يوشك قارئ بول أوستر، بعد معاينة الصفحات الأولى في "ليلة العراف"، أن يعتقد بأن الراوي هو هو كوين مدينة الزجاج أو ستانلي فوغ مون بالاس، إنما بصيغة مباشرة لدخول الكائن المفتقد تماماً لحس الكينونة الى سرائب المدن" في مساحة زمانية فارغة. "لم أتعد الرابعة والثلاثين، لكن المرض صيرني عجوزاً، واحداً من هؤلاء المرتعشين الذين يسيرون جارين أقدامهم من دون أن يتمكنوا من وضع الواحدة أمام الأخرى في غير ارتباك الى موضع الوطء. يثير التمشاء في رأسي انطباعاً غريباً بخفة هوائية وركام مختلط من إشارات متشابكة وصلات ذهنية متقاطعة في ما بينها. يثب العالم سابحاً تحت عيني انعكاسات متعرجة في مرآة مقعرة، وفي كل مرة أجهد فيها لتبيان أمر محدد أو لغز تفصيل من دفقات الألوان المدومة، فإنه يبدأ لتوه بالتكسر والاضمحلال، بالاختفاء مثل نقطة صباغ في كوب ماء. يرتجف كل شيء ويترنح ويتبعثر في كل اتجاه. كان لدي صعوبة خلال أسابيع عدة في التمييز بين المكان الذي يتوقف فيه جسدي عن الامتداد والمكان الذي تبدأ فيه بقية العالم. لقد عشت كل حياتي في نيويورك، لكنني ما عدت أفقه فيها الشوارع ولا جمع الناس. وفي كل نزهاتي الصغيرة أشعرني تائهاً في مدينة مجهولة". هكذا تكلم الكاتب سدني أور في مستهل "ليلة العراف" مودياً النص الروائي من بداياته الى ما يشبه ان يكون استكمال التوغل الأوستري في احتمالات متاه مقيم. يقوده سروبه الى مكتبة صيني كهل، ويلفته فيها هدوء كاد أن يكون شاملاً لولا سماع صرير عبور قلم فوق الورق. يستعرض أور القرطاسية المعروضة ويجذبه من بين دفاتر الملحوظات واحد أزرق برتغالي الصنع "ما إن رأيته حتى تيقنت أنني سأبتاعه". في ما يلي، يستخدم بول أوستر السياق الروائي كأنه لالتقاط إيقاع كاتب واقف على شفا صفر الوجود محاولاً استعادة حضوره عبر إحياء طقوس الكتابة مستعيناً بانجذاب غامض ولده شعور الالفة بين الفعل الكتابي الكامن في قعر كائن غائب من جهة، وبين دفتر بدا ذا منفعة عملية ما ان لامسته اليد حتى هبت في الروح "نفحة من شعور مفاجئ بطيب الحال لا يمكن تفسيره". استعاد الكاتب الكامن في ذات سدني أور عالمه بفعل سحر المواجهة الملتبسة بينه وبين المساحة البيضاء المستكينة في صمتها المتوتر تحت قلمه: "تأملت السطر الأول. لم تكن لدي أي فكرة عن كيفية البدء. خطوط خفيفة زرقاء تتقاطع فوق البياض محولة إياه الى حقل مربعات صغيرة متشابهة... تذكرت محادثة مع صديقي جون تروس استحضرنا فيها مؤلفين كبار من فولكنر وفيتزجيرالد الى دوستويفسكي وفلوبير، لكن الذي التمع في روحي آنذاك استطراد حول داشيل هاميت: ثمة رواية في محل ما. نقطة انطلاق مقلقلة". كانت الإشارة مستلة من الفصل السابع من رواية "الصقر المالطي". رجل يدعي فلتكرافت، متزوج وأب وممتثل اجتماعياً، حدث له ذات يوم حين كان ماشياً في الشارع قاصداً مطعماً لتناول الغداء، ان تدحرجت عارضة من علو عشرة طوابق في بناء قيد الإنشاء كادت أن تسحقه سحقاً لولا ثلاث سنتيمترات. خض الحادث سريرته بقوة، وتحكم بخاطره هاجس الإفلات المتولد من محض صدفة. كان لديه الانطباع بأن "أحداً ما رفع الغطاء عن الوجود متيحاً له النظر الى داخل لرؤية طريقة عمله". سرعان ما اكتشف العالم ليس مكاناً معقولاً كما اعتقد، وانه منذ البداية لم يفقه منه شيئاً. وما ان انتهى فلتكرافت من تناول طعامه حتى توصل الى استنتاج حتمي: عليه ان يخضع بالكامل لتلك القوة المدمرة، أن يعدم حياته الماضية بمحو ذاته منها. هكذا، مضى الى مكان آخر من دون التفات الى