نقرأ كتاب سمير قصير "تاريخ بيروت" الصادر حديثاً بالفرنسية عن دار فايار باريس وكأننا نقرأ رواية. فهو لا يجذب القارئ فقط بأسلوبه الأدبي والشعري أحياناً، بل بعنايته المفصلة بالتاريخ الاجتماعي والأدبي والهندسي والفني لهذه المدينة، إلى جانب الأحداث السياسية، تتخلل ذلك كله أخبار طريفة متنوعة، ما يزيل عن التاريخ جفاف العلم من غير أن يفقده دقته. فقصير يستند إلى ما عُثر عليه من آثار، إلى ما رواه شهود عيان، إلى ما كتبه علماء أو أدباء آخرون أو سجلته الصحف، فيساهم تنويع الأخبار والمراجع في ما يشدّ القارئ إلى الكتاب من أولى صفحاته إلى آخرها. ينقسم كتاب سمير قصير إلى ستة أقسام، إضافة إلى المقدمة والخاتمة: بيروت ما قبل بيروت، تغيير المستوى، زمن النهضة، عاصمة الانتداب، عاصمة العرب الكوزموبوليتية، مدينة كل الأخطار. يستهل الكتاب بسنوات الحرب الأهلية 1975-1990 ليعود بعد ذلك في 680 صفحة إلى عرض تاريخ مدينة بيروت منذ ستمئة ألف سنة قبل الميلاد وحتى يومنا هذا. وقد يتساءل القارئ لماذا بدأ قصير الكتاب بكارثة الحرب الأهلية قبل أن يستعرض تاريخ المدينة منذ أقدم العصور: ليبيّن أن هذا التاريخ الذي سيعرضه حمل في الكثير من عهوده بذور هذه الحرب؟ لكي تبقى ذكرى هذه الحرب المدمرة ماثلة أمام العيون، لعل اللبنانيين يتعظون؟ لأن أول ما تقترن به بيروت اليوم هو هذه الحرب وآثارها، الظاهرة منها والخفية؟ أياً كان السبب، فما لا شك فيه هو حب قصير لهذه المدينة التي يتتبع نموها من بلدة صغيرة جداً على شاطئ المتوسط لتصبح ما أصبحت عليه قبل اندلاع الحرب الأهلية، وذلك بفضل حيويتها، ديناميتها، قدرتها الفذة على استقطاب، لا العناصر المدمرة وحدها، وإنما، وقبل كل شيء، العناصر البناءة الخلاقة. طبيعي أن يبدأ قصير تاريخه ببيروت أيام الفينيقيين، ثم بيروت في عهد الفراعنة، فبيروت الرومانية ومدرسة الحقوق فيها، قبل أن تصبح بيروت المسيحية، ثم بيروت بعد الفتح الإسلامي وبيروت أثناء الصراع بين الصليبيين والعرب المسلمين، إلى أن حلّ الاحتلال العثماني. في تاريخ بيروت العثماني لا يتوقف قصير طويلاً عند سيئات هذه الفترة وما رافقها من ظلم، بقدر ما يفصل النواحي الإيجابية، مركزاً على نمو المدينة وتطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. في فصل كامل، مثلاً، يتناول غزو ابراهيم باشا للبنان والفوائد التي جنتها بيروت ومدن لبنانية أخرى من هذا الغزو. من هذا القبيل حرص ابراهيم باشا والأوروبيون على الحدّ من انتشار الأوبئة، ما أثار ضرورة إنشاء مبنى للحجر الصحي. فبما أن المسلمين في كل من دمشق وطرابلس، أكبر مدينتين في المنطقة، رفضوا أن يكون هذا المبنى عندهم، شُيّدت "الكرنتينا" في بيروت، فأصبحت المرفأ الذي رست عنده البواخر، والمرفأ الذي استورد وصدّر، ما اضطر الدولة العثمانية إلى بناء مرفأ جديد، وامتدّت المدينة خارج أسوارها القديمة، وازدهرت تجارتها، وتحوّلت بيروت إلى عاصمة اقتصادية إلى جانب كونها مركزاً تجارياً. فبدأت بيروت تخطو خطواتها الأولى نحو المدينة التي تحوّلت إليها بعد ما يقلّ عن قرن. ويرينا قصير كيف أدى الازدهار المادي إلى ازدهار فني وثقافي. فالدولة العثمانية مهرت بيروت بالكثير من المباني الرائعة الهندسة التي يدهشنا جمالها إلى اليوم، من مبنى البلدية إلى السرايا الكبير ومدرسة الصنائع، مثلاً. أما الازدهار الثقافي فيبين قصير كيف جاء من طريق المبشرين، ولا سيما الأميركيين والفرنسيين. فالمنافسة في ما بينهم لاستقطاب أكبر عدد من اللبنانيين أدت إلى تأسيس المدارس