صدر قرار مجلس الأمن الرقم 1645 ليرضي شيعة العراق وأكراده معاً، إذ تضمن الفيديرالية وتجنب في الوقت نفسه قانون إدارة الدولة الموقت. غير ان الأكراد صعّدوا سقف مطالبهم منذ سقوط صدام حسين حتى يحصلوا، على الأقل، على الحد الأدنى، أو ما يسمونه بالخط الأحمر، وهو الفيديرالية. وحصول الاكراد على فيديرالية يقتضي البساها ثوباً دستورياً وحقوقياً. وهذا يعني ان رئيس اقليم كردستان لا يكون رئيساً للعراق. أي لا يجمع رئاستي المركز والاقليم، ليكون النظام فيديرالياً حقاً. لكن إذا اختار الأكراد البقاء في عراق موحد وهو أمر تتعصب ضده النخبة الثقافية الكردية وتصعد لهجتها في انكاره، فمن حق بارزاني أو طالباني ان يكونا رئيسين للعراق. ولكن هل يمكن ان يكون أي من الزعيمين الكرديين، رئيساً للعراق؟ الجواب حتى الآن هو: لا، إذ يوجب الوضع القانوني للفيديرالية ان يكون أحدهما رئيساً لاقليم كردستان، وبالتالي لا يجوز للثاني أن يكون رئيساً للعراق فيجمع الأكراد رئاستين معاً في وضع فيديرالي. من المسؤول عن هذا الخطأ غير المقصود؟ إذا أبقينا على التقسيم "العرفي" الذي ظهر به العراق اليوم، أي رئيس سني ورئيس وزراء شيعي فإن الأمر ربما يظل هكذا من دون تغيير. وسيكون من الأسوأ ايضاً اعتبار حقيبة الخارجية من نصيب الأكراد دائماً، كما سيكون من الأسوأ اعتبار حقيبة النفط من نصيب الشيعة وحقيبة الداخلية من نصيب السنة. فإذا كانت الديموقراطية هي ضمان حقوق الجميع، فإن التداولية السياسية والوزارية هي من حق الجميع ايضاً. لقد كان مطلب الفيديرالية هو ضمان حق الأكراد، وهو مطلب مشروع يحمي العراق من التقلبات والأزمات والتوترات والعنف أيضاً. لكن الشروع بحماية الفيديرالية بطرق تعطي القومية الثانية سكانياً حق توجيه القومية الاولى للسكان ونقض ارادتها وقرارها هو ببساطة أمر غير دستوري. لذلك شكلت الفقرة ج من المادة 61 مشكلة بين الطرفين، وجاء قرار مجلس الامن ليزيل هذه المشكلة ويفتح افقاً جديداً لتأكيد شعور الأكراد بضمانات جديدة. إن الضمانة الأوفر حظاً هي فتح إمكان رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء أمام الاكراد بفتحها أمام الجميع وعدم جعل ما حدث في مطلع هذا الشهر عرفاً أو سابقة أو مرجعية. يستطيع الكردي أن يكون رئيساً للجمهورية كما يستطيع ذلك الشيعي والسني والمسيحي والتركماني وغيرهم من سكان العراق. كما يستطيع ان يكون أي من هؤلاء رئيساً للوزراء أو وزيراً للخارجية أو الداخلية أو النفط أو الدفاع أو أية وزارة اخرى. نستطيع طبعاً أن نعتبر الشيعة والأكراد خاسرين باختيارهم، ذلك انهم وقعوا قانون الدولة الموقت ووضعوا ترتيبات المرحلة الانتقالية وتقسيماتها بأنفسهم. وجاءت النتائج الحالية التي لم يرضَ عنها الشيعة ولا الأكراد نتيجة لتسرع الطرفين وعدم ادراكهما التطورات في المستقبل، لذلك يمكن معالجة كل هذه النواقص في الفرصة المقبلة، وهي الفرصة الأخيرة التي يجب على الجميع اقتناصها لتصحيح الأوضاع وليس لزيادتها سوءاً، أي ألا تحتكر القوى الست مجمل العملية السياسية