وراء. تحول فلتكرافت الى ناشر كتب يدعى نك بوين فوق صفحات دفتر سدني أور الأزرق. وقبل أن يروي أور حادثة وقوع لوحة اعلانية بمحاذاة بوين، يذكر ان روزا لايتمان حفيدة الكاتبة سيلفيا ماكسويل كانت قد أودعته مخطوط رواية لجدتها عنوانها: "ليلة العراف" لم تنشر من قبل. عندما ارتحل بوين الى المجهول، كما فعل فلتكرافت في رواية هاميت، لم يجد ما يفعله فوق متن الطائرة التي تقله الا قراءة النص الذي حمله معه تحت أثر وقوعه في حب روزا بلمحة صاعقة. انها رواية فلسفية موجزة حول التكهن بالمستقبل. حكاية عن الزمن بطلها ليوتنانت انكليزي يدعى لومويل فلاغ أصيب بالعمى من جراء انفجار قنبلة في الحرب العالمية الأولى. ابتعد عن أرض المعركة تائهاً خابطاً في عشواء متوغلاً في الأردين قبل أن ينهار أرضاً. عثر عليه ولدان فرنسيان أخذاه الى كوخهما وسط الغابة واعتنيا به عناية وافية. عندما تماثل الى الشفاء اصطحبهما معه الى انكلترا. منحه العمى هبة التنبؤ. كانت تصيبه نوبات فجائية لدقائق تجتاحه فيها صور المستقبل. نال شهرة وصيتاً وثروة الى أن تنبأ بخيانة من أحبها فانتحر. لكن حبيبته كانت بريئة على الاطلاق. تتشابك ايقاعات الحكايا في رواية أوستر الى حد تكاد ان تبلغ فيه كنه المتاه لولا ان السرد في اغواره العميقة يتواصل في ايقاع موحد مستوجب حسن الانصات. يأنس أور الى زوجته غريس التي يبدو انها تبطن أمراً غامضاً. يكن لها حباً عميقاً هي التي أكثر من ملاك حارس وحضن أمان في محنته المقيمة. يظلان على موعد عشائهما الاسبوعي مع جون تروس صديق غريس الكهل. عالم الكتابة هو محور الأحاديث بين الكاتبين على عراقة الواحد وحداثة الآخر. يتلقى أور عرضاً لكتابة سيناريو مستمد من قصة لويلز بعنوان: "آلة ارتياد الزمن" تدور حول فكرة السفر الى المستقبل. العمل الكتابي هذه المرة هو دخول الى عالم الاختلاق الأدبي من حيث هو صناعة ومهنة لكسب المال. يمضي السرد متكئاً في صلبه على السياق اليومي لحياة سدني أور الموزع بين التمشاء والكتابة والصداقة، وخصوصاً ذلك الشعور المرهف الغامض بهشاشة طبيعة العلاقة مع غريس والذي يتفاقم في حدته بعد نقاش معها في خبر حملها، وغيابها لليلة من غير سبب واضح إلا مجرد العزلة لاتخاذ قرار نهائي في شأن الاحتفاظ بالجنين كما صرحت، وفي شأن البت النهائي بمصير علاقتها مع تروس كما سيتبدى في الصفحات المحمومة الأخيرة من الرواية حيث يتبين وجود تواطؤ حميم منذ البداية في علاقة غريس بتروس عززه مرض أور ودخوله حال الخطر المميت كما توقع الأطباء. التوغل على ماكنزمات العالم الكتابي كان بمثابة قابلة استولدت الحقيقة بصيغة ان الكتابة ترسم بصورة غامضة ومدهشة قدر الكاتب، بل أن مصيره بذاته يتقرر تبعاً للمدى الذي يغور فيه انغماسه فيها خائضاً في لجة اختبار مغامرتها المكتنزة بأسرار الكائن الذي كاد أن يتوارى عن ناظر دخيلته. يستخدم بول أوستر تقنيات شهرزاد السردية إنما ليصهرها في رؤيا ما بعد حداثية لأداء الفعل الكتابي. وتستقيم "ليلة العراف" بمتانة نص روائي متداخل مستويات السرد. انه يقول الظاهر انما بعقل على وعي مذهل بباطن هو في نهاية المآل علة وجود النص لدى "أكثر الروائيين النيويوركيين ثقافة أوروبية". انه لخطأ مشهود أن تقرأ "ليلة العراف" من حيث هي تداعيات قصص متعاقبة أو من حيث هي كرونولوجيا راو هو الكاتب سدني أور كما فعل بعض النقاد الأميركيين. بل ان قراءتها من حيث هي "سرد للعلاقات بين الخيال والحياة الداخلية" أو من حيث هي "حكاية رمزية رائعة حول سحر