والمستشفيات ومطبعتين والجامعتين الأميركية واليسوعية. فأذن ذلك ببدء نهضة أدبية وفكرية، يعطينا قصير نبذة عن أهم رجالاتها في تلك الحقبة، ولا سيما أحمد فارس الشدياق الذي لا يخفي قصير إعجابه بالرجل الذي ولد مارونياً ثم اعتنق البروتستانتية وبعدها الإسلام. وحين نشب الخلاف بين المسيحيين والمسلمين حول مكان دفنه وطقوسه، نفذت وصية الأديب: دفن في مدفن صغير في الحازمية يعلوه هلال، وإلى جانب حاكمين عثمانيين مسيحيين. فيعلّق قصير: "يستطيع الإنسان العظيم أن ينال الشهرة والمكانة بوسائل مستقلة عن حياة الجماعة. لم يستطع الرجل الذي خلقته النهضة أن يغيّر المجتمع تغييراً كاملاً، إلا أنه تمكن من أن يفرض عليه وجوده". ص 198. ولا يهتم قصير بأدباء العصر وحدهم، وإنما أيضاً بنسائه ورجاله الذين أسهموا في التطوير التجاري والاقتصادي والثقافي، والتفت بخاصة إلى رجالاته الذين اهتموا بمعالجة ما يواجه الشعب من مشكلات وبدرء المصائب عنه. مثلاً، حين أحس البيروتيون بتضعضع الدولة العثمانية واستفزتهم سياسة التتريك التي انتهجها حزب الاتحاد والترقي اجتمع سليم سلام وبترو طراد وأيوب ثابت وأسسوا جمعية للاهتمام بالإصلاح 1913، ووضعوا برنامجاً مفصلاً، حال دون تنفيذه الانقلاب في اسطنبول. لم تفرقهم انتماءاتهم الدينية، ولم يفكروا بمصالحهم الشخصية. نمط الحياة الأوروبية ولا يغيب عن هذه الفصول من الكتاب التطور والتغيير في حياة البيروتيين اليومية إثر انفتاحهم على نمط الحياة الأوروبية. فبدأت تشيع الفنادق والمطاعم، واستوحت المنازل هندسة المنازل الإيطالية، وأصبح اللباس أوروبياً، وكذلك الأثاث. وفي حرص قصير على موضوعية العالم يذكر أن هذا التطور لم يقضِ تماماً على الصراع الطائفي بين السكان، تجلى في الشجار والتضارب، وأحياناً نادرة جداً في القتل، يذكي ذلك كله قبضايات الأحياء والنازحون من الجبل حاملين معهم أحقاد صراعاتهم الدامية. ثم جاء الانتداب ولم يغفل قصير سيئاته. ويربط بين قضايا يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة بينها: فإصرار فرنسا على احتلال سورية كان بسبب حرص فرنسا على ضبط نزعة الاستقلال في المغرب العربي 310. وفي خضم الأحداث السياسية يرفه قصير عن القارئ بأن يذكر أن البيروتيين بدأوا "يعلقون" على خطوط شركة الكهرباء منذ أن تأسست في منتصف العشرينات. أو أن إضرابهم عن ركوب "الترام" احتجاجاً على ارتفاع سعر الكهرباء أدى إلى ظهور "السرفيس". مظاهر من حياتنا اليومية إلى الآن، لكننا لا نعرف متى بدأت ولماذا. كذلك يبيّن قصير أن اللغة الفرنسية أصبحت لغة التداول الرسمي والثقافي والمدرسي، وحتى اليومي، وأخذ عدد من أشهر الكتاب يكتبون باللغة الفرنسية. فقط الصحافة لم تستطع الفرنسية أن تدحرها. فهذه الصحافة والأدباء الذين استمروا يكتبون باللغة العربية كوّنوا ما سماه قصير ب"النهضة الثانية" في ثلاثينات القرن الماضي، فيبين قصير الدور الذي لعبوه في تجديد الفنون الأدبية واللغة العربية. وبدأت بيروت تصبح مركزاً للنشر العربي غير اللبناني أيضاً. ولم تتأخر الفنون التشكيلية عن اللحاق بركاب الفنون الأدبية في بيروت. إلا أن قصير فصّل أيضاً الحسنات الحضارية الأخرى التي طرأت على الشوارع والإنارة والصرف الصحي والبناء. فيتابع القارئ بشغف وصفاً للتفاصيل الهندسية التي ميزت مباني بيروت في العهدين العثماني والفرنسي، وخطوات تصميم ساحات بيروت وشوارعها وتوسيعها وتحسينها وتغييرها. فيعرف، مثلاً، أن النافورة التي يراها اليوم في حديقة الصنائع نقلت إليها من ساحة البرج حيث كان