في هذه الأيام تمر الذكرى المئوية لوفاة عالم اللغات والكاتب الروائي - المسرحي والموسوعي شمس الدين سامي كما يشتهر في العالم التركي أو سامي فراشري كما يشتهر في العالم الألباني، حيث تعقد عنه ندوات عدة في تيرانا وبريشتينا، كما يصدر الباحث التركي د. بولنت بيلماز B.Bilamz كتاباً جديداً عنه بهذه المناسبة. وإذا كان شمس الدين/ سامي فراشري قد ترك وراءه "مكتبة" بأعماله الكثيرة في لغات عدة التركية والألبانية والعربية فإن لدينا الآن "مكتبة" من الكتب والدراسات التي ألفت عنه خلال المئة سنة الأخيرة. وفي الواقع أن دور شمس الدين/ سامي فراشري في اللغة والأدب والنقد والترجمة والصحافة والفكر الاجتماعي والسياسي في الدولة العثمانية أو في العالمين التركي والألباني أكبر بكثير من أن يحاط بمقالة، ولكنها مناسبة للتذكير بدوره الريادي وخصوصاً في الرواية والمسرحية بعدما نشرت عنه مقالة قبل عشرين سنة تتعرض فقط إلى أحد مؤلفاته في اللغة العربية أنظر مجلة "العربي" عدد 325، الكويت 1985. وتجدر الإشارة إلى أن شمس الدين/ سامي فراشري هو أحد ثلاثة أخوة يعتبرون على رأس النهضة القومية الألبانية سامي ونعيم وعبدل فراشري، حتى أن شمس الدين سامي بالذات يشتهر عند الألبان بلقب "مؤدلج الحركة القومية الألبانية". وفي الواقع أن هذا بالذات يمثل الثنائية المدهشة عنده، إذ أن شمس الدين/ سامي فراشري كان من كبار المثقفين في اسطنبول الذين حاولوا أن يروجوا للمواطنة العثمانية بالمفهوم الحديث القائم على الدستور والمساواة والتعددية القومية قبل أن ينعى الدولة العثمانية ويركز على الدولة القومية - الألبانية. وكان شمس الدين/ سامي الذي ولد في 1850 في قرية فراشر في جنوبألبانيا قد تخرج في ثانوية "زورسيميا" في مدينة يانينا المجاورة شمال غربي اليونان حالياً التي كانت من أشهر المدارس في البلقان آنذاك، حيث تعلم لغات أوروبية عدة الفرنسية واليونانية والإيطالية إضافة إلى اللغات الشرقية التركية والعربية والفارسية واللغة الأم الألبانية بطبيعة الحال. وقد أتاحت له هذه اللغات أن يتعرف مبكراً الى الثقافة الشرقية الكلاسيكية وعلى الثقافة الأوروبية الحديثة فكر التنوير والأدب الأوروبي الحديث، مما ساعده على أن يكون رائداً بعد انتقاله إلى اسطنبول في 1871 واستقراره فيها حتى وفاته في 5 حزيران 1904. واشتغل شمس الدين/ سامي في الصحافة أولاً حيث عمل محرراً في جريدة "صباح" ثم رئيساً للتحرير لجريدة "ترجمان الشرق" وغيرها، كما أرسل إلى طرابلس الغرب خلال 1874-1875 ليدير هناك الجريدة الرسمية للولاية "طرابلس غرب" التي كانت تصدر في التركية والعربية. وفي السنوات اللاحقة أخذ ينشر مؤلفاته في اللغة والأدب الرواية والمسرحية والنقد وترجماته عن اللغات الأخرى ووضع القواميس القاموس التركي والموسوعات الإعلام إلى أن توفي في حزيران يونيو 1904، قبل أن يتمكن من نشر بعض مؤلفاته التي بقيت مخطوطة. وفي ما يتعلق بالأدب، وهو المجال الذي أبدع أهم أعماله، يلاحظ أن شمس الدين/ سامي قد نشر بعد سنة من إقامته في اسطنبول 1872 رواية "تعشّق طلعت وفتنة"، التي تعتبر أول رواية في الأدب التركي الحديث. وعلى رغم الحبكة المفبركة التي تميز البدايات، حيث تتحدث الرواية عن حب رومانسي بين شاب وفتاة طلعت وفتنة ولكن التقاليد الشائعة تحاول أن ترغم الفتاة على الزواج من رجل عجوز تختاره العائلة حيث يتبين في نهاية الأمر أنه والدها الحقيقي. وهكذا تخلص الرواية إلى نهاية تراجيدية، إذ يقرر العشيقان الانتحار للتخلص من الزواج بالإكراه، ويموت الأب بدوره عندما يعرف الحقيقة. وعلى رغم كل المآخذ التي يتسم بها البدايات إلا أن الرواية ألهبت القراء في وقتها ولفتت الأنظار إلى جرأتها في التمرد على التقاليد الراسخة والبوح بالحب والحق في الاختيار بالنسبة الى الزواج. ويبدو أن صدى الرواية قد شجع شمس الدين/ سامي على الاهتمام أكثر بالتأليف في هذا المجال. ففي رسالة إلى أخيه تحسين في القاهرة بتاريخ 5/12/1876 يذكر له أنه يفكر أن يكتب روايتين جديدتين الأولى بعنوان "ابنة سكندو" عن أحداث تجرى في ألبانيا والثانية بعنوان "بريشن بك" عن أحداث تجرى في اسطنبول العاصمة، ولكن يبدو أن إنشغالاته اللاحقة منعته من أن ينجزها وينشرها. ولم يكن شمس الدين/ سامي رائداً في الرواية الأصيلة فقط وإنما في الروايات العالمية المترجمة عن الفرنسية أيضاً. ويبدو أن اهتماماته بترجمة مثل هذه الروايات كانت لأجل أن يتعرف الكتاب الذين لا يعرفون الفرنسية الى نماذج من الأدب العالمي حتى يستفيدوا في تجاربهم الروائية الجديدة، إضافة إلى تعريف القراء بأدب من نوع جديد. وهكذا فقد أصدر في 1878 رواية "ذكريات الشيطان" ل ف.