والحكومة ومؤسساتها وتعتبرها حقاً مقطوعاً لها. إن توسيع المشاركة السياسية وتوزيع الوظائف العامة على الجميع ألاّ يكون فرصة للأحزاب نفسها لتوسيع وجودها في هذين الحقلين، وإنما توسيع العملية السياسية لتشمل جميع العراقيين، بمن فيهم المنفيون الذين أقصوا عن الوطن ومن العودة اليه للمشاركة في حياته السياسية والعملية وهم قرابة ثلاثة ملايين عراقي. إن الفرصة المقبلة هي انعقاد المؤتمر الوطني العام في الشهر المقبل إذا لم يؤجل. ويرأس لجنة الإعداد له سياسي كردي قدير هو فؤاد معصوم من "الاتحاد الوطني الكردستاني"، وللمناسبة يستطيع انوشروان مصطفى نائب زعيم "الاتحاد الوطني" بقيادة طالباني ان يعتبر أن الأكراد حازوا لقب الرئيس في شخص معصوم مرتين، مرة وهو رئيس لجنة الدستور، وفي هذه المرة الحالية، فمعصوم صرح قبل أيام بأن الأكراد كانوا يطالبون طارق عزيز بأن يكون "لقب رئيس" يوماً ما من حصة الأكراد، حتى لو كان رئيس فريق كرة قدم، وهي حقيقة عانى منها الأكراد الذين يشعرون عن حق انهم كانوا مواطنين من درجة أدنى في نظر الحكومات السابقة. سيكون إلى جانب رئيس اللجنة 45 عضواً غالبيتهم من اعضاء مجلس الحكم المنتهي والوزراء السابقين، وسيكون من مهمات اللجنة توجيه الدعوة ووضع جدول الأعمال وعقد المؤتمر. واذا كان العراقيون يريدون الاستفادة من أخطاء الماضي، فإن على هذه اللجنة ان تنتبه الى أخطاء مؤتمر لندن للمعارضة ولا تضع قوائم حزبية بحيث يكون على المستقلين ان يُحسبوا على هذا الحزب أو ذاك لمصادرة استقلاليتهم. كما ان الحزبيين ليسوا هم وحدهم المواطنون في العراق، وإنما التجمعات الثقافية والعلمية والاقتصادية والنخب المتعددة من المجتمع العراقي. المؤتمر المقبل يجب ألا يكرر أخطاء العام الماضي، فالنسب والحصص لا تعطي السلطة بقدر ما تحققها النوعية والكفاية والاتفاق على أن من حق الجميع تداول السلطة وفق آلية، فلا تكون التوافقات التي ذبحت العمل السياسي من الوريد الى الوريد، في عدادها. يمكن رفع توصية من خلال هذا المؤتمر بأن يكون منصب الرئيس ومنصب رئيس الوزراء وكل المناصب مفتوحة لكل القوى السياسية عربية أو كردية أو آشورية أو تركمانية، اسلامية او مسيحية، دينية او علمانية مع النص على تمثيل الجميع في أية تشكيلة حكومية من دون حصص او نسب، وبذلك يتجنب العراقيون الاحتقانات التي يسببها الاصرار على النسب والحصص. فماذا يضير العراق اذا كان الرئيس كردياً مرة ورئيس الوزراء مسيحياً أو تركمانياً في المرة ذاتها. أو يكون الرئيس سنّياً ورئيس الوزراء سنّياً أيضاً سواء كان كردياً أو عربياً أو تركمانياً، أو يكون الرئىس شيعياً ورئيس الوزراء شيعياً أيضاً، طالما ان هذه المناصب ستلتزم دستورياً بأن تكون ممثلة لجميع العراقيين؟ يحتاج تحقيق ذلك طبعاً الى بناء الثقة وإلى بناء ثقافة دستورية حاملة لهذا الاتجاه، كما يحتاج الى رأي عام حافظ لهذه الثقافة، والى تجارب متكررة تؤمّن الاستقرار والتداول في شكل سليم. وحتى الآن لا تبدو اتجاهات المؤتمر الوطني العام المقبل واضحة. فمنذ سقوط نظام صدام حسين حتى الآن تجري بلورة الأمور في غرف مغلقة واتصالات حزبية فردية أو شبه جماعية. أي ان العملية السياسية العراقية الجديدة لا تزال معزولة عن مجتمعها ومواطنيها وشعبها، وهو مرض خطير سببه انانية القوى السياسية وحبها للاستحواذ والسيطرة واعتناقها لمفهوم الدولة والسلطة كقوة ومنصب ونفوذ وليس كوظيفة ذات طابع أخلاقي ومسؤول وخدمي. وسيكون من الخطر والخطأ الفادح ان يكون المؤتمر الذي ينتظر ان يشارك فيه أكثر من ألف شخص، مغلقاً على مجموعة القوى السياسية ذاتها ومحاولة فرض أجندتها ومطامحها عليه. فالمؤتمر من المفترض أن يكون عاملاً مساعداً على تخفيف الاحتقان السياسي، وفك العزلة عن مؤسسات النظام الجديد التي عانت مثل مجلس الحكم المنتهي من العزلة والدوران على نفسها وتمثيلها لذاتها فحسب. لم يتعود مسؤولو النظام العراقي الجديد العمل بطريقة جديدة تجعل من عملهم عملاً علنياً خاضعاً لإرادة المواطنين حتى لو حدث ذلك في دوائر أضيق من طموحات العراقيين الحساسين حيال أية سرية باعتبارها مؤامرة، وهم لا يعطون ثقتهم لترتيبات تجري بعيداً عنهم، ويتحولون الى مشكلة حقيقية في وجه هذه الترتيبات باعتبارها تطاول مصالحهم وارادتهم وقرارهم. واذا ظل الإعداد للمؤتمر يدور في الكواليس، فإن كثيراً من أسباب فشله سترافقه منذ الآن. يشعر الشيعة انهم حُجموا أيضاً، بحيث كثرت تساؤلاتهم - حتى لدى الاميركيين - عما إذا كانوا أصبحوا ضحية أم لا؟ غير ان الجميع متفقون على اعطاء وقت كاف للحكم على حكومة الوضع الحالي، بانتظار المستقبل الذي ينتظر تحقيق المعجزة الكبرى، وهي الانتخابات إذا أجريت في شكل ديموقراطي مع بعض التجاوزات، وليس التجاوزات باعتبارها انتخابات. غير ان مسؤولاً بريطانياً صرح لصحافيين عرب بأن العملية الديموقراطية ماضية في العراق، وان الانتخابات ستجرى وفق ما هو مقرر، وهو ما يجعل من خيار الانتخابات الخيار الأمثل لحل الأزمة السياسية. وهذا يعني ان القوى السياسية كلها يجب ان تأخذ الأمور جدياً وتتحمل مسؤوليتها في انجاح الانتخابات والرقابة على الحكومة الحالية التي سينتهي وجودها حال ظهور نتائج ارادة العراقيين هذه المرة. إن القوى السياسية الكردية والشيعية مدعوة لأن تعتبر أن طرح الحد الأقصى سيكون تهديداً للآخرين، لأنه لا يتحقق. وليس هناك معنى للتشدد ثم التراجع الى المطلب الواقعي. فلماذا لا يطرح الجميع مطالبهم بواقعية، أي ان يروا مطالب الآخرين ايضاً. فالشراكة في الوطن حقوق وواجبات، على القدر نفسه لدى الجميع. ومن هنا صاغ هوبز مفهوم "المواطن" الذي أصبح حجر الزاوية في ديموقراطية النظام الدستوري والحقوقي. فإذا كان حق الكردي باعتباره مواطناً في العراق يضمن حقوقه السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فسيكون الكردي رئيساً لجمهورية العراق مستمداً من هذا الحق وليس من غيره، وكذلك ستكون حقوق الجميع في المناصب والادارات، طبعاً إلى جانب الحقوق الاخرى غير المنصبية، مقرّة دستورياً وآلياً، وهذا هو الجوهر العام للديموقراطية. * كاتب عراقي مقيم في لندن.