نصبها العثمانيون. كذلك وصف الكاتب ازدهار قطاعي الاقتصاد والعلم، فكثرت الشركات والمكاتب وازداد عدد الأطباء والمحامين والمهندسين ازدياداً ملحوظاً، وازدهر قطاع الملاهي والترفيه، فشاعت المسرحيات والحفلات الموسيقية وأنواع الرياضة، وكثرت دور السينما، وشيدت الفنادق الفخمة لتستوعب عدد السياح المتزايد. ويرينا كيف أثر ذلك في عادات البيروتيين وملابسهم. كذلك أسهم دخول البنات الجامعات وامتهانهن المهن المختلفة في تغيير المجتمع البيروتي تغييراً جذرياً وفعلياً. نادراً ما يلتفت مؤرخ إلى دور المرأة في تنمية مدينة. أما قصير فيخص المرأة اللبنانية بفصل 444 - 449 مؤكداً أن نساء بيروت جلبن الى المدينة أثمن ما قدمته الى محيطها العربي: مثال الحداثة المتجلية في الحياة اليومية، على رغم ما رافق ذلك من صعوبات: سافرن، عملن، ارتدين أحدث الأزياء، اختلطن بالرجال وخرجن معهم. ومن الطريف أيضاً إشارة قصير إلى أن المصالح الاقتصادية الفرنسية اللبنانية، بما فيها المسلمة، بدأت تتوافق فيما بدأت العلاقة السياسية تتدهور 333. فيصف كيف قويت المعارضة للانتداب، وبدقة يحلل الأسباب التي مكّنت اتحاد اللبنانيين من المطالبة بالاستقلال: أسباب تبدو متضاربة إذ جاءت، من ناحية، نتيجة تشجيع الانتداب، ومن ناحية أخرى نتيجة مقاومة هذا الانتداب ص402 - 403. كما أن ازدياد الاتصال بالفكر الأوروبي أدى إلى تحديث السياسة، فبعد أن كانت مقتصرة على الزعماء التقليديين بدأت تظهر الأحزاب في أوساط المثقفين، فيعرض قصير لأهم ما قامت به هذه الأحزاب من تحديث. ونظرة المؤرخ العالم المحايدة تطالعنا أيضاً من عرضه لحقبة الاستقلال. ومن ابرز ما يحلل الكتاب ص530 - 553 العلاقات بين الطوائف اللبنانية، علاقات اجتماعية تعمل على التآلف والتقارب، فيما يرسخ الانفصال كل من المدارس وقوانين الأحوال الشخصية وقوانين الانتخاب والإدارة، فيما سمي ب"الطائفية السياسية"، مع أن قصير يبين أن الدولة العثمانية والانتداب الفرنسي من بعدها كانا كرّسا ذلك كله. وقد اختلطت بهذه الطائفية وفي داخلها المحسوبية والزعامة اللتان أضعفتا المجتمع السياسي اللبناني. ويحلل سياسة الدولة اللبنانية في علاقاتها الداخلية بشعبها، وفي علاقاتها بالجوار العربي وبأوروبا خلال عهود رؤساء جمهوريتها المختلفين. وإذ شكلت حرب 1967 نقطة تحول في العالم العربي، يشير قصير إلى تأثير هزيمة 1967 في المسرح والصحافة والفكر في بيروت، ويحلل تطورات السياسة العربية بعد هذه الحرب وتغيراتها وتأثيراتها في الدولة اللبنانية وسياستها، وفي العلاقات بين الوجود الفلسطيني المسلح ومسلمي لبنان، وتكاثر الغارات الاسرائيلية، ما أفضى إلى ازدياد الشرخ بين اللبنانيين وبين الدولة والمقاومة، لتنتهي بالحرب الأهلية في 1975. ولكن قبل أن تندلع هذه الحرب، يصف قصير مفصلاً مظاهر التطور الاجتماعي ولا سيما ذلك الاقتصادي الذي رافق استقلال لبنان فجعله "بلد العسل واللبن" وبيروت "مدينة الترف واللذة" ص 415. ولكن لم يرافق هذا الازدهار الاقتصادي تنظيم إداري، فيعرض الكاتب للمحسوبية والفساد اللذين لازما عهود الاستقلال وتجمع القدرات المالية والاقتصادية والصناعية في أيدي نخبة صغيرة متصلة بالمتنفذين السياسيين. ومن نتائج هذا الازدهار الاقتصادي أن أصبحت بيروت إحدى محطات اتصال الاقتصاد العالمي، ونمت الطبقة المتوسطة واتسعت وقويت، وازدهرت السياحة والصناعة على رغم عدم حمايتها نتيجة ضغط التجار. ولم تقتصر جاذبية بيروت على تطورها الاقتصادي وإنما تعدته إلى نوعية الحياة فيها، والتي لم تستطع