ساولي، بينما نشر في 1879 رائعة فيكتور هوغو "البؤساء" وألحقها في 1884 برواية "روبنسن" لدانييل ديفو. وفي ما يتعلق بالمسرحية فقد تميز شمس الدين/ سامي بإسهام خاص في هذا المجال أيضاً حيث ألف مسرحيات عدة نشرت منها ثلاث على الأقل، مما يعطيه مكانة خاصة باعتباره من أوائل الكتاب المسرحيين في الأدب التركي بعد إبراهيم شناسي 1826-1871 الذي كتب قبله "زواج الشاعر" ونامق كمال 1840-1888 الذي ألف مسرحية "الوطن أو سيليسترا". ومن أول وأشهر مسرحياته "بيسا أو عهد الوفاء" التي كتبها في طرابلس الغرب خلال إقامته هناك وعرضت على "المسرح العثماني" في اسطنبول خلال نيسان ابريل 1874. وقد ترجمت لاحقاً إلى الألبانية والبلغارية والإيطالية وغيرها، ونالت الكثير من الاهتمام حتى أن بقيت تستقطب النظارة حتى السنوات الأخيرة للدولة العثمانية لاعتبارات عدة، وبخاصة بعد ثورة 1908 وإعلان الدستور. ويلاحظ أن المؤلف حرص على أن يكون عنوان المسرحية في الألبانية "بيسا"Besa مع ترجمتها في التركية/ العثمانية "عهد الوفاء"، وهو يعبر عن مضمون المسرحية التي تتناول شخصيات وأحداث في مناطق ألبانية. ولم يخف المؤلف في مقدمته أنه "ابن الشعب الألباني" الذي يكتب عنه، وهو يريد من ذلك استذكار - استلهام بعض القيم - الأعراف الألبانية الإيجابية التي تصلح للآخرين في الدولة العثمانية. ومع أن شمس الدين/ سامي يتعرض في هذه المسرحية أيضاً إلى الحب والحق في الاختيار بالنسبة إلى الزواج إلا أن الموضوع الرئيسي هو تعظيم بعض القيم الإيجابية مثل الوفاء بالعهد الذي جعله عنواناً للمسرحية. وإذا كانت هذه المسرحية ليست الأولى في الأدب التركي - العثماني فإن الريادة فيها تبدو في المضمون. فمع أن نامق كمال سبق شمس الدين في تأليف مسرحية "الوطن" إلا أنه من المهم الإشارة هنا إلى أن شمس الدين/ سامي قد سبق غيره في تأكيد وجود وطنين وليس وطناً واحداً بالمفهوم العثماني الوارد عند كمال. وبعبارة أخرى يميز شمس الدين/ سامي ما بين الوطن الصغير ألبانيا والوطن الكبير الدولة العثمانية، ولا يرى في هذه الحال ما يمنع أن يكون المرء ألبانياً بالمفهوم الثقافي القومي وعثمانياً بالمفهوم السياسي، أي أنه ينتمي إلى دولة قائمة على تعددية ثقافية قومية. وفي هذا الإطار فقد كان شمس الدين/ سامي بحرصه على تعريف الآخرين في الدولة العثمانية بوطنه الصغير وثقافته الخاصة من الكتاب الرواد الذين رأوا في الرابطة العثمانية مظلة واسعة تشمل مختلف القوميات التي لها الحق في أن تعبر عن نفسها. وطالما أن المحدد الأول للقومية عند شمس الدين/ سامي كان اللغة فقد عمل بنفسه على بلورة مفهوم اللغة القومية، وسعى إلى وضع كتب قواعد وكتب تعليم وقواميس سواء للألبانية أو للتركية التي كان يعتبرها لغة قومية للأتراك عوضاً عن العثمانية التي كانت خليطاً من التركية والعربية والفارسية. وفي الحقيقة أن هذا يقود إلى موضوع واسع ألا وهو إسهام شمس الدين/ سامي في اللغة التي ألف فيها إنجازات رائدة. ويكفي أن يذكر هنا أنه أول من دعى إلى كتابة الألبانية والتركية بحروف لاتينية. وقد بادر في 1878 إلى اقتراح أبجدية جديدة للغة الألبانية تقوم على الحروف اللاتينية، التي لقيت انتشاراً بعد أن تبناها المثقفون الألبانيون في اسطنبول، ونشر فيها في 1879 أول كتاب لتعليم اللغة الألبانية. وإذا كان الأمر قد بدأه شمس الدين/ سامي في 1878-1879 بالنسبة الى الألبانية فإنه لم يتم إلا بعد نحو خمسين سنة بالنسبة إلى التركية. شمس الدين/ سامي فراشري كان يستحق في الذكرى المئوية له كتاباً يبيّن إسهاماته الرائدة في مختلف المجالات في اللغة والأدب والفكر والسياسة والصحافة والموسوعات التي تخص الألبان والأتراك والعرب. * كاتب كوسوفي - سوري.