت في الخامسة والثمانين، مخلّفة ريادة نسائية أكيدة في هذا الميدان... وبعض المخطوطات والرسوم والكتابات عن الهنود لأنها أتلفت غالبية أوراقها الخاصة قبل موتها. أسترالية في أميركا اللاتينية وعشق تاريخ الإنسانية أصاب أيضاً امرأة ثانية من أستراليا لم تكن تعرف أن حضارات أميركا اللاتينية في انتظارها. إنغا إيلونغ، إبنة محام أسترالي ولدت العام 1934 في استراليا، ونعمت بطفولة عادية ورعاية خاصة من والدتها التي لم تكن تعمل خارج المنزل. إلتحقت بالجامعة صبية ودرست علم الآثار والتاريخ والإنسانية قبل أن تتزوج في الحادية والعشرين الفيلسوف الأسترالي فرديريك جون كليندينين. رزقت منه صبيين وبقي عشقها لحضارات أميركا اللاتينية يكبر وينمو في داخلها. تتساءل كيف عاشت هذه الحضارات من قبل، ما هي أسرار حضاراتها العميقة التي لم يستطع أحد التعرّف على كل خفاياها. علمت في جامعة ملبورن 10 أعوام من دون أن يُشفى غليلها للمعرفة. كتبت مقالات عدة عن الموضوع ونالت جوائز مختلفة عن مقالاتها. تنقلت بين جامعة أسترالية وأخرى لإلقاء محاضراتها تارة والإشراف على أقسام التاريخ فيها طوراً. ثم وسعت نشاطاتها لتشمل الجامعات الأميركية حيث سعت لمزيد من المعرفة، خصوصاً بعدما حضّرت دكتوراه في هذا الشأن. وبدأت تكتب في الرابعة والخمسين من عمرها روايات عن هذه الشعوب متكهنة عن أسلوب حياتها في تلك الفترة إستناداً إلى الآثار التي درستها، فنالت الجائزة الأولى من جمعيات عدة لكتابين كتبتهما. ونجحت في اقتحام ميدان "ذكوري" بامتياز بعدما أعادت إحياء حياة الأزتيك والمايا في القرن السادس عشر، يوم هجم الإسبان على أراضيهم وسلبوهم حضارتهم وكنوزهم الثقافية والمادية. ونالت على كتابها "تايغرز آي" جائزة أفضل كتاب للعام 1999 من مجلة نيويورك تايمز، كما الجائزة الأولى للتاريخ لكتاب ثان. فنجحت مرة جديدة في ربط الحاضر بالماضي، وفي إعادة إحياء حقائق التاريخ بعدما برهنت حاجة الحاضر والمستقبل لها. وتعرّف الآلاف من القراء إلى خفايا حضارات لا تزال إلى اليوم تثير الكثير من التساؤلات إلى حد اقتناع بعضهم بأنها حضارات جاءت "من خارج مدار الكرة الأرضية". وبدت إنغا لفترة طويلاً "عالقة" في حقبة التاريخ الأميركي اللاتيني في القرن السادس عشر إلى أن تعرضت لمرض عضال استلزم زرع قسم من كبدها. فاضطرّت للتخفيف من انغماسها في التاريخ واتجهت نحو رعاية عائلتها... إلى أن تعافت وعادت إلى عشقها السابق الذي لا يزال يتملكها حتى اليوم.