أن توفرها أية مدينة أخرى في الشرق الأوسط، ولا حتى القاهرة. استقطبت سكان البلاد العربية المدارس والجامعات والمستشفيات والملاهي والمتاجر التي ازدادت اتساعاً وتنوعاً، كما استقطبت المصارف والفنادق والملاهي السياح ورجال الأعمال، ومناخ الحرية الشعراء والمفكرين والسياسيين العرب الذين أمنت لهم بيروت حرية الفكر والنقاش والنشر التي منعت عليهم في بلادهم، وأصبحت صحافة بيروت "الصحافة العربية" التي عكست مختلف الاتجاهات السياسية العربية. ويتضح سبب اهتمام قصير بوسط المدينة اهتماماً بالغاً حين نصل إلى آخر فصول الكتاب، إذ يعرض لإعادة بناء الوسط. يؤكد قصير أن كل النشاطات الاقتصادية والتجارية كانت تتركز قبل الحرب في وسط مدينة بيروت، فيما كانت كل الأحياء الأخرى أحياء سكنية خالصة. وساحة البرج كانت وسط هذا الوسط، نابضة بالحياة ليل نهار: منها كانت تنطلق سبل المواصلات إلى مختلف المناطق، فيها دور السينما والمقاهي والمطاعم والفنادق و"السوق العمومي"، وسوق الصاغة والأجبان واللحوم والخضار، الخ. حتى عندما ظهرت أبنية البطون لم تستطع أن تشوّه، قبل منتصف القرن العشرين، بيوت بيروت بحجرها الرملي الجميل. ويشير قصير إلى أن بقاء الأزقة الضيفة خلف مباني الوسط الجديدة وشوارعه الواسعة بيّن اللحمة بين بيروت الماضي وبيروت الجديدة. وأهم من هذا، أن هذا الوسط جمع، قبل الحرب الأهلية، بين مختلف المذاهب والأديان، مختلف المهن والحرف، مختلف الطبقات الاجتماعية. ولعل أهم ما يتعلق بالهندسة الفصل الذي يفصّل فيه قصير ص495 - 526 خطط المهندس إكوشار لتصميم بيروت منذ 1943 ومجدداً في 1961. تصميم، لو نفّذ، لجعل من بيروت "إحدى أجمل مدن العالم" على حد قوله 495، بدلاً من الفوضى والبشاعة المعمارية اللتين نتجتا من الذهنية التجارية والمضاربات العقارية ورفض السكان تطبيق القانون ولا مبالاة الدولة، إن لم يكن تواطؤها. الحرب الأهلية وفي صفحات طويلة 599 - 619 يحلل قصير مختلف الأسباب التي أدت إلى الحرب الأهلية، ثم المغالطات والتدخلات اللالبنانية التي رافقتها، من فلسطينية وسورية واسرائيلية وأميركية وعراقية وليبية، واصفاً السرقات والنهب والخطف والقتل والتدمير. وينهي كتابه بخاتمة "تكون وقد كانت" يبيّن فيها كل السيئات الإنسانية والاجتماعية والهندسية والاقتصادية التي رافقت إعادة بناء الوسط الذي دمرته الحرب، فجاءت إعادة بناء بيروت "ضد بيروت" ومحواً لماضيها وذاكرتها. ص 634 وكالعادة، يلتفت قصير إلى المجتمع اللبناني ليشير إلى الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وازدياد الفساد والرشوة والمحسوبية، والإطاحة بحقوق الإنسان وبالحرية التي سلبتها الاستخبارات السورية واللبنانية. ولكن على رغم ذلك استمرت مقاومة النظام البوليسي المفروض من سورية. وينهي قصير كتابه بأمل تأمين الديموقراطية والسلام الفلسطيني، الشرطين اللذين يسمحان لبيروت بأن "تكون بعد ما قد كانت". يتميز اسلوب الكاتب بالنفحة الأدبية، والشعرية على رغم موضوعيته ونزعته المنهجية المتينة. يصف، مثلاً، وصول جثمان جبران من الولاياتالمتحدة إلى بيروت وصفاً مفصلاً مفعماً بالعاطفة. ويضمن كتابه الكثير من المقتطفات الشعرية والأدبية في وصف بيروت، فضلاً عن أسلوبه الخاص. في وصف بيروت الثلاثينات يقول "إنها كانت مدينة في حديقة" أوحت مناظرها لوحات عمر أنسي وجورج سير ومصطفى فروخ. وفي وصف نهاية الحرب اللبنانية يكتب: "قلب عاصمة الشرق الكوزموبوليتية لم تبقَ سوى عاصمة الألم، يسهر عليها هيكلا الفينيسيا والسان جورج الفحمتين".