الكتابة" كما رآها بعض النقاد الفرنسيين، لهو أمر يضع الرواية في محلها الذي تتبدى منه الكثير من مدلولاتها الباهرة، وذلك المحل هو مجمل اعمال اوستر الروائية. سدني أور ليس مجرد راو آخر في سلسلة أوسترية، بل هو أوستر محمولاً بكليته فوق لجة الكتابة في بحر حياة لم تجد هيولاها ونسغها الحيوي وعلة وجودها بل متنفسها الوجودي إلا في الكتابة. ان بعض أجوبة أوستر التي أدلى بها في بعض المقابلات إثر صدور "ليلة العراف" تباعاً في أميركا ومن ثم في أوروبا تبدو كأنها جزء من الرواية تابع لها، أو كأن أوستر يستكمل السرد بطريقة أخرى تفرضها متطلبات العمل الكتابي انما بصيغة مقابلة هذه المرة: "كنت في شهر العسل عام 1982 مع زوجتي سيري عندما قدم لي ناشري الفرنسي دفتراً مميزاً أراده هدية زواج. تصفحت اوراقه البيضاء في هدأة الغرفة ورأيتني منصرفاً في داخله الى عالم الكتابة بعد أن أخذني من عالمي الواقعي". وأما حال الهشاشة الوجودية فقد عاشها أوستر طوال سنوات متسكعاً فوق صفحات الكتب، وقارئاً بنهم لا يسد مختلف النصوص، وخائباً من دون أن يفقد حسه كاتباً بعد أن كانت سبع عشرة دار نشر قد رفضت ثلاثيته النيويوركية الشهيرة قبل أن تجد طريقها الى شبه مكان كلاسيكي في أدب الحداثة، وقبل أن تبتاع جامعة عريقة صناديق مخطوطاتها من حيث هي إرث ذو شأن. وبالطبع قبل أن يلتقي بسيري عبر نظرة حاسمة ذات مفعول سحري دائم السريان منذ أكثر من عقدين. يقول أوستر أيضاً انه تلقى في العام 1989 من السينمائي الألماني فيم فاندرز رسالة بالغة التهذيب قال فيها: "انه قرأ كل كتبي وانه يتمنى أن يعمل معي حول فيلم. أراد فيم أن ترتكز القصة على شخصية فلتكرافت من رواية هاميت. دونت الكثير من الملاحظات، غير ان العمل لم يستكمل لأسباب تمويلية. بقيت الفكرة تراودني تماماً مثل فكرة دفتر الملحوظات". كتابة سيناريو استناداً الى رواية ويلز كانت بدورها تجربة حاولها أوستر بناء على طلب وكيله لأسباب مالية. "الأفكار لا تضيع، يقول أوستر، وليلة العراف هي خليط من كل تلك المواضيع التي ساكنتني طويلاً". تقيم هذه التصريحات الدليل المشبع على أن "ليلة العراف" هي في جوهرها سيرة ذاتية، إنما ليس لبول أوستر النيويوركي المقيم في بروكلين، وليس لبول أوستر الآخر أي الروائي المقيم فيه وفقاً لما صرح به يوماً، بل للفعل الكتابي وكيميائه الداخلية وتفشيه في أفكار ومصائر الشخوص المتعددة التي يولدها داخل المغامر المرتحل خارج الواقع في آفاق بياض الصحائف سعياً، عبر تسويده بالفعل الكتابي، الى اعادة تمثيل ذلك الواقع تمثيلاً هو أقرب الأمور الى محاولة فهمه ومقاربته ومعاينة طبيعته التي لا تني تتبدى خلل الكتابة اكثر ما تكون بعداً عن الواقع ذاته. يبدو بول أوستر عبر هذه القراءة لروايته الأخيرة موغلاً في مغامرته الحداثية من دون تخل عن إرث الحداثة ذاتها. إن تشابك جذور حكاياته بمرجعيات متنوعة بل ومتناقضة، واستخدامه المتواصل لتقنيات سردية متجددة أبرزها في "ليلة العراف" تثبيت الكثير من الهوامش المسهبة التي وإن بدت شكلاً على هامش المتن، فإنها تركت انطباعاً ثابتاً بتوازن مستقر وانسجام متصل مع صلب المتن إياه، ومثابرته الراسخة في مجمل اعماله على استبصار مرآة الفعل الكتابي عينه والاسترسال في مكابدته قدراً ومصيراً بل وملاذاً لكينونة هشة، كل هذا يسهم في إمكان اعتبار أوستر كاتباً متفرداً في متاهة فريدة يضيء ليلها نجم يستضاء بنوره هو نجم الكتابة، بل فعلها الفريد. Paul Auster, La nuit de lصoracle, Actes Sud, 2004.